عودة الى فقاعة فنون الحداثة العبثية ( أ )
الحداثة الحقيقية ليست تَفَلْسُفاً يقال، ولا عبارات فارغة لتخويف الأطفال ... وليست عصا موسى، ولا خاتم سليمان ... بل هي، وبكل يُسر وبساطة ، مَسيْرَة تَتابُع واستمرار بالابداع والتجديد والابتكار؛ يصنع الانسان عبرها تاريخ تطوّره ضمن تواصل تراثه الثقافي.
وهكذا فلكل زمن حداثته العضوية والموضوعية: المفيدة والجميلة، التي أفرزت ثقافات وفنون مختلف المجتمعات؛ ومجموعها المتمثل في حضارة الانسان على الارض.
أما الحداثة الغربية في عالم المسلمين، فهي اتجاه مستورد، أو مفروض على شكل شبكة من المعارف والفعاليات في الثقافة، والفن، والشعر، ونظام الاخلاق، والقيم الاجتماعية ... التي تدعو في مُحَصِّلتها، خاصّة بالنسبة لما بعد الحداثة، الى حرية بلا ضوابط، أو إطار ... ومنها المُنْفَلِتة والعبثيّة والعدميّة ... التي تصبّ في اللامعقول الذي دمّر ثقافات المستعمرات، والذي تنقلهُ وتؤهلهُ وتفرضهُ وترفعهُ العولمة الوحشية من تخريب محلي واقليمي ... الى استعباد للعالم أجمع.
وأهم مايميِّز هذه الحداثة هو خلق اتجاه عالمي سِمَته: اللاانتماء واللامنتمي؛ وجعله مرجعية معاصرة تهدف للقضاء التام، مباشرةً أو تراكماً، على تراثات وثقافات وفنون شعوب الأرض المرتبطة عضوياً وتكاملاً، بالبيئة المحلية، والمعتقدات الدينية، والمثمّنات الأخلاقيّة والعادات السلوكية ... التي تعمل العنصرية الغربية على اجتثاثها واستبدالها بسئ التغريب.
وما الذي يجري في إمارات الخليج إلاّ تجربة نموذجيّة لتغريب عالم المسلمين، من بلاد المغرب وحتى شرق آسيا من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يخلّف شواهد مادية على ذلك؛ منها محق الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا ... وما يحاك لايران واليمن ومصر وباكستان ونيجيريا .... وان الأطفال والمجانين والغافلين تماماً لايؤمنون بأنظمة مؤامرات النخب الغربية السوداء.
وما فنون الحداثة العبثية الا من هذه الفعّاليات العدمية الفجّة المُشينة التي تتراقص غرابةً وشذوذاً وهلاميةً وتناقضاً ولامعقولاً وتهويشاً ومسوخاً وميوعةً واستسهالاً وإسرافاً ولا مسؤوليةً وقبحاً وابتذالاً وفهلوةً وكذباً ونفاقاً واحتيالاً وخبثاً وزيوفاً وتهاوياً ... وسرعةً في التغاير الحربائي المضطرب المدعوم بالاعلام الارهابي المظلِّل الذي يَنْظُم الأكاذيب لاستحلاب الذهب واستخلاص واستجلاب البترودولار، ونهب المال السائل السهل السائب ... لملئ بطون وجيوب وحسابات وقصور .... آلهة الأرض وبراغي ماكنتها المُرعبة ... وما آخذين منها من شئ.
ولتنفيذ ذلك يتواطأ المستفيدون الذين " يَحكُّون ظهور بعضهم ": ساسة، وإعلاميين، ودينيين، ومدراء متاحف ودور مزاد و " أصحاب " صالات للعرض ... وغيرهم الكثير ... الكثير، مما لاحصر له ... ممّن استعبدتهم آلهة الأرض، والذين يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
وبالتالي فان فنون الحداثة العبثية هي إرهاب ثقافي وأخ شقيق لأشكال أخرى من الارهاب الهمجي الإبادي التدميري الأطلسي، ك "القاعدة "، و " بوكو حرام " ... ومثيلاتها ... من " زرقاوي "، و " صحوات "، و " نُصرة "، و " داعش " ... مما ينتمي الى نفس مصدر الارهاب البربري الأم: القوى السوداء من النخب الغربية / المجلس العالمي المفروض لادارة الانسان، واحتكار المعرفة، وإفساد الأرض. حيث تصرّ الصهيونية الأطلسية على تنميط مليارات البشر كجزء رئيسي من فرض ثقافة معولمة وخاوية تذبح الأصيل وتضيف أنهار الدماء الى البترودولار، وتمرِّر سيء التغريب...
