سطات:مدينة الملائكة فقط

2008-07-05

(بحث في وجدان أرض الحكايات .. سطات:مدينة الملائكة فقط)

مقدمة خيالية

فواكه الخريف يزداد مذاقها إمتاعا ، خصوصا في هذه المرحلة الماطرة من فصل الشتاء ، والذي يبشر بوفرة مطرية استبشرت لها القلوب؛ في ما يستمر الرمان في تربع عروش كل الفاكهة رفقة آخر مرحلة من إنتاج البطيخ (الذي نسميه السويهلة) برائحته التي تغمر النفس قبل المكان .وهما معا غير عابئين بالأزمة المالية المصرفية التي أطبقت على العالم ، أو بافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان المغربي أو بخطبة هذا الوزير أو تلك الوزيرة أو استبشار نخبة من الفنانين والمثقفين الذين أصبحوا ضباطا بوسام ملكي.

قال لي أحد أصدقائي ونحن نتحدث في كل هذه الأزمات بأن الحل يكمن في الديمقراطية،ولا شيء غيرها .

لم يكن في خلدي البحث عن جواب ولم أعرف لماذا قلت له بأن الحل يكمن تجاوز الأخطاء الثلاثة القاتلة في حياتنا ...

قاطعني كمن يحفظ دروسه جيدا : هل تقصد الأخطاء القاتلة التي تحدث عنها المهدي بنبركة؟
- انتهى من كلامه ولم أشأ الرد علية بسرعة بل تركته قليلا لعل كلامه يتقطر بشيء آخر لا أعرفه .ثم قلت له : لا يا عزيزي ما تحدث عنه بنبركة - واحسب معي بعقلك - قد أصبح ألف خطأ وألف خطيئة وألف شر وألف بلية .أما أنا فأتحدث عن الأخطاء الثلاثة التالية ..وهي ضرورة أكل الفواكه بانتظام واستمتاع، وأخذ وجهة نظر أهالي المزامزة في الموضوع وثالثا وهو الأهم تفعيل القرارات ، فمن غير المعقول أن يبقى فنان/ مثقف أيامه ولياليه وهو قابع بالمقاهي بدون شغل وهو ضابط والبلاد في حاجة إليه ؟ !

-أنت تعقد لي الحياة وتضرب المعاني .قال لي .

- قلت له:الحياة تستحق أن نعيشها كما نراها وكما لا نراها ولا تفتش إلا في ما تحب .هل فكرتَ يوما في تحديد من تكون وماذا تريد وما هي الأشياء التي تحبها وتحب فعلها و، مقابل الأشياء التي تكرهها وتنهى نفسك عن القيام بها ؟

-لا أعرف ولم أفكر في الأمر ، فأنا أحيا يوما بيوم ،وأعيش حياة بالتقسيط .

***

افتتحنا شهر أكتوبر بالعيد الصغير،عيد الفطر..ودَّعنا معه شهر رمضان بعد أُلفة حميمة. في اليوم الثاني سافرت إلى مدينة سطات رفقة زوجتي وأبنائي لثلاثة أيام إلى جانب أمي وأبي وباقي أفراد العائلة.

كنتُ في اليوم الثالث حزينا وصامتا ،في ذلك المساء الخريفي البارد ، حيث شموس سطات رخية تتراجع بغنج فاضح إلى مراقدها ، فشعرتُ برغبة جامحة في امتطاء الرياح .أحكمتُ إغلاق الجاكيت عليَّ ، ثم أخرجت الفرس من الإسطبل.. بلونه الأسود الذي يغطيه كاملا .ألجمتُه وارتميتُ عليه بدون سرج ..لأنطلق من حقول أولاد شعيب مرورا بمزارع أولاد سليمان نحو الغابة التي وصلتها لحظة كانت شمس الغروب،على شمالي، تواصل هبوطها الصعب مودعة النور بشعاعاته الغريقة وقد صارت أرقَّ من نسيم الفجر القادم ...قبل أن أعود متمهلا من حيث أتيتُ، وكان الظلام قد احتل المكان .

