أمسية تيقظ المشاعر والانتماء للفن العربي الأصيل لدى اليهود الشرقيين في رمات غان
- إنها ليلة من العمر ..
- أعادتني نصف قرن إلى الوراء .. إلى الفن الأصيل.
- لم اشعر بالوقت وتمنيت أن تستمر الليلة إلى الصبح
- فتحنا أعيننا على موسيقى وغناء عبد الوهاب ..وهذه الليلة بكيت .. ليس حزنا، بل فرحا ..كنت أشعر أني طفل ضائع التقى أهله بعد ضياع طويل.
- نريدكم مرة أخرى ..
- هذه ليلة نوسطالجيا
- شعرت بالدم يزداد تدفقا في عروقي.
- نريدكم دائما عندنا.. متى تعودون ؟
هذه بعض الكلمات التي تذكرتها ، بعد انتهاء حفلة فرقة الموسيقى العربية من الناصرة في قاعة "مسرح هيهلوم" (الجوهرة) في مدينة رمات غان.
كان معظم الجمهور من اليهود الشرقيين، كانت اللهجة المصرية والعراقية والسورية والمغاربية هي اللهجة التي سادت في القاعة الرحبة بعد انتهاء العرض الغنائي الموسيقي لفرقة الموسيقى العربية ، والتي قدمت أغنيات من موسيقى وغناء محمد عبد الوهاب . ربما استطيع أن أقول إني لم أسمع كلمة عبرية، حتى في الناصرة نسمع تعليقات إعجاب بالعبرية ، في رمات غان سادت اللهجة المصرية والعراقية حول الفرقة .. وكان الفرح موردا على وجوه الجمهور الكبير الذي حضر العرض الموسيقي ، وتجمهروا حول الفرقة يمتدحوا عزفهم المميز ، ويشيدون بالمغني إبراهيم عزت ( آفي كوهن) الذي يؤدي أغنيات عبد الوهاب بامتياز وتجلي غير عادي. وكذلك المطربة البارعة صاحبة الصوت الرائع والأداء الفني الكامل، لبنى سلامة محط إعجاب الجمهور الواسع .
حين دعاني مؤسس الفرقة الموسيقي سهيل رضوان لحضور العرض في رمات غان، ترددت، ولكنه حثني على مشاهدة العرض والانطباع الذي يخرج به الجمهور اليهودي . وأعترف إني لم أتوقع مثل هذا الجو الكرنفالي بعد العرض الكبير والناجح الذي قدمته الفرقة والمغنيان الرائعان إبراهيم عزت، اليهودي من حولون ابن الفن العربي الأصيل، والمطربة ذات التجربة والتميز لبنى سلامة.
قدمت هذه الأمسية الفنية بمناسبتين ، أولهما عشرون عاما على تأسيس فرقة الموسيقى العربية ، التي أرست نهجا موسيقيا جادا ، أخرجت هذا الفن من كونه غناء للأعراس ، إلى غناء فني ، مقدمة خلال مسيرتها عشرات العازفين المبدعين عزفا وتلحينا ، وعشرات الأصوات الممتازة، التي تقدم الأغنية حسب سلمها الموسيقي بمعرفة وإتقان للدور الغنائي ، حسب أرقى الأشكال وأكثرها اتقانا غنائيا. وثانيهما لا يقل أهمية وهو التواصل الفني مع جمهور يهودي ارتبط بهذا الفن الأصيل ، ويجد نفسه غريبا عن سائر الفنون الغنائية في مجتمعهم المغترب، والأهم خلق هذه المساحة الإنسانية من العودة إلى الجذور، والتماثل الكامل بدون ضغائن ، وبدون حواجز مصطنعة ، وبدون تحريض ، وهي لربي أفضل من مليون خطاب سياسي . الفن هو المساحة التي تجمع بني الإنسان وتنتج فكرا جديدا، ورؤية جديدة، تقف سدا منيعا أمام الفكر العنصري المدمر للجميع.
إصرار الجمهور على تقديم عروض أخرى أثمر التزاما من مؤسس الفرقة سهيل رضوان بان يعيد الكرة خلال الأشهر القادمة، ببرامج تشمل فريد الأطرش ، أسمهان، ليلى مراد، فيروز، وديع الصافي وغيرهم ، ولكن الجمهور لم يكتف، وأراد موعدا، وعن طريق مسوق الفرقة جرى الاتفاق على تقديم ثلاثة عروض أخرى خلال الأشهر الثلاثة القادمة. سألت: وهل سيكون جمهورا ليملأ هذه القاعة الرحبة؟ وكان الجواب انه في العروض القادمة سيحضر جمهورا أكبر، وقد لا تتسع القاعة للجميع. وأن هذا العرض بجمهوره الكبير، هو أشبه بإيقاظ للجمهور اليهودي الشرقي في مركز البلاد..
