أسعد محمد علي: رهافة الموسيقى وخبرات الأديب ( 1 )

2017-12-03
يبدو الحديث عن الراحل أسعد محمد علي، حديثاً منتمياً بكامله لايقاع الألم، فهو رحل دون أن يتم رحلته التي انتظرها طويلاً في المانيا، اذ كان يأملها ممراً لمشاريع ثقافية لاسيما وانه حصل على "تأشيرة" تعتبر شبه مستحيلة لعراقي (1). وموته بعيداً عن وطنه أعاد التذكير بمحنة العراقي في بحثه اليائس عن مكان تحترم فيه إنسانيته، كما إن رحيله كشف خسارة لا تعوض، فهو لم يكتف في أن يكون موسيقياً ماهراً لجهة الخبرات الحرفية كعازف بارع على الفيولا وأستاذا لها، وإنما انفتح على فضاء الموسيقى بوصفه فضاء معرفياً وثقافياً، مثلما لم يكن مثقفاً عادياً نمطياً يفهم الثقافة في النتاج المكتوب وحسب، ناهيك عن شفافيته ووفائه وتواضعه الجم وحرصه على إدامة العلاقة بأجيال الثقافة العراقية المتتابعة .
 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/d2785597-6bb4-47e8-8b67-8351d3e61edd.jpeg 
                  الراحل أسعد محمد علي الثاني على يمين الصورة عازفا على الفيولا في حفل موسيقي بعمّان 
 
 عنى الراحل محمد علي بموضوعة ( الأدب والموسيقى ) لا في كتابه الشهير الذي حمل العنوان ذاته وطبع في جزأين وحسب، بل وحتى في تمثله النقدي للعروض والنتاجات والظواهر الموسيقية، كما امتدت موضوعته الى عملية الروائيين "الضفة الثالثة" و"الصوت والدوي"، مثلما راح يقرأ النتاج الادبي وفق قراءات نقدية تستقي منهجها من بناء الأشكال الموسيقية وإضاءة المنظورات المشتركة بين ما هو أدبي وما هو موسيقي .

 في أواسط ثمانينات القرن الماضي كنت أتابع ما يكتب الراحل محمد علي بشغف في صحيفة "الجمهورية"، حتى كانت فرصة اللقاء به في مبنى عتيق اتخذته الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية مقراً في منطقة ( القصر الأبيض ) وسط بغداد، حين كان مديراً للفرقة التي تعتبر من أعرق مثيلاتها في المنطقة وكان تأسيسهاعام 1948 علامة موسيقية وثقافية رفيعة، ولطالما أصبحت مثار تندر الأميين من وزراء الثقافة والأعلام العراقيين، والذين كانوا يرون فيها ( وجاهة غربية ) فائضة عن حاجة الأمة العربية يوم كان الحكم "قوميا" عرفيا، وحيث لا مديح للقائد في نتاجها ولا ثناء على عبقريته في زمن الديكتاتور .

سألت الراحل: أيعقل أن يكون هذا المبنى الرطب والمعتم الأرجاء والمهدم العتبات والمجاور لـ( الأمن العامة ) مقراً لعلامة رفيعة في الثقافة العراقية ؟ وكعادته في التهرب بلباقة من أسئلة لا أجوبة لها، مثل سؤالي، راح يحدثني عن المعنى الذي تختصره يد المايسترو وهي تحمل ( عصا القيادة ) المتناهية الدقة وحركتها التي تفصل ما بين النغم الرفيع والسكون التام .

 تلك الحكاية أوجزها ( بوستر ) لأحدى حفلات ( الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية ) منتصف سبعينات القرن الماضي، يوم عادت لنشاطها بعد تدخل جمهرة عازفيها لدى الراحل الشاعر والرسام والوزير، شفيق الكمالي، الذي سمح لهم باعادة الحياة للفرقة التي كانت ستعزف حين زرت محمد علي في مقرها عملاً رشيقاً لموتسارت هو ( أغنيات ليل صيفية ) وراح الرجل يحاورني في مقال كتبته عن موتسارت عبر صورته المثيرة للجدل والتي اظهرها فيلم ( أماديوس ) للمخرج ميلوش فورمان، مثنياً على قراءتي التي أظهرت الجانب الإجتماعي لعصر موتسارت من خلال موسيقاه .

