لابد لزائر بكين أن يمر بساحة تعد الأشهر والأكبر في الصين الا وهي ساحة "تيان آن مين" ,ذلك لأنها تختصر تاريخ الصين ,القديم والمعاصر , الحلو والمر , ذو البدلة الرسمية واللباس البسيط ,الجزمة العسكرية والحذاء الخفيف , كل هذه المتناقضات جمعتها تلك الساحة التي شهدت الكثير من الوقائع والأحداث , منذ إنشائها ً في بكين عام 1651 وقد كُبّرَت إلى حجمِها الحاليِ إلى أربع أضعاف لتبلغ مساحتها 40.5 هكتار ( الهكتار يساوي 10000 متر ) بما يَجْعلُها أكبر ساحة حضارية مفتوحة في العالم حتى أخذت شكلها الحالي في 1958 م لتكون أكبر ساحة مفتوحة في العالم وأبرز الأحداث التي شهدتها هذه الساحة التي يعني إسمها باللغة الصينية "بوابة السلام السماوي" إعلان جمهورية الصين الشعبية مِن قِبل ماو تسي تونج في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1949؛ العروض العسكرية الجماعية السنوية في الأيام الوطنية اللاحقة حتى الأولِ مِنْ أكتوبر/تشرين الأولِ 1959؛ إستعراض 1984 العسكري للذكرى الخامسة والثلاثينِ لجمهورية الصين الشعبية والذكرى الخمسين في 1999؛ وكانت مقرا للإجتماعاتِ الجماعيةِ أثناء الثورةِ الثقافيةِ ومكانا لإحتجاجات الطلاب وكان آخرها الإحتجاج الذي جرى قبل عشرين عاما -عام 1989 م- عندما هبت رياح التغيير على العالم فتفكك الإتحاد السوفيتي فطالب هؤلاء الطلاب بالمزيد من الإصلاحات الديمقراطية وإنتهى هذا الإحتجاج نهاية دامية عندما سحقت الدبابات حوالي 300 من المحتجين لتخلف ندبة سوداء إتخذ منها مناؤو الحكومة الصينية ذريعة للتشهير بها , وقد لاحظت إستنفار قوى الأمن مساء حلول الذكرى العشرين لتلك الكارثة والرقابة المشددة في منافذ الدخول للساحة والتفتيش الدقيق وكنت ساعتها أشعر كأنني أصعد طائرة ومن الطريف أن الأجهزة الأمنية طالبتني بإبراز جواز سفري ,وهو أمر لم يحصل معي في أي مكان زرته منذ صاحب جواز سفري قبل حوالي عشرين عاما!!
قلب بكين النابض
كل هذه الإجراءات التي تجعل زائر الساحة يشعر بالضيق لو زارها في يوم متجهم كذلك اليوم تزول تدريجيا حين يتجول في الساحة التي تمثل قلب العاصمة بكين النابض ,حيث تمثل جسرا يوصل مابين قصر الإمبراطور الصيني بحدائقه الغناء وبواباته الكبيرة التي يتمسح بها الداخلون مهابة وتقديرا والى العمق من ذلك توجد المنطقة المحرمة التي تحتشد بالقصور الامبراطورية وكان محرما على العامة من البسطاء دخولها ,وبين بكين القديمة بدكاكينها وشوارعها وواجهاتها المزينة برسومات متقنة تؤكد عراقة المكان وأصالته وعمقه التاريخي ,ومابين القصر الإمبراطوري وبكين القديمة مساحة واسعة للتأمل في أحداث صنعت تاريخ الصين المعاصر شهدتها هذه الساحة
التي يرفرف على جانبها الأيمن العلم الصيني بلونه الأحمر على سارية عالية حيث يقوم جنود مدربون على رفعه فجرا وانزاله عند غروب الشمس أمام أنظار الجمهور الذي إعتاد أن يحتشد في هذين الوقتين لمراقبة الحركات المتقنة للجنود خلال تلك المراسيم وقد بقينا ليلة الخامس من يونيو (حزيران) 2009 م لأكثر من ساعة ونصف وسط الحشد ننتظر تلك اللحظات التي يتم بها إنزال العلم !