فرقة الموسيقى العربية يقودها الدكتور نزار رضوان، وهو يدمج بين كونه أستاذا أكاديميا للرياضيات وعازفا ومؤلفا وقائدا لفرقة موسيقية ما زالت تحافظ على وحدانية الآلات الشرقية في برامجها الموسيقية. وهي مسالة تصر عليها الفرقة، منذ يومها الأول .
شملت الأمسية أغنيات من الأغاني التي صنعت مجد محمد عبد الوهاب الموسيقي والغنائي. أغنية "كيليوبترا" التي صدح فيها صوت إبراهيم عزت:
كليو بترا أي حلم من لياليك الجميلة
طاف بالمرج فغنى وتغنى الشاطئان
وهفا كل فؤاد وشدا كل لسان
هذه فاتنة الدنيا و حسناء الزمان
بعثت في زورق مستلهم من كل فن
مرح المجداف يختال بحوراء تغني
ياحبيبي هذه ليلة حبي
ثم أغنية الفن المشهورة. ولا بد من حكاية هذه الأنشودة الرائعة ، كيف ولدت؟ ومناسبتها:
كان هنالك غضب تحول إلى كراهية من الملك فاروق لمحمد عبد الوهاب لإحساس فاروق بان عبد الوهاب "محبوب من النساء" بما فيهم أميرة ملكية هي أخته. العليمون بأسرار القصر الملكي ، يروون أن أخت الفاروق كانت حقا تبادل عبد الوهاب حبا بحب ، وأنها كانت على علاقة معه، مما أثار غضب العائلة المالكة، خاصة وان عبد الوهاب مجرد "مغنياتي"، فتدخل الشاعر صالح جودت المقرب للملك وتوسط أن يصلح بينهما، وبعد أن أفهم عبد الوهاب أن حياته في خطر إذا استمر بالعلاقة أو التودد للأميرة الملكية، كتب له "قصيدة الفن" ليلحنها ويغنيها للملك في أمسية بقصر العابدين، كبادرة حسن نية والابتعاد عن المعشوقة الملكية ، وكان على عبد الوهاب أن يُُُقبل يد الملك ويعتذر عن "خطأه".
لحّن عبد الوهاب القصيدة خلال يومين أو ثلاثة ، وجمع الفرقة الموسيقية للتدرب عليها ، وخلال أيام قليلة كانت جاهزة. أبدع عبد الوهاب في تلحين قصيدة الفن بوضعه مقدمة موسيقية غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الغناء العربي . المقدمة البديعة كانت من مقام النهاوند وتبدأ بمقدمة ماهرة على الكمان ويبدع فيها عازف الكمان الأسطورة أنور منسي (احد أزواج المطربة صباح وأبو ابنتها هويدا). وبعض المشاركات على القانون للجبار عبد الفتاح منسي، والذي يؤدي القطعة الشهيرة بمرافقة الإيقاع المنتظم. ويدخل عبد الوهاب بعد تمهيده إيقاعية جميلة، كأنها تقول له "تفضل غني يا أستاذ". كلمات القصيدة استبدلت بعد ثورة الضباط الأحرار عام 1952. وأزيلت منها إشارات التبجيل والمديح للملك فاروق.
الأغنية قدمهما إبراهيم عزت بإتقان وهابي يجعلك ترى صورة وجه عبد الوهاب وصوته وحضوره يتجلى على المسرح. وقدمت الفنانة الكبيرة والقديرة لبنى سلامة أغنيتان من تلحين عبد الوهاب الأولى "هذه ليلتي" من غناء أم كلثوم، ثم أغنية "أيظن" من شعر نزار قباني وغناء نجاة الصغيرة ، وايضا غناها عبد الوهاب بمرافقة العود فقط.
أيظن أني لعبة بيديه؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي : إني رفيقة دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
واختتمت الأمسية بغناء مشترك (دويت) لأغنيتين هما "ياللي فت المال والجاه" و " يا دي النعيم" .
مرة أخرى تخطو فرقة الموسيقى العربية خطوة كبيرة، فنية وإنسانية في إعادة ألاف اليهود الشرقيين إلى جذورهم الشرقية الساحرة، في أمسية تعيد مد الجذور وتطهرها من كل الشوائب التي تزدحم فيها الحياة السياسية.
nabiloudeh@gmail.com