وعبر غير حفل للفرقة السيمفونية الوطنية كان فيها محمد علي عازفاً لآلته الاثيرة ( الفيولا )، حاورته عن معنى ألمعية العازف، وكيفية تمييز براعته وهو يعزف عملاً سبقه إليه عازفون كثر، فأكد ان نصف البراعة يأتي من فهم العمل ومحبة العازف له فيما تتكفل الموهبة بالنصف الآخر .

 وفي حين أسعدني تقديمه لكتابي ( فصول في الموسيقى المعاصرة )، لكنه لم يجاملني حين أبدى شكوكه من مدى إصالة النماذج التي عنيت بها وتتصل بما يعرف الآن بـ( موسيقى العصر الحديث ) أو New Age Music، معتبراً ان هذا الشكل الموسيقي يعتمد على إبهار التقنيات أكثر من اعتماده على اللمسة الانسانية، ولكن دون ان يبخسني حق الاجتهاد في عرض شكل موسيقي بدا وكأنه استجابة لمفاهيم عصره .

 ولأنه لم يكن موسيقياً منعزلاً عن الحياة، فقد تحسس موجة الرداءة في بواكيرها واندفع الى تأسيس ثوابت في التربية الموسيقية تحمي الأجيال الجديدة من فخاخ التسطيح الذوقي الغنائي وإن جاءت تحت تسمية الحداثة، فكان كتابه لافتاً وإن جاء بحجم صغير ( صدر عن سلسلة "الموسوعة الصغيرة" في بغداد ) والذي تناول أسس التربية الموسيقية عارضاً لملمح محلي علمي تأثر فيه بأسس ما كان قد خبره في هنغاريا اثناء اقامته ودراسته فيه .·

 إضافة الى عمله وإدارته "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" فلأسعد محمد علي فضيلة تكريس شكل من أشكال الموسيقى الرفيعة "موسيقى الصالة"، عبر تأسيس "فرقة سومر لموسيقى الصالة" التي ظلت ملازمة لوجوده ونقلها معه الى عمّان، وكانت حاضرة في المواسم الثقافة المتعاقبة لـ"دارة الفنون" التابعة لمؤسسة عبد الحميد شومان، وتحديدا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، جاعلاً منها ورشة عمل لموسيقيين عراقيين من داخل الوطن وخارجه، وكان ينتظم في عروضها العازفون أصحاب الخبرة مثلما ينتظم العازفون الشباب .

 الموسيقى كالشعر والرواية: رفاق الانسان في عزلته

اسمه دليل لمثابرة مميزة فهو روائي ناقد وموسيقي رصين، عازف أول على آلة "الفيولا" وادار لفترة، الفرقة السيمفونية العراقية، كتب في الرواية "الضفة الثالثة –1982" "الصوت والدوي 1991" وفي البحث والدراسة له "في أصول الموسيقى الفولكلورية –1977" و "بين الأدب والموسيقى –1948" .

 التقيته خلال زيارة لعمّان(2) قامت بها "فرقة سومر لموسيقى الصالة" ( تابع إثنين من متابعاتي النقدية لعروض الفرقة آخر هذه الكتابة الإستعادية ) الذي كان من مؤسسيها في شباط 1968 ببغداد -وشارك مع الفرقة في كونسرت ناجح للفرقة بضيافة من دارة الفنون التابعة لمؤسسة شومان. عزف على (الفيولا) في دارة الفنون الى جانب إحسان أدهم عازف الفلوت .

عن جوانب الإتصال بين الأدب والموسيقى، وما تعيشه اليوم الموسيقى من أوقات سبات شأنها شأن فعاليات تهتم بالذهني والروحي كان هذا الحوار .

