حجم الكتاب الالكتروني: 728.41 KB
صيغة الملف: Adobe eBook Reader
المعلومات الكاملة:
المدخل إلى المدرج الرئيسي في الكلية عبارة عن قاعة مستطيلة ضلعها المواجه على شكل مجموعة سلمات من الرخام الأبيض تصعدها فتجد أمامك بابين مزدوجين ضخمين من الخشب الماسيف. الهتافات ترتد إلينا من الجدران الجراتينية المحيطة، فقد كان في معمار مبنى كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية الكثير من معابدنا الفرعونية الأثيرة. الهتافات تصل إلى السقف العالي تخترق الأبواب الغليظة الموصدة الآن. أوصدوها بألواح من الخشب السميك، سمروها بين الضلفتين في الساعات الأربع أو الخمس من ساعة ما أجبرونا على مغادرة المدرج حتى ساعة أن أجبرناهم على فتح أبواب الكلية في الصباح.
كان عددنا قليلاً ليلتها - المؤتمر العام منعقد منذ أيام، وبدأ اهتمام الطلبة في الانحسار من جرَّاء التكرار واقتراب مواعيد الامتحانات وحملات الترهيب المستترة.
لم أعد أذكر العدد بالتحديد، لابد أن أسأل الزملاء من كان معي ليلتها، أعتقد أنه كان في حدود الخمسين، البنات يبقين معنا حتى التاسعة أو العاشرة مساء قبل أن يأتي أحد من الأهل لاصطحابهن. بعض الأولاد يبقون حتى منتصف الليل ثم يغادرون لقضاء حوائجهم.
كنا على خشبة المسرح وإذا بهرج ومرج على أبواب المدرج، دخلوا علينا، عددهم لا يقل عن العشرين من صُيَّع من كبار الراسبين في كليات مختلفة، بعضها وجوه يصعب أن تكون منتمية لأية جامعة..! الأصوات تتعالى والاتهامات كذلك - هل كانوا مسلحين؟ أظن ذلك..
إيه الحكاية.. لازم تخرجوا.. ليه..؟ كليتنا وحقنا، وما بنعطلش سير العمل في الكلية، وما بنضيعش وقت الطلبة ". "ما يهمش الطالب اللي مش من الكلية يخرج.. بالذوق بالعافية حيخرج.. ما بنقولش طلبة الكلية، إنما العناصر الدخيلة لأ ".
ها هي بآذان الذاكرة تتفتح.
كنا - في نظرهم - صُيَّع وعناصر دخيلة وعملاء لأعداء الوطن ومشاغبين وزارعين لبذور الفتنة الطائفية.. كنا كذلك نخطط لقلب نظام الحكم.. معقول يا ربي هذا السخف..!، نحن الطلبة نقلب نظام الحكم..! صحيح أن للمجموعات التي تلصق بنفسها صفة اليسارية وجوهًا في صفوف وقيادات الحركة الطلابية، ولكن الأصح أن الحركة جاءت تعبيرًا عن التململ من تأخر الثأر. نعم كان الصبر في طريقه إلى النفاد. طفح الكيل كما يقولون بشكل من الأشكال. كنت من أفراد قوى الصاعقة التي تشكلت في أعقاب الهزيمة. كنا نريد الأرض. "خليكو في دروسكو.. الطلبة ملهمش في السياسة ".
خرج علينا السادات يقول هذا مخطط.. كان "فكهًا" ومثيرًا للسخرية.. كانت الآمال العراض في تحرير الوطن مخططًا أجنبيًا، واتهامات بالتمويل الأجنبي، والجهات الخارجية، والعناصر الملونة، العناصر الملونة معناها الشيوعيون الفاسدون الملحدون. المقصود من اللون هو اللون الأحمر طبعًا. كان الاتهام بالشيوعية هو البعبع المستخدم "للتكريه ".. وكان الناس يصدقون. الشيوعيون فعلاً أو اعتبارًا أو اعتباطًا والمباحث..!.
كان لابد من قرار سريع .. قرار فردي إذن.. الانسحاب. مستحيل الاشتباك مع هؤلاء الصيع. كانوا موفدين من المباحث لافتعال مشاجرة معنا. الهدف واضح هو أن تخرج صحف اليوم التالي وعناوينها تقول "انفجرت عَرْكَةْ بين الطلبة المعتصمين في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية مما أدى إلى تدخل قوات الشرطة لرد الأمور إلى نصابها "شكلنا دائرة متضامة، جلسنا على الأرض في منتصف المسرح، البنات القليلات اللائي كن معنا تلك الليلة في المقدمة ثم الأولاد. أحاول التفاوض مع زعيمهم من منتصف الدائرة. تشاء الصدف أن يكون رأس الفرقة "طارق" وهو صايع أعرفه من جليم، واحد معارف "جمال" بالتحديد. وصاحبي المحلاوي الذي كان متابعًا للحركة الطلابية من واقع أنه كان مناصرًا لي وساهرًا على أحوالي ومصدقًا لكلامي لمجرد معرفته بأن صديقه عزيز إنسان مخلص..! بدا أن تفادي التصادم ممكن. "طيب ما دام كده.. ما دام لازم نخرج .. هنخرج إلى مبني الجامعة المواجه وليس لكم أن تتدخلوا أو أن تعترضوا على ذلك انتظمنا في طابور، بقيت في المؤخرة حتى خرجنا جميعًا، الواقع أن هذا كان في مصلحتنا. كنت قد لاحظت أن مشاركة الطلبة في تناقص. تباطؤ في الإيقاع وتراخٍ في الحماس، هذا استفزاز آخر وتصعيد آخر تقوم به السلطة. سيثور الطلبة وتتولد نفحة جديدة من المقاومة.
