قراءة في تجربة إدريس الصغير القصصية من خلال أضمومة "حوار الجيلين"
(مجموعة قصصية مشتركة مع محمد سعيد الريحاني)
قبل أعوام قليلة، أعلنا، توصلت إلى ملاحظة تمكنت مني فاقتنعت بها وقوامها أن الإبداع السردي المغربي يعاني خوفا غير مبرر من اقتحام تيمات الحلم والحرية والحب. وهو ما يحتم مراجعة في طريقة التفكير وتغيير في أدوات العمل. فالسرد المغربي، عكس المسرح والشعر، يجفل دونما تبرير من اقتحام الدوائر الثلاث باستثناء "أدب السجون" الذي اختص في الحرية كمرجع وأفق، و"أدب المرأة" الذي اختص في الحب بإحباطاته وانكساراته، وأدب أحمد بوزفور وإدريس الصغير ممن اختصوا في دائرة الحلم بامتداداته التي تصل في أقصى مداها حد الجنون...
أعوام قبل ذلك التاريخ، لاحظت، من خلال تصفحي لببليوغرافيا الإبداع المغربي والعربي، تَرَفُّعُ الأدباء المغاربة والعرب عن الاعتراف ببعضهم البعض ومصاحبة بعضهم البعض في أعمال مشتركة. فالكاتبات النساء تتهربن من الأعمال المشتركة مع كاتبات من جنسهن ربما لأنهن يريْن في الأمر ردّة إلى حياة "الحريم". كما يندر وجود أعمال مشتركة بين أديب عربي وأديبة عربية باستثناء "أدب الرسائل والمراسلات" حيث اجتمعت في الشام غادة السمان بغسان كنفاني والتقى في المغرب عبد الكبير الخطيبي بغيثة الخياط. أما الأسماء القليلة من الكتاب العرب الرجال ممن دخلوا تجربة العمل الإبداعي المشترك فيطالعنا اسم إدريس الصغير مرة أخرى كاستثناء. بل إن الرجل تعدى الاستثناء ليصبح "قاعدة" في العمل الإبداعي التشاركي من خلال ثلاثة أعمال سردية مشتركة:
"اللعنة و الكلمات الزرقاء"(مجموعة قصصية)، بالاشتراك مع عبد الرحيم مودن، 1976
"ميناء الحظ الأخير"،(رواية)، بالاشتراك مع عبد الحميد الغرباوي، 1995
"حوار جيلين"(مجموعة قصصية)، بالاشتراك مع محمد سعيد الريحاني، 2011
ولظروف خاصة، تأخرت "حوار جيلين"، المجموعة القصصية الأخيرة، عن الصدور لمدة ثلاث سنوات لكنها لم تكن جامدة في طابور الانتظار وإنما كانت تنمو في انتظارها وتتطور إذ تغير، خلال انتظار النشر، أكثر من نص وتغيرت أكثر من فقرة قبل دخول العمل أخيرا إلى المطبعة وبداية العد العكسي لخروجه المحتمل إلى أسواق القراءة والقراء بعد أسبوعين.
عند الإعداد لتحرير أضمومة "حوار جيلين"، كانت السيناريوهات الثلاثة الممكنة كالتالي: السيناريو الأول، المشاركة في كتابة النصوص متوالية بعد متوالية؛ السيناريو الثاني، اقتسام متواليات النص بحيث يفتتح الواحد منا النص بينما يبقى توقيع الختام للآخر، السيناريو الثالث، الاحتفاظ بمطلق الحرية في اختيار كل منا لنصوصه وتحريرها على طريقته وهو ما وقع الاختيار عليه في الأخير فكان لإدريس الصغير الجزء الأول من الأضمومة بينما كان لمحمد سعيد الريحاني الجزء الثاني منها. وعليه، بعث لي إدريس الصغير بنصوصه السبعة دفعة واحدة فارتأيت محاورتها بنصوص متفاعلة مع تيمتها المركزية، "الضياع". وبذلك، جاءت أضمومة "حوار جيلين" موزعة على جزأين:
الجزء الأول خاص بنصوص إدريس الصغير السبعة التي تتدرج عناوينها كالتالي: رجل وورقة وأحلام، في مقهى على ضفة نهر، طريق الأحلام، نومانز لاند، حقول الأقحوان وشقائق النعمان، صانع الأحلام، أحلام طاميزودا.
أما الجزء الثاني فيشتمل على نصوص محمد سعيد الريحاني السبعة وهي حسب ترتيبها في المجموعة: في رحاب التقنية، هل قرأت يوما عن الأشباح؟، الضياع، فظاظة القبائل البعيدة، الاسم "عاطل" والمهنة "بدون"، الذي كان حرا، أحلام الظهيرة.