فعّاليات ... فعّاليات ... فعّاليات ... مؤسّسات ومؤتمرات ومعارض وصالونات ومهرجانات ... للرشوة والافساد واللهو والتطبيل والإشغال ... مما لا يحمل الأصالة، ولا ينفذ الى الأعماق بالاثارة والدهشة والابهار الروحي والفكري والبصري، ولا يثير المتعة والمسرّة والبهجة والالهام، ولا يُواصل الوظيفتين الأساسيتين والمركزيتين للفن لدى جميع الأقوام والأمم وفي كل الثقافات: الفائدة والجمال.
واذا كان طلاب الفن يدرسون في معاهد أكاديمية تصقل المواهب، وترتقي بالأذواق، وتَشْحَذ التقنيات، فلماذا يتوجّه هؤلاء الفنانين بعد تخرجهم لانتاج فنون الحداثة العبثية؟. إذ كان بامكانهم عدم دراسة الفن وتقنياته، والقفز المباشر الى سوق فنون العدم، ولهم في ذلك بحار من المساعدات والامدادات.
وبالفعل فقد أقمتُ في بلد عربي كان جُلّ فنانيه يمارس ويعرض فنون العبث ويفرضه على الناس، حتى أضحت المقياس المقبول اجتماعياً. وتعرّفتُ على " رسّامة " سلكتْ هذا الطريق واغتنتْ واشتهرتْ. وفي يوم وهي تتحدّث عن " رسّام " آخر لم يدرس الفن في حياته قائلة بأنها علّمته الرسم، لكنه تمرّد عليها ... فهاجر الى مدينة أخرى لايعرفه فيها أحد. وقدّم نفسه كفناّن. وصار " يرسم ". وبالأساليب الملتوية والتظليل والفهلوة والإسناد سرعان ما أصبح ميسوراً على ظهر أثرياء الغفلة في مجتمع بعيد عن فنون الحداثة العبثية، بل محاط منذ 1400 عام ببيئة وفن تقليدي إسلامي مفيد وجميل ... لكنه للأسف، فقد أزلّهُ مثقفوا المساومة والذلّ، فصار يرنو ل " اللحاق " بمعاصرة العبث وحب الظهور ... لا على صهوة البهيّ الأصيل ... بل على الخاوي الدخيل.
لقد تمّ توظيف الفائض المالي العالمي الضخم الذي تراكم في بداية الالفية الثالثة في عدة مجالات في مقدمتها الحروب، والاسهم، والعقار، والفن ... وبينما يعرف العالم محصّلة ومآل الحروب العدوانية لحلف الأطلسي ... ومنها محق العراق وتخريب حياة العراقيين ونهب مواردهم الطبيعية، وتحف وآثار ثقافاتهم ... بحثاً دؤوباً عن أسلحة الدمار الشامل التي يمكن تفعيلها في 45 دقيقة فَتُفْنِي الحياة في أوربا وامريكا! ... فقد نجم عن تفجير فقاعتي الاسهم والعقار الازمة المالية - الاقتصادية العالمية التي ضربت شتى مجالات الحياة، خاصة في الغرب. لكنّه صاحَبَ ذلك دخول فئة من الاثرياء الجدد الى ساحة جمع الاعمال الفنية، مما جعل الطلب عليها يفوق العرض. وتقود هذه الظاهرة الى: أولاً، ارتفاع أسعار التحف والمنتجات الفنية. وثانياً، البحث عن ما تبقى من خزين تراثي سواء بالسرقة على النطاق العالمي، أم من الورثة، وخاصة الغافلين. وثالثاً، إدخال أعمال الروّاد العرب والمسلمين والهنود ... الى سوق الفن بعدما كان جلّهم مُسْتَثْنى عُنْصُريَّةً من عرضه للبيع في دور المزاد العالمية. حتى ان بعض المصادر المتخصّصة أشارت الى انه خلال الازمة المالية - الاقتصادية الحالية فاقت مبيعات الانتيك والتحف والاعمال الفنية عام 2009 عشرين مليار دولار؛ إذ لم تتأثر الاعمال الفنية الراقية. وأخرى لم تكن لتدخل دور المزاد قبل عام 2000 مثل لوحات محمود سعيد من مصر، وتماثيل برويز تانافولي من إيران، والزخارف الكتابية لاحمد مصطفى من مصر، وغيرها مما أصبح بعضها يكسر حاجز المليون دولار.