بداية أسبوع مفتوحة

أمام باب بيتنا بالدار البيضاء ،في الدرب، وهو حي أندلسي جميل ، والذي يوجد في شكل دائرة مغلقة ، لا يدخله سوى سكانه ..يخرج الأطفال للعب مع أقرانهم ، وتجلس الفقيرة إلى الله ، الولية مريم أمام عتبة الباب تتفرج ، وعلاء يلعب رفقة المهدي وأيوب و سي محمد . وفي كل مرة تأتي زينب لتلعب معهم يطردها ثم يدخل إلى أمه يبكي ، يطلب منها أن تمنع أخته من اللعب معه أصدقائه الذكور .بعد ذلك أصبحت تلعب مع صديقاتها هاجر وسُكينة ومريم.

قبل ثلاث سنوات عاد علاء ذات يوم إلى البيت وهو يبكي بعدما تعارك مع زميل له بالحي .فاستمعت إليه ثم نبهته ،ففهم أن اللعب مع أقرانه فيه الخصام واللعب ..لذلك لا داعي للتعود على أن نحل له مشاكله مع رفاقه..ولن نتدخل إلا إذا كان المتعارك معه أكبر منه .

الأطفال يلعبون ويتخاصمون ثم يعودون للعب ونسيان كل شيء في نفس اللحظة ..ولزينب طريقة أغرب في حل مشاكلها مع قريناتها ..ففي آخر مرة جاءني جار لي يشتكي لي من ابنتي التي عضت ابنته وتركت علامة زرقاء في أعلى ذراعها الأيمن وأراني ذلك. ولما دخلتُ وسألتُ ابنتي نزلتْ دموعها وهي تجهش وأفهمتني بأن هاجر سبتها البارحة ودفعتها أثناء اللعب، واليوم- بعدما نسيت غريمتها ما حدث - تحينت لها الفرصة لتنتقم منها بتلك العضة السامة .

نفس الشيء سمعته عن علاء ، فمرة وهو يلعب الكرة بالحي مع أصدقائه اتفق اثنان ممن يلعبون ضده فضربوه ثم تفرق جمعهم ، وفي نفس الأسبوع أقنع علاء صديقا له بمعاونته على استدراج "عدُوَّيه المفترضين" واحدا واحدا . وفعلا كان له أن أشبعهما ضربا وسبا ولم يعودا إلى الاقتراب منه.

لزينب قدرة عجيبة على استدرار الدموع من عينيها كلما شعرت بظلم أو أخذ أحد منها شيئا .ولها أيضا نفس المقدرة على الضحك وهي أول من ينام بالبيت وآخر من يستفيق .

تحبني كثيرا وتحب الخروج معي في نهاية الأسبوع سواء في السيارة أو مترجلين .لا تهمها من الرسوم المتحركة سوى" توم وجيري" مقابل الجري والركوب على دراجة أخيها.وكلما أحست بالتعب تبحث عن الطباشير لتكتب وترسم على السبورة .أو ترسم بأدواتها على ورقات بيضاء .

يوم الخميس، ونحن على مائدة الغداء نظر إليها علاء بدون كلام ثم رأيتُ دموعها تنزل، ولما استفسرته قال لي بأنها لا تريده أن يقول لي شيئا ..فقد أخذتْ معها صورتي التي كانت تخبئها بالمكتب إلى المدرسة ،وخلال حصة الاستراحة أخرجتها من جيبها ثم انزوت تنظر إليها ..وكان أن رآها أخوها وسعى للوشاية بها كي يضحك منها ومن تصرفاتها .

تأملات تأويلية في الاسم واللون

سطات مدينتي التي أنتسبُ إلى ترابها وروحها وتاريخها ،كل شيء فيها يحتمل التناسل والخصوبة بدءا من إنتاج القمح والشعير إلى توليد الحكايات وإلباسها للتاريخ المحلي الحافل بكل أنواع البطولات والكرامات.


يتمدد الخيال في البحث عن الجذر الضائع لاسم سطات بين رقم واسم علم، واحتمال ثالث غير مستكنه بعد. بالنسبة للرقم 16( سادس عشر) والذي يُنطَق في الدارجة المغربية( سطَّاشْ) ، يُقال إنه تحول إلى سطات تخفيفا لنسيان الموت الذي طال الستة عشر عالما في ظروف ما خلال القرن السادس عشر، (فنحن نسمي التذكرات الجارحة كي ننساها؟).