ولظروف خاصة، تأخرت المجموعة القصصية "حوار جيلين" عن الصدور لمدة ثلاث سنوات. لكنها لم تكن تنتظر فحسب وغنما كانت تنمو أيضا. فقد تغير أكثر من نص وتعدلت أكثر من فقرة قبل أن تستعد للخروج إلى أسواق القراءة والكتاب أواخر هذا الشهر، ابريل 2011.
ولأن الكاتبين ينتميان إلى جيلين مختلفين من أجيال الكتابة القصصية في المغرب، فإن ما يجمع بين نصوصهما في هذا العمل المشترك، "حوار جيلين"، هو "الضياع" كفلسفة وجودية وكمنظور فني وكأسلوب في الكتابة. "الضياع" كقانون كوني، كنهر جارف لكل ما ومن يحاول التشبث بموطئ قدم على بساط الطمأنينة والمعنى الخادعين...
نصوص إدريس الصغير في هذه المجموعة، "حوار جيلين"، ضياع في ضياع: ضياع يتخذ ثارة قناع التعب الأبدي وثارة قناع الشيخوخة وثارة أخرى قناع الجنون وثارة رابعة قناع فقد الحبيبة...
ففي فاتحة نصوصه، "رجل وورقة وأحلام"، يتشبث الرجل الذي لا حاضر له بوهم لا يشاطره فيه غيره: وهم الفوز في اليانصيب وتغيير الوضع الاجتماعي والعودة للشباب لكن كثافة أوهامه انتهت به إلى فقد بيته وأقرب أقاربه، زوجته:
" ترجع أنت في المساء متعبا. تطرق الباب مرات فلا تجاب. حتى المفتاح نسيت أن تحمله معك اليوم. تركت لك خبرا عند الجيران: »إذا حضر في المساء... قولوا له: إن اهتديت إلى مكاني، أيها القرد الهرم، فافعل بي ما تشاء« .
أما نص "في مقهى على ضفة نهر" فربما كان مقابله المحتمل من العناوين الممكنة "نهاية اللعبة" أو "نهاية التاريخ" أو "القيامة الآن". فالزمن الذي اعتقده الناس مستقبلا وأجهدوا أنفسهم في تعليق آمالهم بالخلاص على مشجبه، ذلك الزمن قد حل الآن ولكنه ليس مستقبلا. ليس في هذا الوجود مستقبل، ليس ثمة غد، ليس هناك غير الضياع الذي يؤجل الجميع مواجهته:
" انتبهوا جيدا، وتابعوا هذا الفتى وهو يرسم. تعلموا منه.
لكنه كان دائما يبدأ الرسم منطلقا من الشاطئ نحو المنبع. لا يصدق لحد الآن برغم كبره أن الأنهار هي التي تصب في البحار وليس العكس. لكن كثيرا من الحقائق تبدو غير قابلة للتصديق في زمننا الكابي هذا.
هذا الفتى سيكون له شأن في المستقبل.
ومات أستاذ الجغرافية أمام تلاميذه وهو يميز لهم بين أضخم نهر في العالم وبين أطول نهر. العمر لم يمهله حتى يرى شأن الفتى في المستقبل. ألسنا الآن في المستقبل.؟ ! هذه الكلمة الغامضة السرابية المنزلقة من بين أصابع اليدين كانزلاق الماء على راحتي متوضئ، شيخ قانت.
الفعل المضارع هو ما دل على الزمن الحاضر والمستقبل.
أليس هكذا علمونا قواعد اللغة العربية في المدرسة الابتدائية، وجذبوا آذاننا الطويلة ونحن نستظهرها؟
وإن شئت المستقبل القريب استعملت السين: مثال. سنصبح أمة متقدمة.
وإن شئت المستقبل البعيد استعملت سوف: مثال. سوف نصبح أمة متقدمة.
وقس على هذا."
أما في نص "طريق الأحلام"، فيقابل إدريس الصغير بين "الضياع" الذي يعيشه العامي في ضوضاء حياته ورتابة تعبه وبين "الحقيقة" الذي يعيشها السجين في زنزانته. وهو تقابل بين قبول الإنسان لعب دور الآلة الوظيفية في المجتمع وبين انسحابه إلى أعماق ذاته لسبر أغوارها واكتشافها والمصالحة معها:
"أكون منهكا حين أصل السجن، فأحشر جسدي وسط الأجساد لأشتم رائحة آباطها، وخلوف أفواهها. أنصت إلى الثرثرات، والبكاء، والنزاعات والهمسات والتوعدات. تحييني الوجوه التي أصبحت أعرفها. وأصافح أناسا. لأبدأ معهم تعارفا جديدا.
