أول الكلام :
وصلتني رسالتان من صديقين وثالثة من سيدة ليست صديقة ووصفت نفسها متابعة.. وإن اختلفت شخصيات هؤلاء الثلاثة بيد أن طرحهم كان متقاربا . يدور حول أحداث الساعة الملتهبة بين روسيا وأوكرانيا، وبالمناسبة فإن العرب هم الذين يسمونها وفق قاعدة القلب لأن اسمها الحقيقي أوكراينا !! والسؤال سأوحده بعد إذنهم : ماهو رأيك بالحرب الملتهبة والاجتياح الروسي للجارة أوكرانيا، ولأيهما تنتصر؟ سأجيب باختصار شديد وبموقف أحرص أن يكون موضوعياً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ! ولكن لايعني هذا أن اكون حيادياً فالحياد حالة لا تسلم من الميل الكامن في النفس بسبب الأهواء والرغبات وأحسب أن هواي هو الآخر أحرص أن يكون موضوعياً قدر استطاعتي فأخوكم سيجتاز قول الراحل العزيز عريان "أنا من دم ولحم مو من صخر جبجة العندي !" أذن القسم الأهم وهو شؤون الساعة :
***
كان الإتحاد السوفييتي الذي واجه مؤامرات وحصارات وحروب قد شكل ربع الكرة الأرضية قوامه روسيا وجناحان آسيوي وأوربي، وكان لينين يصف روسيا بالبربرية وخاصة في الجناح الآسيوي، وقد طبق لينين مبدأ تقرير المصير بشكل خلاق، ومنح فنلندا استقلالها لأنها كانت دولة عريقة احتلتها روسيا، أما الدول الأخرى فبقيت روسيا بمثابة الأم التي ترضع أبناءَها، رغم القسوة الستالينية البربرية المتوحشة في الإتحاد السوفييتي والأقسى على الشعوب التي تدور في فلكه.. خطأ لينين ليس في المبدأ قط، وأنما حين منح أوكرانيا الجناح الشرقي الروسي منحاً ووسع من أوكرانيا بثلث مساحتها الأصلية، وكان لينين الذي غدا متأثراً بنظرية الثورة الدائمة لتروتسكي يتوقع بأنها ستنتقل إلى أوربا وبذلك ستصبح هذه الدول تنعم بالتقدم والسلام والحرية في ظل الاشتراكية الواعدة.. والمبدأ جذوره ماركسية فأوربا المتقدمة هي المهيأة للاشتراكية وروسيا كانت الخاصرة الرخوة أو الحلقة الضعيفة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي..
كان مبدأ ستالين "الاشتراكية في بلد واحد" الذي سيصبح المثل والقدوة غدا هو المعرقل الرئيس للثورة العالمية فأي طبقة عاملة أوربية ستثور لتقتدي بمثل الإتحاد السوفييتي في حقبته الستالينية ؟! خاض ستالين الحرب العالمية الثانية وكان بالإمكان قطع الطريق على صعود النازية للسلطة لوتم التحالف بين الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الألماني الموحد وكان لتعاليم ستالين وسطوته المتياسرة التي طبعت المرحلة الأولى من الستالينية ليتحول الدرس من التجربة الألمانية إلى اتجاه وستراتيجية تمادى به لتحل مرحلة "الجبهات الشعبية" التي جرّت على الأحزاب الشيوعية – ومازالت – الويلات..
انهار الإتحاد السوفييتي بسبب التطبيقات المشوهة للاشتراكية والماركسية تحديداً في المرحلة الستالينية والمرحلة اللاستالينية (النزع الستاليني Destalinisation( . ولست بصدد بحث تفاصيل الأسباب الداخلية المتراكمة والخارجية من الدول الغربية التي دفعت وأدّت إلى الإنهيار.. ولكن لم تدفع روسيا وحدها نتيجة الإنهيار بل وجدت بعض الدول غير السوفيتية أيضاً فرصة للجنوح نحو الرأسمالية والدخول في الاتحاد الأوربي وتجاوز بعضها الحد إلى الإنتماء الى حلف النيتو!! وظل طموح وحلم يراود أوكرانيا الأوربية الغنية بل وحتى جورجيا الآسيوية الفقيرة، بينما لملمت روسيا (الإتحاد الروسي) صفوفها وبنت حلفها مع روسيا البيضاء ودول آسيا وتكونت عوامل جديدة للنهوض زادها أهمية وثقلاً الصين التي قطعت شوطاً مذهلاً في معدل النمو المتسارع الذي أخاف العالم الرأسمالي وزعيمته الكبرى أمريكا التي أطربها أنها المسيطرة على العالم بقطب واحد !!..