وما أن ضرب الكساد اقتصاد الغرب ... فَشّتْ وانْفَجَرَت فقاعة فنون الحداثة العبثية... ومما نجم عنه إغلاق عدد من صالونات الفن في عواصم وحواضر الغرب لأن أصحابها لايحقّقون مايكفي من أرباح تسد تكاليف تسيير هذه الصالونات وتبرّر تواصلها؛ وتكثيف جهود الغرب وآلته الاعلامية لاستحلاب مزيد من العقود من الخليج الغارق في بحار اليورودولار كأفضل ساحة في العالم لتحقيق أرباح خيالية من كل مجال ممكن؛ ومنه على ظهر تجارة الفن؛ وفي مقدمتها رفع أثمان منتجات الفن الجميل، وكذلك " فن " العبث الى أرقام عالية، فكلاهما يدرّ الأرباح ... وإيهام الأثرياء بانها من أأمن انواع الاستثمار. فانتشرت صالونات وغاليريهات الاعمال الفنية للتغرير بشباب الجامعين البسطاء عن قرب، ولتسهيل خداعهم وتسعير المنافسة والغيرة والتفاخر بينهم وسحب أموالهم.
ويُوهم المستشارون الفنيون والتجار ... الجامعين، وفي مقدمتهم أثرياء العرب، على ان الاستثمار في فنون الحداثة العبثية هو كالاستثمار في الذهب والعقار. مما يُباع عادة باسعار أعلى من شرائها.
لكن هل باستطاعة من يقتني لوحة من فن العبث بمليون دولار بيعها متى اراد بنصف ثمن اقتنائها؟. ومن ذلك، فقد أفرزَ ازدهار الاقتصاد الياباني أغنياء أصبحوا في عقد ثمانينات القرن الماضي يجمعون الفن من مختلف بلدان العالم؛ حتى ان أحدهم اقتنى عام 1990 لوحة لفان غوغ بسعر 82.5 مليون دولار كان في حينه رقماً غير مسبوق في عالم تجارة الفن. لكن سرعان ماداهم الركود الاقتصادي والأزمة المالية أثرياء اليابان، فصار منهم من يبيع بعض ماجمعه من لوحات للخروج من الازمة وتسديد ديون مُسْتَحَقّة. وهنا جاءت المفارقة بان سعر البيع إبّان الازمة أقل بكثير من سعر الشراء في وقت الازدهار: فلوحة " طاحونة جاليت " لرينوار، التي اقتُنِيَت عام 1990 بمبلغ 71 مليون دولار، بيعت عام 1997 ب 45 مليون دولار فقط. ( راجع: اليابان، الركود يضيِّق الخناق على الفن، مجلة العالم، لندن، 3 أبريل 1999، ص. 43 ).
ويطال ذلك تجّار الفن الجشعين الذين يقتنون بأسعار عالية لتغذية الفقاعة المفتعلة التي قد تتأخر، أو لاتتجدّد في نفس الموضوع؛ مما يفضي إلى إفلاس البعض، وإلى تجميد المال السائل، أساس الحركة التجارية، فيجلس تاجر الفن ملوماً محسورا، في شدّة وعُسر نسبة لما اقتناه في زمن اليسر ، فيبدأ بفرز أفضل مايمكن بيعه على أمل تصريفه من خلال دور المزاد للحصول على مال سائل. لان مااشتراه فى بداية انتفاخ الفقاعة لن يدرّ عليه إلا القليل بعد انفجارها و / أو نتيجة التدهور العام للاوضاع الاقتصادية.