وككل مرة، أجد أنني نسيت كل الكلام الذي حضرته بعناية. لأحدثه به. غير أنه في كل مرة يكون أكثر صفاء ذهن، فيحدثني بمعنويات مرتفعة، أستغرب كيف، يمتلكها، بينما أظل أنا صامتا، منخور الدماغ."
أما نص "نومانز لاند"، أو الأرض الخراب، ف"الرماد" هو أكثر الكلمات ترددا في النص:
" رفع بصره بعينيه الدامعتين، يتأمل أكوام الرماد، الخامد وخيوط الدخان الرفيعة المتصاعدة منه نحو السماء باحتضار، وسط جلبة أصوات الجمع، وهمهماتهم، خليط من مواساة وتشف، وشفقة. لم يكن راغبا أبدا في أن يتفرس في الوجوه ولا أن ينبس ببنت شفة، كان راغبا عن كل شيء، ولم يكن راغبا في أي شيء. أنه تحصيل حاصل. غير أنه كان دائما يستغرب هذه الحالة الشاذة. هذه اللحظة البيضاء، التي تمسي فيها كل الأشياء، بدون طعم وبدون رائحة، هكذا حتى بدون أبعاد. لا حجم لها بتاتا. أهي أطياف...
ثم أنه الآن يحار، أييمم نحو الشمال أم نحو الجنوب أم نحو الشرق أم نحو الغرب. لا يدري. ضاقت به الأرض بما رحبت. أم تراه يعلو في فضاء السماء الفسيح، متخلصا من الجاذبية. مسافرا بين الأقمار والأجرام، متنقلا بين المجرات، فلا شرطة تكبسه، ولا مخبرين يتشممون آثار أقدامه، ولا دائنين. يتعقبون سحنته المتجهمة."
ثم يختم النص بتشتيت رماد وجوده في أبيات رمادية:
" ليس لك شبر أرض أو كوخ يأويك.
لا أهل، لا رفاق، لا أصحاب.
لا زوجة، لا أولاد".
أما في نص "حقول الأقحوان وشقائق النعمان"، ف"للضياع" اسم ثان، "الشيخوخة":
" هي !
أنت لم تدرك ذلك أول الأمر. هزة خفيفة من يدها على مرفق يدك اليمنى ثم طبطبة على الكتف. وحين التفت، استقبلك وجهها مبتسما طافحا بالبشر. أنكرتها غير أنك بادلتها التحية و أشرق وجهك بابتسامة مرحبة. من تكون؟
امرأة تعرفني؟ زميلة دراسة قديمة؟ أم تكون ...؟
بسمتها تزداد ألفة و حنانا. العوارض المجلوة البيضاء الناصعة و العينان البراقتان و تصفية الشعر. تشبه "رومي شنايدر".
عيناك تدوران في محجريهما و كأنما دوامة تلولب رأسك ليتدحرج اربعين سنة إلى الوراء.
ميم. رومي شنايدر .
هي بالتأكيد هي. لم يفعل الزمن بها شيئا يذكر غير بدانة طفيفة ورزانة عمر رغم الوجه الطفولي.
هي !"
كل شيء لا زال كما كان، الأقحوان وشقائق النعمان إلا الشباب الذي لم يعد يستجيب لدعوة الحبيب إذا دعا:
"هي ذي حقول القمح تمتد مترامية الأطراف، تزينها شقائق النعمان الحمراء. هل أطاردك الآن، حتى يأخذ منا التعب مأخذه؟ هل نقرفص تحت فزاعة لنسرق القبل بعيدا عن أعين الرقباء؟ هل أنت هي أنت،وهل أنا هو أنا؟
لعلها كانت تريد لهذا الحديث الصامت أن يستمر إلى ما لا نهاية. غير أنك مددت لها يدك، فقط لتشد على كفها الصغيرة بأصابعك المعروقة.
وليت وجهك دونها، وأرسلت قدميك على غير هدى"...
أما في نص "صانع الأحلام"، ف"الضياع" يلتحف وزرة مريض نفساني لم يعد يميز بين ما يعيشه وما يحلم به وما يقرؤه :
" كان مستعجلا، فلم يخط بدلته عند أشهر خياط بالمدينة، بل اشتراها من محل بيع بدلات جاهزة. و مع البدلة جوارب و قمصانا و ثيابا داخلية و حذاء و ساعة يدوية، و بايبا.