وقد يكون اسم سطات أيضا من اسم العلم زطَّاطْ، وهو لقب كان يُطلق على الشخص النبيل والشجاع، المشتغل بحماية الركب والقوافل من مكان لآخر بمقابل . وظيفة ذات دلالة في فترة تاريخية استعاد فيها المكان قدرته على أن يكون جسرا للحفاظ على الحياة.


روايتان.. الأولى للموت تأكيدا والثانية نفيا بالإضافة إلى احتمالات أخرى في أذهان قبائل المزامزة الذين يزرعون الحكايات ويحصدونها، وهي ليست بعيدة عن عمق و " قدسية" كرامات بويا حجاج شيخ الوقار وحارس العلوة، وسيدي امحمد البهلول العزري الزهواني المؤسس لفضاء الحياة وسط موت الأِشياء.


كل شيء في سطات احتمال لفرضيات (وقبائل المزامزة هم رحِم المدينة ومتنفسها) ، كل حياة فيها ظل لماض مأهول حتى الإشباع بالحقيقة المتخفية في كرامات وأوهام وحروب ومنافي وصهد من جهة لا معلومة. كان لابد أن يقف بويا الغليمي، كبير أولياء المنطقة منذ القرن الثامن عشر، لمفاجأة كل ذلك الضيم الذي على يمينه يتمدد وقد عرَّش على سُحنات المزمزيين، والمتقطر سائلا أحمر من الرؤوس المعلقة على سور القصبة ، حتى أن حمرة السور اليوم، لا يمكن لأحد أن يشك في كونها فعلا هي لون الدماء التي تشربها التراب واصطبغ بها. ويعتقد كل أهالينا الذين لهم تاريخ بالمنطقة أن ذلك الحائط الإسماعيلي بلونه القاني هو دم سلالاتهم من شهداء تلك المرحلة .


شموس سطات

سطات مدينة ليس لها مثيل في العالم ، صورة بالأبيض والأسود ولو وجدت من يعتني بها لأصبحت مشهدا من الجنة التي وعدنا الله بها .

مكان ذو هواء صحي ، لا رطوبة فيه ، محاط بأجود الأراضي الفلاحية ، مناخها ممطر شتاء وصاهد صيفا ، يتوسطها نهر ويسكنها أناس يجسدون التعددية الكاملة لكافة القبائل المغربية من الشمال إلى الجنوب.

سطات جزء أساسي من كل القبائل المحيطة بها ،ولذلك فقد ساهمت في إعمار الدار البيضاء وأعطتها الطابع الكوزموبوليتاني .وبقدر ما أنا فخور بالانتماء إلى مدينتي ، أنا حزين لِما آلت إليه : بناء طارئ لا يليق بحضارتنا ، تدمير للوادي والبحيرة ،هجوم على الغابة والعراصي المحيطة ، سوء التسيير والتدبير وغياب إرادة حقيقية تفهم أن سطات هي تاريخ وحضارة وإرث جماعي يمكن عبر الاعتناء العقلاني به، أن تكون أحسن من كوينكا وطليطلة الإسبانيتين وأقرب إلى أثينا اليونانية وأنتيب الفرنسية .


سطات.. أيتها النفس ، ليست مدينة ، بل شلاَّل من الخيالات ورواية أزلية أبطالها من كل الطبقات والفئات ...من كبار الثوار والعلماء والفقهاء والأولياء ... أهلها أكثرهم ملائكة وإن تحول بعضهم إلى شياطين ، فلأنهم أرادوا ذلك ورغبوا فيه .وأنا أحب هذه المدينة مثلما أحب أهلها وتاريخها الذي يأسرني .رواية مفتوحة تتجدد فصولها كل يوم ، أبطالها من البسطاء الذين يتحولون إلى ملاحم وأساطير وأغاني..أسماء أختار منها بعض من أتذكره في كل السنوات السابقة وقد غابت وبقيتْ نسيا موشوما في الرياح التي تهب على المدينة كل يوم .