وكذلك الحال بالنسبة لبعض المؤسسات العالمية التي تتأثر سلباً بالأزمات المالية، مثل " جمعية أركاندور " الألمانية صاحبة شبكة مخازن " كارستادت " وشركة " توماس كوك " للسياحة، والتي اضطرت لعرض مجموعتها من الأعمال الفنية للبيع في مزاد Villa Grisebach ، في برلين في الفترة بين 26 – 28 / 05 / 2011 ( راجع: The Art Newspaper, No. 224, May 2011 ).
كَتَبَتْ:
Melanie Gerlis, Is art really a good investment?, The Art Newspaper, January 2014
…Art is, quite possibly, the least commoditised asset in the investment universe, offering the potential for great returns but also—as is rarely explained by its market proponents—subject to enormous risk.
Although most of the literature to date on art as an asset has promoted its status as a good investment—a view that is fuelled every time a record price is made at auction—the jury is still out. The lack of transparency on prices (particularly from art galleries, which account for a good 50% of the market’s transactions, alongside auction houses) makes true comparisons to assets such as public equity, gold, property and wine very difficult. Even in the more opaque financial markets, such as private equity, there are considerably more data points from which to create indexes, assess risk and attempt to gauge returns.
وقد سرى في الصحافة العالمية نبأ اقتناء العائلة الحاكمة في قطر للوحة سيزان " لاعبا الورق " بسعر 280 مليون دولار، وهو رقم مُذْهِل في عالم اقتناء الأعمال الفنية، إذ كَسَرَ قفزاً جميع الحواجز المعروفة. وربما سيمهِّد لصعود أسعار اللوحات الفنية الى أرقام فلكية تحت ضغط الغيرة والمنافسة والحسد ... من آخرين ... مادام بئر النفط وشعلة الغاز تنتج البترودولار.
والأغرب من ذلك ان الملايين السائلة صارت تُدفع، وبسهولة بالغة ليس لاقتناء الفن الأصيل والجميل فحسب، بل لمنتجات فنون العبث، وما دون ذلك: فاذا كانت اللوحات الحقيقية لبعض رسّامي مابعد الحداثة، ومنها الحشود العدميّة المعروضة في متاحف مثل غوغنهايم، وتيت مودرن ... تُباع بملايين الدولارات، سواء للغافلين أم للمتواطئين؛ فان الأعجب من هذا وذاك، مما لم يَعُد غريباً ولا عجيباً، هو الخبر الذي جاء في:The Art Newspaper,Nu. 253, January 2014, Christie’s sold fake Rothko ‘worth ‘ $4m.
ومع احترامي للجميع، فهل يُمَيِّز جُلّ سكان العرب والمسلمين، بل وسكان العالم كثيراً بين المزوّر والأصيل؟. وهو مايلاحظهDaniel Grant, Rockwell results illustrate market’s potential for growth, illustration is enjoying a boom in popularity – and museums are already being priced out … There are increasingly fewer distinctions between what people think of as fine art and illustrations. The Art Newspaper, Section 2 Nu. 253, January 2014.
لكن هل لم تُمَيِّز دار المزاد المشحونة بالخبراء بين المزوّر والأصيل؟!.
وكما ان ماتقدّم هو نموذج لفقاعة داخل أخرى، فهناك أنماط لفقاعات مزدوجة. ومن ذلك انه عندما وصلت أسعار منتجات العبث ذروتها سنة 2007، أي بعام واحد قبل تفجير فقاعتها، كان العبث قد تطوّر الى الحد الذي أضحت فيه دور المزاد العالمية تُفضِّل بيع اللوحات الكبيرة، وترفع أسعارها، وتشجع زبائنها على اقتنائها. وكأنّ الفن الجيد يقاس بطول اللوحة وعرضها وعدد أشبارها ... وكأنّ المنمنمات الاسلامية الراقية، أو لوحة الموناليزا ... تقاس بالأمتار!. حتى ان موضوعاً ظهر في الصحافة الفنية في الغرب بعنوان “ Buyers Say Big Is Best “, Georgina Adam, Size matter. Why is the work getting bigger?, The Art Newspaper, Nu. 226, July / August 2011.
يُتبع