نعم بايب، مثل ذلك الذي يستعمله الدكتور النفساني في قصة "ذلك الشيء" للكاتب أحمد بوزفور .
كان الآن هو والدكتور كلاهما يدخنان البايب في العيادة. هو مضطجع و الدكتور بمحاذاته يجلس على كرسي. قال الدكتور:
-هكذا إذن بدأت أنت كذلك تدخن البايب، ثم بدأت تصنع أحلامك بنفسك، أنت ذكي، وهذا يتعبني كثيرا .
أجاب بفتور .
- لست متأكدا ان كان الدكتور في القصة هو صاحب البايب أم المريض .
ضحك الدكتور،ثم قال مطمئنا :
-لكي تتأكد ارجع إلى القصة مرة ثانية. ما يهمني الآن هو أن أنصت إليك و أنت تتحدث إلي" .
أما خاتم النصوص الصّْغيريَةِ في هذه المجموعة القصصية المشتركة، نص " أحلام طاميزودا"، فيبدأ كأغلب النصوص القصصية بالسرد بضمير الغائب المتجرد الموضوعي العارف بدواخل وأسرار الشخوص الأصم اتجاه المعاناة الفردية... لكن ما أن تحمل الحبيبة على المحمل وتأخذ وجهتها نحو المقبرة حتى يلقي السارد على الأرض بكل الأقنعة والأدوار السردية ويتحرر من كل تجرده وموضوعيته ليعلن "بضمير المتكلم" أنه هو الحبيب وأن الراحلة هي الحبيبة وأن النص ما هو إلا ذكرى قصة حب كانت لاهبة:
» كانت اللقاءات هنالك، في خلوة عن العالم، عن كل العالم. بعيدا عن الحروب، وعن الدمار وعن الدسائس وعن كل المخلوقات. ترى لماذا اخترنا بالضبط ذلك المكان؟ الم يكن الرومان يشقون عباب نهر سبو بسفنهم المحملة بالمؤونة ليرسوا بها في طاميزودا؟ الم يحبوا هنا؟ ألم يحترقوا بلظى الأشواق، و طول النأي، و المعاناة المؤلمة لهذا الحب الأزلي؟
أين أنت اﻵن ؟ اﻵن أرى جسدك مسجى على المحمل ، مغسولا ، بعطر الجنان . أراك محمولة فوق الأكتاف ، ليشق مسمعي ، العويل ، و الصرخات الرعناء . اليوم لا أملك سوى الذكرى ، اليوم أعود عند الغروب منكسرا ، أيمم نحو مدينة كئيبة تغفو مجهدة، لتنكمش على أحزانها الدائمة «
على سبيل الختم:
لقد وجد إدريس الصغير في تيمة "الضياع" شعرية خاصة. لذلك رعاها منذ أول مجموعة قصصية أصدرها بالاشتراك مع القاص والناقد المغربي عبد الرحيم المودن عام 1976 تحت عنوان "اللعنة والكلمات الزرقاء". لكن "الضياع" الذي بدأ صنعة وصنيعة بين يدي إدريس الصغير انتهى به المطاف "صانعا" و"فاعلا" بروميثيا . وحين انتبه إدريس الصغير للأمر، انتابه شك في أن تكون يد الضياع قد امتد إلى ملكة الكتابة لديه لتعبث بها تماما كما حدث لغابرييل غارسيا ماركيز الذي عانى في آخر أيامه من نضوب في الإلهام. فبتاريخ الرابع من فبراير 2007، بعد دعوتي له للمشاركة في الجزء الثاني من "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، كتب لي إدريس الصغير ما يلي:
"تحية طيبة وبعد
كنت متوقفا عن الكتابة إلى أن أرجعني مشروعك الجميل إليها. لقد أصبحت أتفاءل بك.
مرحبا بالتعاون معا لإصدار عمل مشترك. لك مني أجمل التحيات."
كان هذا هو نص رسالة إدريس الصغير. أما جوابنا فقد تأخر طويلا في انتظار سياق احتفالي كهذا يكرم الرجل وينوه بإسهاماته لنقول له ملء السمع: "كم أنت شامخ، يا إدريس، وكم نحن نحبك !"
محمد سعيد الريحاني
(ألقيت هذه الشهادة بمناسبة تكريم "جماعة الكوليزيوم الأدبي" المغربي لإدريس الصغير بمدينة مراكش، بتاريخ: السبت 16 أبريل 2011)