كانت أوكرانيا التي تشكل امتداداً طبيعياً وسكانياً وتاريخياً لروسيا حيث الجزء الشرقي بما يزيد تقريباً عن الثلث هو روسي قلباً وقالباً في دولة ترى نفسها أكثر تقدماً من الدول السلافية ما جعل الأُوكرانيين يتميزون بنزوع قومي يتجاوز الإعتداد بالنفس ليصل إلى حد التعصب ويبلغ المَيْل الشوفيني ونزوع استعلائي، واضطهاد للروس أدى إلى اسقاط الرئيس الحليف لروسيا، وازدياد التمييز ضد القسم الروسي وعدم شموله بمشاريع النمو مع زيادة البطالة مما أدى إلى تذمر وتشكيل قوات مقاومة ضد الحكومة في حين تمادت حكومة أوكرانيا تحت رئاسة زيلينسكي "الكوميديان الذائع" في التقارب مع الغرب، وخرق تام لاتفاقية مينسك الأولى الذي ينص على وقف القتال في دونباس بأوكرانيا والذي وقع في 5 أيلول 2014 الإتحاد الروسي وجمهورية دونيتسك وجمهورية لوهانسك ومنظمة الأمن والتعاون .. الذي سرعان ما انهار يبنى عليه في الإتفاق الثاني في مسينسك في 12 شباط 2015.. ورغم الفشل بسبب المماطلة والتسويف من الجانب الأُوكراني بقيا الاتفاقان هما الجوهر للعمل به وترسيخ أي اتفاق مستقبلي(*). ظل التقارب الأوكراني مع الغرب الذي أصبح يجهزها بمعدات عسكرية متقدمة، والحكومة في طرب وانتشاء والتلويح بالإنتماء لحلف النيتو، وقد تجاهلت عن عمد كل التنبيهات والتحذيرات، والرئيس الفكه اعتبرها نكتة من نكاته دون الحساب للنتائج الخطيرة.. حتى تم الإجتياح الروسي يوم 26 شباط، حيث كان المعتقد انفصال الجمهوريتان اللتان أُعترف بهما، وإلى هنا كان الأمر موضوعياً وعملياً لمواجهة تمدد حلف النيتو ومحاولة انقاذ الأغلبية المطلقة الروسية في شرق اوكرانيا.. لكن خطأ بوتين هو التمادي لاحتلال كييف واسقاط الحكومة وهو أمر خطير عواقبه خطيرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً..
اوكرانيا جمهورية غنية بمواردها الزراعية تشفع لها أخصب تربة على وجه الأرض، مع ثروة حيوانية مزدهرة، حيث تشكل دخلًا كبيراً لاوكرانيا التي كانت سلة غذاء الإتحاد السوفييتي.. ناهيك عن ذخائرها المعدنية ووفرة الطاقة الكهربائية وصناعات هامّة.. سال لها لعاب الغرب الذي يسعى لتطويق روسيا التي تستعيد مكانتها الدولية لتشكل قطباً آخر يواجه القطب الأمريكي / الأوربي المتغطرس !
تبقى الأُمنية الكبرى هي التوصل إلى اتفاق سياسي لا إلى هدنة فقط، لأنها ستُخرق ثم تفشل كما حل باتفاقيتي مينسك، الإتفاق والتفاهم هو الوسيلة الأنجع لحقن الدماء وإرجاع المهاجرين إلى ديارهم.. لا بديل عن السلام .
الفاتح من آذار 2022