خرجنا من المدرج إلى مبنى الكلية، طلبت من الجميع الاسترخاء أو النوم أو لعب الكوتشينة أو سماع الراديو.. أي شيء غير الكلام. المهم الحد من التوتر والاستعداد لمواجهات الصباح. الساعة الآن تقارب الرابعة صباحًا. كان مراقبونا الذين عيناهم في الشوارع للمراقبة قد رصدوهم. جاءوا بوجوههم العابسة المعذبة، لا تثير الرهبة بقدر ما تثير الشفقة. ألوانهم غامقة من لفح الشمس. جباهم داكنة. شواربهم وأزياؤهم بسواد الغراب النوحي. شرَّفتنا قوات الأمن المركزي تحمل الدروع البلاستيكية الشفافة والعصي والقنابل المسيلة للدموع. أحاطت بأسوار الكلية من بعيد. في الشارع تبدأ هيصة الصَّباح. طلاب يحضرون أمام الباب في أفراد أو مجموعات صغيرة تتزايد عددًا. على الباب كان الحرس الجامعي واقفًا (وكان من مطالبنا إلغاؤه) ووكيل الكلية الأبيضاني، الأصلع قليلاً، المحني القامة يعترض سبيل الداخلين (هل كان عميد الكلية الدكتور
عبد السميع مصطفى قد استقال فعلاً..؟).
اعترض طريقي وكان رأيي فيه أنه ضعيف الشخصية، يهر على نفسه بمجرد أن تستدعيه المباحث.. زعقت في وجهه قائلاً.. لأنك لا تعرف من أنا؟ لأنني طبعًا لست من كلية الهندسة؟ لأنك بالطبع لم تسمعني من قبل؟ ألم تلمحني من قبل؟ أم لعلك تظنني بلطجيًا من هؤلاء الذين كنت ضالعًا في إطلاقهم علينا ككلاب مسعورة لضربنا.. أسقط في يد السيد الوكيل.. تردد، رجع خطوات إلى الخلف، مررت من أمامه بكل ما أمتلك من تحديات الغضب.
قوات الأمن المركزي لها خِوَذٌ تطل علينا من وراء الأسوار. صرخت ألوذ بالطلبة، أستنهض مَنْ حولي: كلاب المباحث يطاردوننا وكلاب البوليس يتنططون من حوالينا لتخويفنا.
شيئًا فشيئًا تتجمع المظاهرة داخل الأسوار، طلاب الأمس استعادوا الاهتمام المفقود، يتقاطرون بروح جديدة، جاءني أحد المعارضين وقال لي بالحرف الواحد "بالعافية لأ.. نختلف نتفق مش مهم.. لكن بالعافية لأ. إحنا معاكوا" تتدافع الجموع وتتضامُّ الصفوف من خارج المبنى إلى المدخل إلى المدرج الرئيسي. و"بلادي بلادي بلادي.. "تتردَّد أصداؤها بين الرخام وحديد النوافذ وجرانيت العواميد.. تتجه الجموع وأنا وسطها إلى الأبواب الموصدة تدفعها دفعًا.. تتداعى أمامنا.. نخرج جميعًا إلى المدرج ننزل درجاته، نصل إلى خشبة المسرح ونحتلها، تنصب المنصة في أقل وقت ممكن، جلس الجميع، لم يكن هناك مكان للوقوف. صمت مطبق "ترمي الإبرة ترن" رهبة وجلل في الموقف، نتحدث بدون ميكروفون - فقد نزعوا في الفجر جميع أجهزة الصوت، إمبليفاير، ميكروفونات الخ.. وأغلقت القاعة وعقد المؤتمر الدائم من جديد.. الحاجة ماسة لتعويض الميكروفونات المنزوعة. بحثت عن "يوسف"، من كامب شيزار، شعره أحمر وشكله خواجة. خرِّيج سان مارك ويتحدث الفرنسية بطلاقة. عرضت عليه خطة.. اقتنع بها - تسللنا سويًا، قفزنا على السور الواطي من ناحية مبنى عمارة، من بين عيون رجال الأمن المركزي، والمخبرون كالذباب في الشوارع حتى وصلنا إلى السوق في الخضرة حيث توجد محال تأجير الشوادر والميكروفونات للأفراح والأعياد. تبادلنا الكلام بالفرنسية لما خرج صاحب المحل إلينا مع زيادة الافتعال والدَّلع.. "لو سمحت محتاجين أمبليفاير وميكروفونات لأننا عاملين "بوم" (أي حفلة راقصة) أصل أختي عيد ميلادها النهاردة " هل صدق الرجل أم تظاهر بالتصديق؟ لم يُبدِ أي اعتراض على أية حال وإنما كرر جُملاً تحذيرية اعتيادية.. طبعًا طبعًا يا راجل.. "إوعى كده يا يوسف" أسبقه إلى الرجل.. "تدفع إزاي، عنك يا راجل.. الحساب كام؟ معيش فكَّه.. في بيتها.. ألف شكر". أخفينا المعدات في ملابسنا، عدنا إلى قواعدنا سالمين.