الكتاب: شقائق الأسيل
الكاتبة: راوية جرجورة بربارة
الناشر: دار بيسان-القاهرة ومكتبة كل شيء – حيفا
شقائق الأسيل -كتاب غير عادي في النتاج الأدبي العربي في اسرائيل . هذا هو استنتاجي الأساسي من قراءة نصوص هذا الكتاب الفريد والمتميز . وتبرز خصوصية هذا العمل، ليس فقط من حقيقة أنه يشكل إبداعاً أدبيا حقيقيا، في زمن كثرت فيه الرداءة الأدبية، إبداعاً ونقداً، إنما خصوصيته في إنه أول إبداع يثري لغتنا العربية بنصوص تتوهج فيها اللغة وتشكل حالة أدبية قائمة بذاتها .
قد تكون الأديبة راوية بربارة عن قصد، لم تسجل على غلاف الكتاب، أو في صفحاته الداخلية نوعه الأدبي . هل هو مجموعة قصص ؟ مجموعة خواطر ادبية وفكرية واجتماعية ؟ نصوص أدبية تجمع أشكالا متعددة من الأنواع الأدبية ؟ وعدا مقدمة البروفسور جورج قنازع، المحاضر في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حيفا، لا يوجد أي تعريف للنصوص كقصص . ربما ترددت راوية في تسمية " شقائقها " بالقصص لحيرة ألمت بها . وأقول رغم كل ما يكتشفه النقد من نقص في اكتمال بعض القصص، إلّا أن راوية في شقائق الأسيل تعطينا أدبا قصصيا أتمنى ان أجد موازيا له في أدبنا المحلي، حتى من بعض الأدباء ذوي التجربة الطويلة والعروش الوهمية .
راوية بربارة في إهدائها لنصوصها " شقائق الأسيل" تعترف كما يلمس القارئ للكتاب، حيرتها، تكتب : " الكلمة عالم استوائي المناخ أحيانا، قطبي المزاج حينا، كروي لا بداية له ولا نهاية" . وتواصل :" الكلمة بحر حبري يهوج ويموج ليفرض سلطانه، لكنه سرعان ما يغريك برمال شواطئه وأصدافه ..". وتواصل : " منا من يبحر فوق نقاط الكلمات، ومنا من يغوص في أعماق الحبر، منا من يبني من ذرات الكلمات الحارة قصورا ومنا من يتمتع بسباحة بين السطور" .
وقد رأيت أهمية خاصة في تسجيل إهدائها لما يكشفه من رؤيتها الثقافية لعالم الإبداع الأدبي، ولمسؤولية حمل القلم، والتحدي بقول الرأي .. والأمر الأهم إن إهداءها يقول كل شيء وصلت إليه في مداخلتي الفكرية الثقافية (والنقدية اذا شئتم ) لنصوص بربارة . وأعترف إني لم أجد في قراءاتي، وهي كثيرة وبأي مقياس تشاؤون، ما هو أكثر ملاءمة بين الإهداء والنص .
أجل ... الكلمة ( اللغة ) " بحر حبري يهوج ويموج ليفرض سلطانه " !!
وحتى لا يفهمني القارئ خطأ، نصوص "شقائق الأسيل" لها نكهتها الخاصة المميزة، لغة وتراكيب فنية، والقدرة على جعل اللغة أداة حية متفاعلة مع القارئ ومع المحيط الإجتماعي، والقدرة على بناء الحوار الثقافي غير المرئي بين النص والمتلقي .
ان قضية اقرار النوع الأدبي تصبح ثانوية بحالة نصوص راوية بربارة، وهذا ما تبين لي عبر المسائل الأدبية والفكرية التي أثارها النص في نفسي . خاصة عندما نجد ان الكلمة (اللغة) في النص، أضحت مضمون العمل، او جزءا هاما من المضمون على الأقل .
شخصيا أميل ببعض التردد إلى إقرار أن نصوص " شقائق الأسيل " تطفح بروح القص، رغم ما ينقص بعض النصوص من عناصر القصة، وأؤكد بعض النصوص فقط، غير إن المثير في نصوص هذا الكتاب، إن اللغة تتدفق من قلم الكاتبة، تحمل من الجمالية في صياغة العبارة، وتركيب جمل النص، ومن رومانتيكية اللغة، ما يجعلها تتجاوز نواقص الروح القصصية، لدرجة تكاد تقترب راوية مما يعرف بالقصة اللغوية، والذي يعتبر الكاتب المصري جمال الغيطاني من روادها، وربما الكاتب الوحيد الذي جعل من اللغة حدثا روائيا. وأشهد ان لغة راوية بربارة سحرتني وأقنعتني ان اللغة ليست وسيلة فقط، وليست غاية بحد ذاتها، انما اداة، من يحسن استعمالها، يجعلها أكثر من وسيلة، وأرقى من مجرد غاية، يعطيها القدرة على أن تشكل ضلعا ثالثا في العلاقة إبين الخطابين التاريخي والأدبي، بحيث نستطيع أن نقول إن اللغة ليست الأداة لصياغة الخطابين الأدبي والتاريخي، انما الجسم الثالث القادر على تجاوز القصور في الخطابين .