الرَّايْ : آخر ورقة في اللعبة

طاعن في الخيبات بعد موت أخته " حمرية" ،و بعد الخراب الذي عمَّ فضاءه الحميمي "نزالة الْحَدِْ" وقد كان شاهدا على بطولاته الخارقة .شيخوخة تحمل ماضي البسالة والقوة وحزنا آسرا على النزالة ثم انتقاله إلى جحور بعيدة ،مرمية على هامش سطات بمكان محاط بمقبرتين منسيتين، سموه دلاس لتزامن العبور إليه مع عرض مسلسل أمريكي بنفس الاسم. لهذا يبدو كل شيء في ظاهره تجديدا وفي باطنه خواء وظلمة مثل مشاهد سينمائية قاسية على طريقة أميركية ساخرة أيضا.

كان شْعيْبا الرَّاي أحد أبطال مدينة سطات في العنف وواحدا من حماة النزالة، ولما بلغ الستين من عمره ودخل في مرحلة الشيخوخة صار هادئا لا يتكلم، يلبس جلبابا صوفيا قديما على جسده النحيل وقامته المتوسطة التي تحمل قسمات وجه بطولي علاه الخراب والتيه والصمت . يخرج كل يوم في سويعات ما بين الضحى والغروب من دالاس إلى خراب " نزالة الحد"، يسير في نفس الطرقات التي خطا فيها قبل نصف قرن خلف ثانوية ابن عباد والسوق القديم والطريق نحو امزاب.


منذ منتصف السبعينات لم يعد لأحد شيئا ما يتحدث عنه، لهذا فكل حديث حميمي بهذه المدينة ينطلق من الماضي ومن النسيان... الكورس والفانتازيا، السوق القديم والشناقة وبائع القطران المنزوي في الأقصى، أسفله قليلا حيث كان يقف عمر العيار يروي الأزلية كل مساء. المحطة القديمة والخبازات والمارشي وأصحاب الشواية، وفي الجهة الأخرى الأقواس حيث باعة الحريرة والتقلية والشاي وذلك الحائط العجائبي الذي رُسِم عليه البراق بالألوان.السويقة بعزها الكلاسيكي، وحوانيت الأثواب. كافي كوميرس ومقهى بودراع ..الملاح والمقاهي الصغرى التي تأوي المنفيين وهي لا تختلف أبدا عن الرصيف الذي كان يأوي الحصادين بالمناجل وتابندا...

الحديقة التي كانت بحيواناتها، البوسطة ومدرسة التوحيد ،البلدية التي كانت أول بلدية تبنى في المغرب كما قيل لنا بفخر. ملعب التنس، تيران الحلفة، ووادي بنموسى الذي جفت عيونه، والعراصي التي اشترتها البلدية في إطار نزع الملكية بأربعة دراهم للمتر .

سينما كاميرا التي عرضت أفلام جيمس دين، لي فان كليف، ايلي والاش، جيمس كوبيرن وأفلام كوبولا وسيرجي ليوني بموسيقي اينيوموريكوني...وحينما تهدمت هذه السينما، خرج هؤلاء الأبطال على أقدامهم متجهين نحو دالاس لكراء غرفة والتفكير في سيناريو جديد يجمعهم ؟ خرج أيضا عبد الله الضراوي وكل باعة المارشينوار أمام باب السينما يبحثون عن أبطال وبطولات لالتقاط أرزاقهم دون جدوى.

حايط هابو المشهور بحايط المعاكيز،سقط بدوره فانفرط عقد الذين كانوا ينشرون عليه عطالتهم، وبحثوا عن حيطان أخرى يرسمون جوارها مربعات لعبة الضامة، والتسابق من سيحتل الواد، ومن هو الأقوى في " الثلاثة وضامة".