 *بين الموسيقى وممارساتها وبين أشكال من الكتابة الأدبية تتشكل سيرة أسعد محمد علي الفنية أين انت بينهما كمعنى؟

- المعنى يشتكل وما يلبث أن يجاوز حدوده، فلأني لا أجد استقرارا في الموسيقى وحدها أو على الادب لوحده، فان من الصعوبة تجسيد معنى محدد أو تجسيد "منظور" واحد بالنسبة إلى فعل الابداع عندي. لقد استطعت أن أحقق ممارسة متواضعة لكنها الأولى في منطقتنا. مارست نوعاً من دراسة جمالية مقارنة "بين الأدب والموسيقى" وأجدني بين الأثنين دراسة وممارسة حتى في روايتي الأولى "الضفة الثالثة" كان للموسيقى حضور فاعل وزخرفي معاً، حضور كان بديلاً لمنظوري للعلاقة بين الرجل والمرأة فيما لم أبلغه في هذه العلاقة كنت أجده في الموسيقى، علاقتي مع الموسيقى بدأت في منتصف الخمسينات وحين أردت ممارسة كتابة القصة بشكل منظم نهاية الستينات، وجدتني أعتمد على الشكل الموسيقي في بلوغ شكل قصصي: فالبداية لعرض الموضوع، والوسط يحوي الحبكة حيث تطور الأبعاد والنهاية تكون مستوفية لتحقيق أثر نفسي، ذلك هو "المنظور" العام للشكل الفني في الموسيقى والقصة والرواية·

 اللغة لوحدها لا تستطيع أن تقيم معرفة

 *نقرأ في حياة كتاب كبار وأصحاب معارف ومناهج، ما الذي تركته الموسيقى من تأثير في حياتهم وفكرهم، فيما نحن على علم بالفقر الذي يتعرض له هذا الجانب عند المثقف العربي، ما مدى اضمحلال الموسيقى في تركيبة المثقف العربي ومرجعيته ؟

- من خلال معرفتي وجدت المثقف المبدع: الكاتب والمؤلف الموسيقي والرسام لا يستغني عن فن ولا يكتفي بفن دون آخر . نعم التخصص لابد منه ولكن ( جان جاك روسو ) كان مفكراً وأديباً ومارس البحث الموسيقي وألّف في الموسيقى، المفكر الألماني المعروف ( نيتشه ) كتب الموسيقى، وكان المفكر ( كانط ) ملماً بالموسيقى كذلك كان ( شونبهاور ) والمؤلفون الموسيقيون مارسوا الأدب: ( بوليوز ) المؤلف الموسيقي الرومانتيكي كان ناقداً وأديباً، ( شومان ) كتب في الأدب وله كتاب في أدب الموسيقى، وفي عصرنا كان الروائي الالماني (هرمان هيسه) موسيقياً (عازف كمان)، وهو الذي بنى روايته "لعبة الكريات الزجاجية" على شكل موسيقى هو (الكانون) أو التتابع·

ومن الكتاب العربي كان الراحل ( جبرا ابراهيم جبرا ) ذا ثقافة موسقية مذهلة، كذلك القاص العراقي الراحل ( غانم الدباغ )، الأديب المفكر ( مطاع صفدي ) اهتم بالموسيقى في مطلع حياته الأدبية، كذلك الباحث والأديب المتعدد المواهب ( علي الشوك ) كذلك انت ايضاً -يا أخي علي- تمارس الشعر وتكتب مقالات في نقد الموسيقى وتذوقها، رغم كل هذه العناصر الإيجابية إلا إن الموسيقى والفنون الأخرى لم تدخل بعد في تركيبة المثقف العربي، أقصد المثقف المبدع، فهناك مثقف متلق حسب، والموضوع ياخذ أبعاداً اشمل فانتباهة العرب إلى ما يجب ممارسته في مجالات الفنون والآداب جاءت متأخرة ومازالت هذه الانتباهة تفتقر إلى البرمجة، فممارسة الموسيقى والفنون ممارسة فردية من قب الإنسان الذي يعي حاجته النفسية إلى الفنون، هذه الممارسة سيكون أثرها ايجابياً فاعلاً اذا استطعنا منح الحرية وإيجاد السبل لممارسة المستويات الأعلى من الفنون .