والى جوار العلم ترفرف أعلام العديد من الدول بمواجهة قصر كبير تعلوه صورة كبيرة لماو وهي الصورة التي تطالعك في أماكن كثيرة في الصين لما يحتل صاحبها من مكانة عالية في نفوس الصينيين تصل عند البعض الى درجة أقرب للقداسة !
لكن البعض الآخر من الصينيين الذين يهمسون سرا يجدون إن هذا أمر طبيعي في دولة يحكمها نظام شمولي يحاول الهيمنة على الجميع بمختلف الطرق
لكن هذه الأصوات تختفي عندما ننتقل الى أقصى الجانب الأيسر من الساحة حيث نجد هناك بناية كبيرة بالقرب من جدارية كبيرة تضم وجوها عديدة تحمل رموز الثورة والتصميم على البناء , هذه البناية تحاط بحرس مدجج وحين تسأل عن تلك البناية الكبيرة يقال لك إن بداخلها ترقد جثة ماو تسي تونج الذي توفي عام 1976 محنطة !-يقول الباحث عدنان جبار في كتابه المخطوط "رحلة الشتات والصين " ماوتسي تونغ من القلائل الذين لديهم قبور في الصين إذ بقيت جثته في منأى عن الإحراق ، لأن معظم الصينيين يقومون بإحراق جثث أمواتهم ،على أن عادة إحراق جثث الموتى في الصين لا ترتبط بأي عقائد دينية مثل غالبية دول الجوار الآسيوية ( كالهند واليابان ) التي تعتبرها أمرا ضروريا لصعود الروح الى السماء بعد تحريرها من قيود الأسر الجسدي ... بل ترتبط بدعوة ماوتسي تونغ نفسه التي أطلقها رسميا يوم 27 نيسان عام 1956 لتوفير مساحة الأراضى التي كانت تستخدم في دفن الجثث واستغلالها فيما هو أجدى للشعب الصيني !... وهي الدعوة التي تلقى صداها لدى الشعب الصيني عاما تلو الآخر بعد أن ضاقت بهم الأرض على رحابتها (تبلغ مساحة الصين 6ر9 مليون كم مربع ويبلغ عدد سكانها 3ر1 مليار نسمة)"
عطلة القبر
مظهر آخر يعطي أهمية للساحة , وحين حاولنا دخول البناية أشار الشرطي الى لوحة كتبت عليها أوقات الزيارة التي تبدأ من الساعة الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية عشرة ظهرا
قال أخي:علينا أن نبكر غدا لأن الساحة ستكون مليئة بزوار القبر ,لم آخذ الأمر على محمل الجد لكن مع ذلك كنت مصرا على الزيارة لذا نهضنا مبكرين وتوجهنا للساحة وبعد التفتيش الدقيق لم نجد زحمة كما قيل لنا عند جانب القبر ففرحنا وظننا إننا سنفوز بزيارة سريعة وهانئة وحين إقتربنا من أحد الحرس أشار علينا بقراءة اللوحة جيدا
وبعد التدقيق تبين إن اليوم كان هو الإثنين وهو عطلة القبر الرسمية
-هل يحتاج الموتى الى إجازة رسمية؟- تساءلت مع نفسي ,لكن سرعان ما جاءني الجواب : إنها للعاملين بالمبنى ,الذين يكون الدوام عندهم على أشده في ال "وييك إند" أي في يومي السبت والأحد , حيث يغلق أبوابه ليرتاحوا بعد إجهاد , ولأنني كنت مصرا على الزيارة لذا عدنا في اليوم التالي , لم نستخدم "المترو "وسيلة النقل الشائعة في الصين ,هذه المرة , للإسراع بالوصول , فإكترينا سيارة أجرة مستمتعين بما فوق الأرض من مباهج صينية , الدراجات الهوائية التي تسير في شوارع جانبية خاصة لكثرتها وضمان أمن سواقها , طوابير العمال الذين يقفون أمام محلاتهم في طوابير تشبه طوابير الجنود في مراكز التدريب والهدف من وقوف العمال هو القيام بالرياضة الصباحية قبل البدء بالعمل ,كفرض يومي صباحي ,كان الكل يبدو نشاطا ,لا هدف له سوى الوصول الى مكان عمله لإنجاز ما عليه من واجبات .
طوابير الزوار
حين بلغنا الساحة وجدنا الجموع الغفيرة من السياح الصينيين والأجانب قد سبقتنا ووقفت في طوابير عديدة ,بعضها مستظل بخيمة خيمة والبعض الآخر بمظلات يدوية ,فشمس بكين التي تنهض مبكرة صيفا حوالي في الرابعة فجرا ولاتغرب الا بحدود الثامنة مساء كانت حادة جدا رغم إنها تهدأ بعد العصر وتهب نسمات منعشة من الهواء البارد , وحين يأتي المساء يستطاب الجو ويحلو السهر والسمو الا أن الشوارع تبدو شبه خالية بعد التاسعة مساء ليس في بكين وحدها بل في عموم الصين كما علمت حيث يخلد الصينيون للنوم مبكرين بعد يوم عمل طويل وشاق , والإجهاد واضح على وجوه الصينيين الذين يظهرون بشاشة للغرباء وتوادا ولطفا كونهم في النهاية شرقيين وآسيويين , وليس من المستغرب أن يطلبوا من أي زائر التقاط الصور التذكارية بأدب جم , وبعد التقاط الصورة التي يستحب بها عندهم أن ترفع يدك اليسرى راسما علامة النصر , وهي بالنسبة لهم علامة سعادة وتواد ومحبة وسلام , هذه العلامات تجدها واضحة في تعاملهم , أقول بعد ذلك يبتسمون بوجهك بل ينحنون انحناءة خفيفة ورشيقة لك وكأنك أسديت لهم خدمة جليلة !!كما فعلت الفتاة التي في مقتبل العشرين القادمة من شنغهاي الى بكين لتزور الساحة للمرة الأولى في حياتها
ودعناها لننضم الى الطابور الطويل الذي يحيط بمبنى قبر ماو , قدرنا الوقت بأقل من ساعة لحسن الحظ ذلك لأن الزائر قد يحتاج الى أكثر من أربع ساعات في أيام العطل والمناسبات كما حدثني أخي الأكبر , لكثرة الزوار فيمتد الطابور على محيط الساحة على شكل أفعوان طويل لا نهاية له !!
ممنوع التصوير
شعرت بحرارة الشمس تجعل من شعر رأسي قبعة ساخنة لذا ففتحت مظلتي إتقاء لشعاعها , كان الطابور يسير ببطء , خضعنا ثانية لتفتيش دقيق من خلال المرور عبر بوابة الكترونية فأطلق الجهاز صافرة حين مر أخي , فأخرج كاميرا صغيرة , عندها طلب أحد رجال الأمن منه أن يقف على جانب فوقفت معه بعد قليل جاءت فتاة ترتدي الزي العسكري وتتكلم الإنجليزية فقالت لأخي إن التصوير ممنوع , أجابها :حسنا لن أصور ,فقالت: لا يمكنك الدخول ,قال لها:سأترك الكاميرا في هذا المكان وبعد خروجنا سنأخذها فاعتذرت وأصرت على خروجه من الطابور ,قلت له: افعل ماتطلب وحين أخرج من الجانب الآخر سأحتفظ بالكاميرا وأنت تدخل بدونها , فوافق واصطحبته معها , وكأنها ظفرت بشخص يقوم بجرم خطير !!
بينما واصلت وقوفي في الطابور الذي كان يتحرك ببطء حتى وصلنا الى فتاة تحمل دليلا أحمر اللون حول المكان وصاحبه يباع بكواي واحد ,أعطيتها ورقة من فئة خمس كوايات فأعطتني فورا أربع كوايات ملفوفة بخيط بلاستيكي لضمان السرعة في الإنجاز ,ذلك الدليل يشبه الدليل الذي يوزع في المسارح قبل بدء العروض
فلاح على العملات الورقية
كان الدليل يتحدث عن ماو الذي " ولد عام 1893م لأسرة فقيرة تعمل بالزراعة ومن المعلوم أنه سيطر على الحزب الشيوعي الصيني في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين - والكلام لعدنان جبار - إذ لم يكن هو المؤسس للحزب ولم يقم ستالين باختياره كزعيم للحزب الشيوعي الصيني إلا بعد ثلاث سنوات من تأسيسه. ثم سيطر على كل مقاليد السلطة في الصين بدءًا من عام 1949. وقد حصل ذلك بعد حرب أهلية مرعبة وبعد أن ساعده الاتحاد السوفييتي على ذلك ،عندئذ أصبح يمتلك سلطة مطلقة على ربع سكان الكرة الأرضية خلال سبعة وعشرين عاما فقدت الصين خلالها سبعين مليون صيني على الأقل في زمن السلام لا الحرب وقد تحول منذ إستلم مقاليد الحكم إلى شخص مخفيّ عن الأنظار وغير مرئي تقريبا، وهكذا زادت هيبته لدى الشعب وأصبح يسير الأمور من وراء الستار.ترى وجه ماو على العملات الورقية وترى تماثيله منتصبة وهو يرفع يده في الساحات بل أن أصغر عملة صينية متداولة تدعى بـ( الماو ) تشبها باسمه"
بعد أمتار شاهدت محلا لبيع باقات الزهور وكان الصينيون يتحركون برشاقة لشراء باقة زهور يحملونها ليضعوها بعد إنحناءة تشير أننا كنا " بمكان مقدس " عند قدمي تمثال كبير لماو كان يتوسط قاعة كبيرة مليئة بباقات الزهور والحرس المدجج !!
واصلنا السير فإذا بغرفة بها الجثمان المسجى كأنه تمثال من الشمع كان ضوء مصباح ينطلق من الوجه النائم لرجل ظل يرتدي البدلة العسكرية حتى في قبره !!
ثمة حارس يستحث الجميع على الإسراع في السير بعد القاء النظرات الخاطفة على الجثمان , ثم واصلنا السير لندخل قاعة بها نياشين وأوسمة ومعارض صور وهدايا تذكارية عن ماو يستطيع الزائر شراءها
أعلام حمر
بعد ذلك خرجت لأجد قبالتي تمتد بكين القديمة خارج الساحة عدت الى البوابة الرئيسة لألتقي أخي وآخذ منه الكاميرا ليدخل ,ومن الغريب إن أحد رجال الأمن إستوقفه معترضا على دخوله بدعوى إنه دخل المكان مرتين فأفهمه إنه لم يتمكن من إكمال عملية الدخول بسبب الكاميرا اللعينة !! فإقتنع وسمح له بالدخول
بينما بقيت أنتظره خارجا محدقا في وجوه الزائرين ,كان معظمهم من كبار السن وكانوا يحملون الأعلام الحمر الصغيرة كتلك التي تحمل في ملاعب كرة القدم بأيدي المشجعين وكانوا يضعون على رؤوسهم قبعات حمر
حين التحق بي أخي واصلنا تجوالنا في الساحة كان الجنود يملأون المكان يسيرون بخطى عسكرية متقنة وسط أفواج السياح الذين يلتقطون الصور أمام صورة ماو والنوافير الكثيرة التي يساهم رذاذها في تلطيف الجو ,البعض يجلس قرب الحشائش التي تحيط بالساحة ,إذ يمنع السير والجلوس على الحشيش منعا باتا,وتنتشر الزهور بألوانها المختلفة لتؤكد إنك في مكان فريد لن تكتمل زيارة الصين الا بالمرور به .