كنت أفتقد دائما، لدى الكثيرين من كتابنا القصصيين، ما أميل إلى تسميته ب " اللغة الدرامية"، من رؤيتي أن اللغة القصصية هي لغة مختلفة عن لغة الموضوع السياسي، او لغة النقد الأدبي، أو لغة المقالة العامة، وإن القصة (وأقصد دائما الرواية أيضا) بصفتها تعتمد على الفكرة الدرامية، تحتاج إلى أن يطور الكاتب لغة درامية، لغة لها نكهة لا نجدها بالنصوص غير القصصية . وكم اثلجت صدري لغة "شقائق الأسيل" عندما وجدت إن قناعاتي ليست مجرد موقف ورؤية نقدية، وقناعة فكرية، وتجربة ذاتية أيضا ... إنما قاعدة صحيحة وهامة لا تكتمل الكتابة القصصية بدونها، مهما سمت الفكرة والقدرات اللغوية .
تعالوا نقرأ أربعة أسطر لما أُحاول أن أشير اليه، وقد أخترت أول أربعة أسطر من النص الأول بعد أن أيقنت ان كل نصوص الكتاب تصلح كنموذج للغة راوية : " أصبحت تخاف من نفسها، لأنها في ساعات اللاوعي تتقمصها أرواح غريبة لنساء غبن بين سطور التاريخ، خرجن من لوحات دافنتشي، اثقلن بيوت الشعر بزخم عطرهن، أطللن من شرفة جولييت .. سمراوات.. شقراوات، كن يحتفلن داخل جسدها كلما أصابته غيبوبة " .
هذا ليس سردا تقليديا . ليس ديباجة لغوية بلا معنى . ليس رصف كلمات بلا مضمون . ليس نقشا لغويا جماليا لامعا وفارغا .
هذه لغة دراما تشارك بلعبة القص . لغة الدراما تثري فكرة الدراما، وتشكل معها الضلع الثالث مع الخطابين المشكلين لعملية الإبداع الأدبي، الخطاب التاريخي (السياسي، الفكري، الفلسفي) والخطاب الأدبي (القدرة على تحويل الخبر، الحدث، الموضوع، الفكرة، إلى قصة تعبر ثقافيا عن الحدث )
لأول مرة منذ فترة طويلة لم أقرأ في أدبنا المحلي (داخل إسرائيل) خطاب أدبي، ولغة درامية شديدة الكثافة والتنوع .
الظاهرة التي كسرتها راوية بربارة، وأعادت بذلك بعض الثقة والأمل لحركتنا الثقافية، هو تجاوزها للكتابة الريبورتاجية أو الإخبارية المطولة التي ميزت معظم النصوص القصصية في السنوات الأخيرة .
والأهم إنها تثبت إن اللغة أكثر من أداة أو وسيلة وتشكل إلى جانب كونها أداة ووسيلة، بطلا من أبطال النص -البطل غير المرئي، قادرة، كما هي الحال في نصوص راوية، على تجاوز أي قصور كان في التركيبة القصصية، ولا أتردد في وصف قصص راوية بأنها جد قريبة لمفهوم القصة اللغوية أيضا .
وربما هذا يعيدني إلى النظرية التي تقول إن القصة القصيرة هي "لمحة" من الحياة . بينما الرواية هي حياة كاملة... رغم أنى لا أومن بالنظريات التي تبرمج وترتب الإبداع الأدبي لأننا كنا شهودًا على روايات كل عظمتها في لغتها، ونحن الآن امام إبداع أدبي، ربما لأول مرة بمثل هذه الكثافة في أدبنا العربي داخل إسرائيل، روعته وقيمته العليا وعظمته في لغته .
ومع ذلك أقول إن نصوص راوية بربارة تحمل ملامح القصة، وبعضها هي قصص قصيرة جميلة وكاملة ولا غبار على رونقها القصصي إطلاقًا .
من البداية، بعد قراءتي لهذه النصوص، كان واضحًا لي أنى لن أكتب مستعرضًا نصوص شقائق الأسيل، إنما ما انارته هذه النصوص من انطباعات وأفكار أدبية ثقافية . ورغم ذلك أجد أني مضطر للتلميح حول بعض جوانب الكتابة القصصية في "شقائق الأسيل" .
في إحدى الندوات سمعت نقدًا حول فقدان قصص راوية للحوار . واضح أن للحوار جماليته المميزة إذا أحسن استعماله، وهو من أصعب المقاطع في أي عمل ادبي، ويشكل أحيانًا المحور الأساسي لفهم شخصيات النص الأدبي (والروائي) ومبناها الفكري أو الدرامي وردود فعلها ومبنى شخصياتها، وأحيانًا يشكل الحوار حالة التصعيد الدرامي للقصة أو الرواية، والحوار يسهل على القارئ فهم الشخصية وتناقضاتها، وميولها وطرق تفكيرها وردود فعلها مما يزيد من كثافة الأجواء القصصية . ولكن الحوار أيضًا، إذا لم يحسن استخدامه، يشكل الفشل الكامل في النص القصصي . وربما بذكاء أبتعدت راوية عن الحوار . رغم إنه قائم في نصوصها . وقد لاحظت إن هذا ليس الجانب المميز في نصوصها ولا يخدم في حالة راوية المبنى القصصي... وأحيانًا يبدو الحوار تقسيما للسرد ليس إلا، وليس تفجيرًا لحالة درامية .