نحن ما زلنا ننظر إلى الثقافة مجزأة غير متكاملة ولم نمتلك بعد إمكانات جعل الثقافة كلاً واحداً دونما تجزئة، الثقافة تكاملية الأبعاد، ولا يمكن الفصل بين الأدب والموسيقى والرسم، نعم الرياضة والأغنية جزء من الثقافة الشعبية لكننا تعاملنا معها بشكل مجد فيما لم نستطع التعامل بذات الشكل مع جوانب الثقافة فأصاب الكسل امكانات التلقي الثقافية عند الفرد وعند المجموع، من اضطراب وعي كهذا ومن ذائقة تبدو متخلفة يطلع أدباء وكتاب ومثقفون للاسف أغلبهم يرون ان اللغة لوحدها تستطيع ان تقيم معرفة وثقافة دون الاهتمام بجوانب مهمة اخرى الى جانب الكتابة·

 الموسيقى كالرواية نتاج مدينة

*تنحدر الموسيقى في الوطن العربي، صوب الأشكالية السائدة في الأغنية، ما الذي تراه في هذا كمؤشر؟ ثم ما قيمة الموسيقى في الحياة العربية حتى في حدود الفهم الأولية لها ؟

-المسألة صعبة على العموم، لأن تذوق الموسيقى صعب، أقر بهذا، لكنني أصر على ان أجهزة الثقافة لابد أن تسعى إلى برمجة نشاطها الفني والأدبي بشكل آخر لايعتمد الفردية في الإنجاز والأداء، انما جماعية التبني لهذا الموضوع هو السبيل الى نقل مستوى الذائقة الجمالية عن الفرد والمجتمع من مرحلة الى أخرى، هنا أعود إلى الصعوبة: لان الموسيقى ظاهرة فلسفية كما قال ( كانط ) والفلسفة عسيرة التناول من قبل المجتمع لكن كما كانت ثمة مناهج لدراسة الفلسفة، فلا بد ان تكون هناك مناهج لدراسة الموسيقى والرسم نحن لحد الان لم نستطع تطوير درس الانشاد في مدارسنا، ترى كيف بموضوع يمت الى الفلسفة بصلة ؟

نأتي إلى الغناء فهو أول سلم في الموسيقى والغناء ارتبط منذ القدم بالشعر، لانه فن افصاح كما الشعر، أما الموسيقى الصرفة فهي فن التضمين والايحاء والاضمار، والموسيقى كالرواية نتاج مدينة، اما الشعر والغناء فهما نتاج أولي لنشوء الحضارة والأغنية عند العرب لم تجد مسارها الصحيح لأسباب كثيرة أهمها العلاقات الاجتماعية والمؤثرات التاريخية، حيث ان الغناء العربي منذ الجاهلية وإلى الآن كان مادة لهو، لهذا تركت الأغنية في شعور الفرد العربي ولا شعوره، اثراً سلبياً لم يسعفه في موقفه العام ازاء الفن .

 الموسيقى سند الإنسان المتعب

*بين ادارتك للفرقة السمفونية العراقية، وروايتك الصغيرة "الصوت والدوي" تتحدث عن الموسيقى الوحيد مع ذاته الذي ينهض ليواجه علامات الموت والخراب المنتشرة حوله، في مجتمعات قسوة كهذه، يتبرعم الموت فيها! هل يتبقى دور للموسيقى فيها كمعنى وحس رفيع ؟

-لا أدري كيف أجيبك هنا، لابد ان أكون واعظاً او متفائلاً، لكنني لا أستطيع التخلي عن شيء جميل اسمه الموسيقى. هناك أناس يقرأون في اليوم ساعة أو ساعتين والمثقف الحقيقي هو الذي يتناول كتاباً إذا انهى قراءة الكتاب الذي بين يديه. أنا أضيف إلى القراءة الاصغاء إلى الموسيقى، والمثقف عندي هو الذي يقدر على الجمع بين الفنون كافة، لانها واحدة في الأصل: الشعر إيقاع والموسيقى ايقاع والصوت يجمع بينهما، الرسم شكل وهارموني والموسيقى كذلك، الرواية تكوين فني والسمفونية تكوين فني، لا فرق بين هذا الفن وذاك، الفرق يظهر عند من لا يستطيع ادراك ما هية الفنون الموسيقى تعمل على اسناد الانسان من الداخل، الخارج يضغط على الإنسان فيما الفنون، لاسيما الموسيقى، تخفف ذلك الضغط وتحقق للانسان توازنه، ذلك التوازن الذي حققه الإغريق القدامى عبر مفهوم التطهير في الدراما .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved