حين أقرأ أشعار المتصوفة يبدون لي أناساً أشبه بالملائكة الصالحين، فهم يحرّمون حمل السلاح ولا يدخلون في حروب أياً كانت هذه الحروب لأنها منافيه للعقل والروح، وهم "يمشون على الأرض هوْناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي إن زميلهم في المشي الحائط ! هم نحيفو الأجساد، يطؤون الأرض بأجسام خفاف تكسوها مرقعات بالية، وعلى ظهورهم اللباد والصوف، ولايتكلمون بصوت عال، يأخذون ما يعطى لهم متعففين لا جشعين، لا يملِكون من حطام الدنيا شيئاً، لماذا ؟ لكي لا يُملَكون ! ومع ذلك قلوبهم تخفق في الحب إلى حد العشق.. وهم في عشقهم لا يرون المحبوب بأعينهم ! كيف، قال أحدهم :
قلوب العاشقين لها عيونٌ – ترى ما لا يراه الناظرونا
وهم صادقون في ما يذهبون، والعشق حالة ملازمة لهم لها درجات عشر، من أبسطها : العلاقة وهي للمبتدأ، تليها درجات وإن شئت مرتبات، ومن أهمها السابعة وهي العشق، وهو الحب بعنفوان تعلوها ثلاث درجات : الثامنة التتيم وهي الخضوع لحضرة المحبوب، والتاسعة : التعبد، والأخيرة هي الخلّة وهي ترادف الحلول بين العاشق والمعشوق !
لأبي محمد المرتضى القاضي الشهرزوري (465 –511هج) خريدة في العشق الصوفي والتجلي، ينقل القارىء المتمعن إلى عوالم وأجواء الخيال الصوفي والعشق الإلهي في نقلات متفرد تختلف عن الغزل الصوفي الذي تتكر صوره ومعانيه لدى عموم الشعراء المتصوفة، فلنر ونتأمل بعض من رائعته :
لمـعـت نـارهـم وقـد عـســعـــس الـــلـــي - |
|
ل ومـــلَّ الـــحـــادي وحـــار الـــدلـــيل |
فتـأمـلـتـهـا وفـــكـــري مـــن الـــبـــي - |
|
ن عـلـيلٌ ولــحـــظ عـــينـــي كـــلـــيل |
وفـؤادي ذاك الـــفـــؤاد الـــمـــعـــنـــى - |
|
وغــرامـــي ذاك الـــغـــرام الـــدخـــيل |
ثم قـابـلـتـهـا وقـلــت لـــصـــحـــبـــي - |
|
هذه الـنـار نــار لـــيلـــى فـــمـــيلـــوا |
فرمـوا نـحـوهـا لـحـاظـــاً صـــحـــيحـــا - |
|
تٍ فــعـــادت خـــواســـئاً وهـــى حـــول |
ثم مـالـــوا إلـــى الـــمـــلام وقـــالـــوا - |
|
خلـــبٌ مـــا رأيت أم تـــــــخـــــــييل |
فتـجـنـبـتـــهـــم ومـــلـــت إلـــيهـــا - |
|
والـهـوى مـركـبـي وشــوقـــي الـــزمـــيل |
ومـعـي صـاحـــب أتـــى يقـــتـــفـــي الآ - |
|
ثار والـحـب شـرطـــه الـــتـــطـــفـــيل |
وهـي تـعـلـو ونـحـــن نـــدنـــو إلـــى أن - |
|
حجـزت دونــهـــا طـــلـــولٌ مـــحـــول |
فدنـونـا مـن الـطـــلـــول فـــحـــالـــت - |
|
زفـــراتٌ مـــن دونـــهـــا وغـــلــــيل |
قلـت: مـن بـــالـــديار؟ قـــالـــوا: جـــريحٌ - |
|
وأســـيرٌ مـــكـــبـــلٌ وقـــتـــــــيل |
ما الـذي جـئت تـبـتـغـي؟ قـــلـــت: ضـــيف - |
|
جاء يبـغـي الـــقـــرى فـــأين الـــنـــزول |
فأشـارت بـالـرحــب دونـــك فـــاعـــقـــر - |
|
ها فـمـا عـنـــدنـــا لـــضـــيفٍ رحـــيل |
من أتـانـا ألـقـى عـصـا الــســـير عـــنـــه - |
|
قلـت: مـن لـي بـهـــا وأين الـــســـبـــيل؟ |
فحـطـطـــنـــا إلـــى مـــنـــازل قـــومٍ - |
|
صرعـتـهـم قـبـل الـمــذاق الـــشـــمـــول |
درس الـوجـــد مـــنـــهـــم كـــل رســـمٍ - |
|
فهـو رســمٌ والـــقـــوم فـــيه حـــلـــول |
منـهـم مـن عـفـا ولـم يبـــق لـــلـــشـــك - |
|
وى ولا لـــلـــدمـــوع فـــيه مـــقــــيل |
ليس إلا الأنـفـــاس تـــخـــبـــر عـــنـــه - |
|
وهـو عـنـــهـــا مـــبـــرَّأ مـــعـــزول |
ومـــن الـــقـــوم مـــن يشـــير إلـــى وج - |
|
دٍ تـبـقَّـى عـلـيه مـــنـــه الـــقـــلـــيل |
ويرى المتأمل سلاسة وحسن سبك حكائي، ولغة وظفت للسرد توظيفاً خلّاقاً، تشد المتلقي وتجذبه الى عالم سحري علوي والى أجواء مترعة بالجلال والجمال وصدق الإحساس، ويرى فيها ابداع متجدد غير معرف لدى من سبقه .
وكان القاضي عمر ابن الفارض (1181- 1234م) الذي هجر القضاء كغيره من الذين يتنزهون من أن يقعوا في الخطأ الذي سيحسب عليهم إثماً، وأبو حنيفة النعمان (699-766م) رفض أصلا طلب الوالي يزيد بن عمر بن هبيرة الذي تسلم القضاء، وتحمل السجن والضرب وبقي مصرّاً على رأيه.. وابن الفارض حجّ مكة وبقي معتزلاً الناس في أحدى المغارات لخمسة عشر عاماً لا يكلم أحداً، وفاضت قريحته بأروع الأشعار ولُقّب بحق سلطان العاشقين ! وعندما عاد إلى القاهرة اعتكف في جبل المقطّم معتزلا الناس.. وحدث مرة أن نزل من الجبل ماراً بأحد الأسواق، ووجد الناس في عزف ونفخ وغناء ورقص يحتفلون مبتهجين بزفاف، وقد أرادوا أن يتوقفوا هيبة له، فأشار لهم بالاستمرار فخلع عِمته ونزع جبته ونزل وسط الناس يرقص ويغني ويفرح لفرحهم !
دفن ابن الفارض في جبل المقطم المطل على القاهرة بمثل ما دفن ابن عربي (1164 – 1240) في جبل قاسيون المطل على دمشق !
قال أحدهم في جدلية العلاقة بين الروح والجسد :
وجمال الجسم يفنى مثلما تفنى الزهورْ
وجمال الروح يبقى زاهراً مرّ الدهورْ
ومن جميل ما قاله الجواهري (1899 – 1997) في هذا المجال في رثاء زوجته أم فرات :
تحيةً لم أجدْ من بثِّ لاعجها – بُدّاً، وإن قام سدّا بيننا اللحدُ
بالروح ردّي عليها إنها صِلةٌ – بين المحبين ماذا ينفعُ الْجسّدُ
أتمنى أن يعشق الناسُ بعضهم عشقاً روحياً صوفياً حتى إذا ترسّخ حينئذ أن يحبّوا بعضهم جسدياً بعنفوان المراهقين، واسمحوا لي أن أقول أن أيّ حب طارىء سريع معرض أن يعطب بسرعة، كما هو معروض في مواقع التعارف والتزاوج !.. ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة !
يسود في أيامنا أنواع من الارتباط، من قبيل "المسيار" والموقت، وما الى ذلك كثير، من صفقات يقرها ويروجها المتدينون ففي الأماكن الدينية تروج علاقات تجارية أفرزتها الحياة المتدنية لقطّاع واسع من النساء الأرامل والعوانس اللائي أضرّ بهن الفقر وأصبحن تحت ظروف العوز والفاقة يبعن أجسادهن تحت ما يسمى "الزواج الموقت" الذي غدا شائعاً في ظل سطوة الإسلام السياسي، وأصبح أصحاب العمائم أبطالاً لمشاهد مثل هذه الزيجات فهل هناك من ينكر من هؤلاء ؟! ولمَ النكران مادامت "المتعة" حلالاً زلالاً . !!
لقد ضرب المتصوفة المثل السامي في الزهد والحب الإلهي والمسالمة وحب الناس إنسانياً، فهم بحق أحباب الله، فأين منهم أدعياء الدين الذين غرقوا بملذاتهم بأموال السحت ؟!
21نيسان/أبريل 2022