مثلاً في قصتها الأُولى يدور الحوار بين بطلة القصة (هي) وبين الطبيب وتتبع برباره الشكل المسرحي في تسجيل الحوار . ورغم الجمالية الخاصة لفكرة هذه القصة، إلاّ إنها لم تستطع أن تثير الدهشة القصصية المطلوبة . والحوار كان جافًا . كان بإمكانها أن تصيغ الحوار بشكل مونولوج داخلي للبطلة، مع الإشارة إلى الإنفعالات للبطلة بنفس إطار المونولوج . ومع ذلك نحن نعالج ما قدمته لنا بربارة والحديث عما هو أفضل، يجيء من باب المقارنة والدلالات النقدية فقط .
لا بد من الإشارة إلى جانب جوهري في هذا الإبداع المميز، وهو كون راوية بربارة، ذات أُفق ثقافي واسع للغاية، غني عن القول إن ثقافتها العربية شامله، بحكم كونها متخصصة في التراث العربي وتعد لشهادة الدكتوارة في الأدب العربي (حصلت على الشهادة) . وإنما هي، وهذا بارز وهام، مثقفة ذات آفاق عالمية . مثقفة تعيش عصرها بكل تفرعاته وامتداداته... مثقفة عصر العولمة . لم تغرق في التراث لتشدنا إلى الماضي، لغويًا وفكرًا، إنما جعلت من التراث ثراء للغة عربية تعيش عصر العولمة، مناخًا لغويًا وثقافيًا، إنها بساطة تملك إحساسًا بعصرها ومتطلباته اللغوية .
راوية بربارة تكتب نصوصًا لقارئ عولمي الثقافة، لقارئ لا يبحث عن الإسترخاء أثناء قراءة النص تم يغمض عينيه مستسلمًا للأحلام، إنما لقارئ ابن عصرة... ابن عصر العولمة . ملم بثقافته وثقافة عالمه . ويقرأ ليفكر، واضح أن للقراءة متعة خاصة، والتفكير هو وجه آخر للمتعة . وإلا أي قيمة تبقى للإنسان إذا فقد متعة التفكير ؟!
من هنا رؤيتي إن هذه النصوص تطرح فكرًا. قد يقول البعض ان راوية تطرح قضايا المرأة، هي حقًا تطرحها، ولكنها لا تطرحها لأنها امرأة، بل لما تشكله هذه القضية النسائية من أهمية في الرقي الثقافي والعلمي والإجتماعي لأي مجتمع كان، وإنا، وأُكرر ما قلته في مناسبات ومقالات عدة، أرفض مصطلحات ومفاهيم تفرز بين الأدب عامة والأدب النسائي . الأدب هو أدب بغض النظر عن جنس الكاتب وعن القضايا التي يطرحها . لا يوجد مثل هذا الشيء (أدب نسائي) إلّا في المخيلات التي ترى بالمرأة في المجتمعات الشرقية، حالة ثابتة من الدونية الإجتماعية والدونية الإنسانية أيضا .
ادعى مثقف في أحد الندوات الأدبية، إن الدين كرم المرأة . لا أعرف مثل هذا الدين الذي كرم المرأة . كل الديانات التوحيدية أكدت دونية المرأة بشكل مذل وغير إنساني . وهذه الفكرة عن دونية المرأة تسود ثقافتنا الشفهية وأمثالنا وصلواتنا . وكثيرا ما نتظاهر بتقدميتنا معلنين اعترافنا الأبوي بمساواة المرأة، بالطبع لا نتردد بإقرار المساواة لكل النساء اللواتي خارج سلطتنا، إما نساءنا، فالويل لمن يجرؤ على المناداة بمساواتهن . هذا هو الحد !!
مجرد طرح اصطلاح "الأدب النسائي"، هو نظرة دونيه للمرأة، وكأنها تكتب لترثي واقعها الشرقي وتستجدي بعض الأعتراف من عالم الفحول . إن الأدب الذي تقف وراءه أقلام نسائية، يطرح ببراعة قضايا مجتمعنا بكل امتداداتها السياسية والإجتماعية والحضارية ويجب التعامل معه كأدب، ودون التمترس وراء اصطلاح "النسائي".
على الأقل لنحقق المساواة للمرأة في ساحة الأدب والأدباء ، الساحة المليئة بالإقرار الرسمي، على الأقل بحق المساواة .
وها هي راوية بربارة تقدم أفضل شهادة على قدرة المرأة على التفوق !!
nabiloudeh@gmail.com