الفريق الكروي الوحيد، النهضة السطاتية، ، تهدم بدوره وطال مكوثه بالقسم الثاني، ولم يتبق من الفريق سوى ذكريات الناس حول لاعبين كانوا مثل المحاربين على تراب الحمري: الزيتوني، الدكالي، جيطان، عين الحياة، بوشعيب السات ثم الحارس الكبارى، بدة، السليماني ،العلوي،المعطي... أما " حَبَاتي" اللاعب القديم فإنه لا يملك اليوم غير " شدِّه"،الثوب الأبيض الطويل، وفَرَجيته الواسعة للتخفيف من صهد ما يقع، فيما ولد الشلحة (الزمَّار) لم يعد يُزمّْر لأحد لأن الخذلان قد سحب كل أنفاسه من جوفه، ولا أحد يفهم لماذا كل هذا الخذلان ؟


تهدم كل شيء وبقيت " طروادة" الفاقدة لمفتاحها الحقيقي منسية تنتظر المعجزة !؟

 

الوجه والقفا والقناع

للشوارع بسطات والأزقة نكهة غريبة وشخصية خاصة جدا، ربما لأنها الشيء الوحيد الذي لم يستطع أحد أن يحمله إلى فضاء آخر أو يهدمه.

نوعان من الأزقة يفرضان مشهدهما كاملا ينطبع في النفس ويترك حنينا ما يرتبط بالغواية أو التأمل في أشياء وصور بالأبيض والأسود.

نوع هادئ ومنسي وآخر من شوارع وأزقة مأهولة هي عبارة عن مثلث يسميه العامة بمثلث برمودا ،يبدأ من زنقة الذهايبية/القائد علي نحو زنقة الشهداء- انتيردي وشارع محمد الخامس ثم شارع عبد الرحمان سكيرج وصولا إلى رأس زنقة الذهايبية من جديد.


في زنقة القائد علي المسماة الذهايبية، شرَّع الراهن كل ما لديه، فقد صارت الخبَّازات والخبازون يبيعون خبرهم اليومي مثلما صارت نساء وفتيات يبعن البغرير والمسمَّن إلى جانب بضاعة الشمال المتراكمة أمام العطارين وباعة الذهب. سِلع من كل نوع، مأكولات وملابس واليكترونيات مغرية مكتوبة بالإسبانية أو الفرنسية في هذه السوق الحرة إلى جانب السلع الكلاسيكية عند العطارين، في سوق حرة تؤشر على تحولات جديدة في التجارة، وتجار جدد يؤمنون بقانون آخر غير أعراف تجار السويقة القديمة، لهم خطاب وأحلام، لكن الواقع أكبر منهم ومن زيف الصورة الملونة المكتوبة بخط آخر على تراب " بويا الغليمي".


كل شيء يبدو طارئا على الزنقة باستثناء حوانيت منسية وحمام بنجلون بكساله القديم باخليفة، ومكتبة الهلال التي تراجع دورها بعدما وفرت على مدى عقود من الزمن الكتب والمجلات للتلاميذ والطلبة وعموم القراء.

قبل كل هذا، كان الصمت جزءا من ديكور المكان وكان باعة الذهب هم الأصل وسط حياة هادئة ، والآن أصبح الفضاء طافحا بالضجيج ..وكل واحد يلغي بِلغْوِه، وباعة الكاسيت يملأون ما تبقى.

في آخر الزنقة وقف لسنوات " ضريسة" بشكارته السوداء يحمل كلابه الحديدي، باحثا عن علة الفم للانقضاض عليها، وداخل محفظته تلك، أضراس شتى تؤرخ لمسيرته الطويلة في تلك الحرفة، وأوراق عدلية وأخرى عُرفية يقول إنها دليل ملكيته لحائط كبير بحوانيته وللحائط الذي كانت السينما المتنقلة في الهواء الطلق تعرض عليه أفلامها. هل يصدق أحد السيد محمد الوافي الملقب حينا بضريسة وحينا آخر بالدكتور دينوا وألقاب كثيرة ؟ لا أحد طبعا.


في شارع عبد الرحمن سكيرج، الذي كان من قبل يسمى شارع النصر، جيوب صغيرة متفرعة وهو عامر بالحوانيت والمقاهي الشعبية التي تبيع الحريرة وأطباق الكرعين بالحمص واللوبياء والتقلية.. كما إن هناك محلات مفتوحة باستمرار لبيع السمك المقلي والكفتة.. الروائح المتصاعدة، حرائق الرغبة تستجلب البدو القادمين من جهات أولاد سعيد والعراعير وموالين الواد، وأولاد سليمان.. ولِمَلا من امزاب وأولاد احريز العظمى . شاحنات النقل للكراء وسيارات نقل بدون رخص في انتظار دائم،وحركة دائمة في الضلع غير المتساوي مع الضلعين الآخرين من المثلث. وقد شغل هذا المكان البال حتى إن بعض " المراقبين" صاروا من سكان فضائه يحرسون سهوه وفراغه... وهم عادة ما ينتمون إلى البسطاء ممن يلتقطون أرزاقهم هناك ،كما إنهم تعاقبوا باستمرار على هذه المهمة بدءا من " الحاج بلحاج" الذي مات ذات صباح بارد إلى " باخا" الذي ودع هذه الحياة في صمت فلم يبق بعدهما غير " علي الشواف" و " جامايكا" بعد الجيل الأخير لشيكي والطوبيس وحمو زيا وحمو لعجل وتقهقر عبد الله الَمْسَطِّي مع أخته الروحانية.


علي ،العراف القديم الذي تهدمت بركته

كهل ذو عظم رقيق بجلباب لا لون لها، وصوت سري واحد لم يبدله منذ قدومه قبل عشرين عاما .يطوف شارعا واحدا فقط يلتقط منه ضحاياه من المسافرين المارين إلى مراكش جنوبا أو إلى الدار البيضاء شمالا.


يدنو منهم مثل السيد المسيح ،وهم مترجلون أو متوقفون بسياراتهم ،على رأسه يتدلى قُبُّ جلبابه فينطلق من غير تقديم نفسه: " غادي تسعدي غادي تفرحي.." ثم يطلب منهم مقابلا ماديا يسميه البركة، وإذا تمكن منها يعمل على مواصلة خطابه ،"شوْفته " التي هي مشهد عصي لمخرج عالمي لا يُفَوِّتُ جزئية مثل هذه. في شوْفته المتكررة يتحدث عن فرح قادم وعن صديق أو عدو ، ثم يطلب كف الزبون كلما أدرك أن فخه قد قبض على ضحيته ،آنذاك يعاود طلب معاودة فتوح البركة مكررا ما قاله في البداية قبل أن ينتبه الزبون، ثم يمشي بعدما يَشُدُّ بيديه معا" قُبه" على رأسه في حركة لا إرادية لمخرج يبحث عن ممثل جديد في مكان آخر ولا تهمه الإضاءة أبدا ،أو نبي خانته القبيلة ..ولم يعد يهمه الوحي مطلقا.


مهاجر قادم من قبائل الجنوب في سنوات قحط خلت، وَجَدَ سطات وقد فَقَدَت من يرى سعدها، فامتهن تحمل هذه المسؤولية الرمزية والتاريخية بتعويض رمزي يكفيه لسد رمقه وأداء أجرة النوم على الحصير في فضاء جماعي.

جامايكا يخيط قفطان العاصفة

يسمونه " جامايكا" لسواد بشرته، وشعره الراستا بشكل طبيعي، يستعطف الناس من أجل درهم أبيض .يذهب للمقهى لشرب كأسه وتدخين شقف قبل البدء في التقاط أعقاب السجائر.

قال عنه أحد رواد المقهى بأنه كان طفلا خجولا يختبئ خلف لونه ، يعمل عند خياط بأصابعه في ضرب القضبان /البرشمان ،ثم تحول عند معلم آخر خاص بالنساء له سدة في حانوته يقيس فيها مقاسات القفاطين على النساء، وجامايكا في الأسفل يستمع فقط إلى هسيس المقاسات المعلقة، فنضجت رغباته مبكرا وانقاد تفكيره نحو السدة والقفاطين حتى صار معلما وارتبط بالنساء والعاصفة والمخدرات، فطار عقله، ونزل إلى المثلث يتفقد ما تبقى من قفاطينه الملتبسة ؟

***

الأجيال تتعاقب، وضربات الزمن تتناوب على كل جيل دون أن تترك له فرصة للتنفس أو التأمل في سلالته، شجرة المفاخر الملونة التي صنعها الفلاحون بالكفاح والاستشهاد والتضحيات.

كل مدينة، مثل سطات، تتحول من تجمع عائلي إلى دوار يضم شتات القادمين بضيمهم وتقاليدهم، ثم إلى مركز وتجمع حضري مديني كان لابد أن يتوفر على شروط تسيير متقدمة تليق بالإنسان.

في كل مدينة رمز يُوَحِّدُ الحقائق بالخيال، كما يوحد الأفكار المختلفة حول ذلك الشيء الذي لن يختلف حوله أحد. وأي زائر لأي مدينة مغربية، في الأغلب يستطيع أن يشتري تذكارا منها أو يأخذ له صورا قرب معلمة أثرية... لكن زائر سطات لن يحمل معه غير الدهشة العابرة- مثل حنين مُفتقد- من وجوه طالها رماد الستينيات وغبش السبعينات وويلات الثمانينات والتسعينات.


ليس هناك أي رمز يختزل متخيل المدينة ( الجارح) ويكمش على الأفكار مهما كانت مُرة وساخرة، فليس هناك غير حصان يقف يتيما وسط المدينة لا يعبر عن شيء فانطازي ولن يشفي الغليل كما لن يرد دينا أخلاقيا وحضاريا مازال على عاتقنا تجاه الثوار والشهداء.

صديقي يوسف ،كاتب عمومي ومثقف، ويحمل شهادة لم يكتب لها أن تكتمل لأنه يعيش يوميا وبشكل عميق ومتماه هموم الوافدين عليه، ففي كل مساء، لحظة انتهائه من عمله، يكون مثقلا بكل تلك الشكاوى والمشاكل، فتطفو على سحنته ملامح القهر والضيم.


في كل مراسلاته وتقييداته التي يدونها للمواطنين، يكفيه معرفة الملعومات التقنية كي تشتغل الآلة، لأن يده دائما على " القرص"، وذاكرته خزان كبير وأثري لكل الصيغ المطلبية المؤثرة ؛ من ثمة فإن كل مشتك يجلس أمام يوسف سيشده أمران لا ثالث لهما إلى هذا الكاتب الحقيقي، أولا تماهيه العجيب مع الموضوع، وثانيا عباراته المسكوكة والنافذة إّذْ يُتوِّجها بجُملة بلاغية ذات إيحاءات متجذرة، وهي " لهذه الأٍسباب ومن أجلها" ..ثم يسرد بعدها مجموعة من الأسباب الكفيلة بإقناع المتلقي.


كان لابد أن يقرأ التاريخ والقانون والأدب حتى يضع يده على " القرص" ويُدَبِّج ويحرر هموم السطاتيين بلغة واضحة ستساهم في استمرار دوران عجلة الحياة.


امرأة تشتكي من أبيها الذي اسماها زهرة ،منذ أربعين عاما،باسم أختها، وله ابنة أخرى ثالثة من زوجة ثانية اسماها بنفس الاسم ، فصارت له ثلاث زهرات. رجل يشتكي من زوجته التي وجد عندها رجلا آخر قالت له إنه أبوها الحقيقي، وأدخلته في متاهات غريبة.شيخ يريد أن يحرر مقالة حول أرض " يتشارع" عليها ضد آخرين منذ أن كان شابا يافعا... لهذه الأسباب ومن أجلها يفكر يوسف الكاتب في أن أهمية الحياة تكمن في الصراع والوعي بهذا الصراع حتى لا يبقى هناك مكان لليأس أو العبث.


السوق القديم

من يذكر عمر العيار وأكلة الأفاعي وعيساوة والسباعيان، والجِمال المُكّارية والصاروخ وشكارة ضريسة.

السوق القديم، معبد هائل للحكايات، وقد تحول اليوم إلى إدارات ومنازل وصمت غريب لن ينسى أبدا السبوت والآحاد التي كان الناس يجددون خلالها دماءهم... وهناك بالجزء المنزوي من السوق شيوخ يخدمون الوظايف (برادع، وشواريات وكُفديات...) ويتحدثون بالحكمة.


بائع السكلة بصوته الشاحب مثل التَدُقَّة، لعوينة ولد البورطي، زاكورا المسلوب بالكتابة على الحائط، ولد البلدي صاحب الخيال المنفجر في اختراع بطولات وهمية ومازال ينتظر حبيبته التي خلبت وجدانه وما تبقى من عقله، مسيرة أثرية تساهم في التنفيس عن المواطنين.


هناك الربيب أيضا، الرجل القصير القامة بمزماره المصنوع من قرن الثور.. وطاقيته الحمراء البالية، تناسب ولباس الفرجة الذي يرتديه في حلقته ومسرحه الذي كانت تجتمع حوله أكثر مما يجتمع الآن بمسرح محمد الخامس !؟. لم يكن الربيب يحتاج إلى الكلام حتى يضحك الناس، لأنهم يعرفون إن هذا الرجل القصير، بعينيه الضيقتين، قادر على تحريك الكوميديا بالقلوب من خلال النظر إليه ثم بالاستماع إلى مسرحياته الجميلة .

يختفي الربيب لسنوات، قيل إنه دخل فيها السجن، وحينما يعود سيجد السوق لم يعد سوقا و الضحك صار نادرا.. فيعاود الوقوف بأمكنته القديمة ليستعيد مجد الفرجة، لكنه لا يقتنع بنفسه أو بجمهوره لأن السنوات التي غاب فيها ولدت ربائب كثيرة قلَّدته وجددت في أسلوبها.

ستتذكر سطات الستينيات وبداية السبعينات من القرن الماضي بحسرة بالغة بطلا اسمه عمر العيار صاحب القضيب الحديدي الأبيض، وسلطة الحكي القاهرة التي كانت تشد إليه في صمت ورهبة، دائرة تجلس كما لو أنها في محراب حول راهب طاعن في الحكمة.


من فم عمر العيار،الذي لا يجف أبدا، يخرج الأبطال يتصارعون ويتقاتلون في حروب ومعارك،

و نساء في عمر الزهور يولدن مثل الفاكهة ، يحكي عنهن وعن زمنهن. كان على عمر العيار أن يقول كل شيء قبل أن يختفي، ويترك جمهوره تائها بين العيساوي والشيوخ آكلة الأفاعي... والمجذوب الذي يغرز السلك في خده دون أن تسيل الدماء... وشارب النار ونافخها.. والذي يشرب الماء الساخن ويمضغ الزجاج... والذي يحكي عن الموت وجماله.. ومن يشرح للناس أسباب الهزائم... والذي يبيع الحجابات.. والطرب...والكلام... والأوهام ومختلف الأعشاب البرية...إنهم أسياد الحقيقة وصُنَّاع الحياة الجميلة .

ولو كنت في سن تسمح لي آنذاك، بالكلام والنطق لجلست في حلقته الموسعة وسألته وهو المشبع بأرق الأبطال ،عن تفاصيل حكايات تستعصي علي في سرودي الآن .

***

البطوار القديم، ذبائح فائرة وكلاب الكُرنة. خياطون عراة وخرازون حفاة ونجارون يتحدثون عن مسامير المائدة، أما العميان الثلاثة الذين لم يجدوا نيتهم في عكازهم بل في امرأة تقودهم برغبة عمياء نحو أقدارهم اليومية فإنهم يتشممون العتاقة في شوارع متعبة بالصهد والثرثرة، خطواتهم تزداد سرعة بعد الزوال حتى لا يصادفوا الظلام، فلن يبصروا شيئا وتسقط نيتهم في الظلمة، وأكيد أنهم يعرفون أن شمس سطات تقوم من المزامزة وتغرب في حضن ولية طاهرة.

السبوت والآحاد وكل المساءات المطلية بالحنين، حنين المحارب، في السوق، هناك احتفال بالنسيان والتذكر... وخطوات (فاطنة الجلايدية) تقف في رحبة الجلود، تُقلب وتساوم على الأرخص، ومن حين لآخر تتوقف لتسحب أنفاسها وأنفاس سيجارة الكازاسبور.


فاطنة الجلايدية :اثنان في واحد .. رجل وامرأة ثالثهما وهْمٌ مركب... ويُروى أن أخاها في الأربعينات قد " سرق حقها" فاختارت أن تتحول إلى رجل رغم خط الوشم الظاهر عموديا على ذقنها. سميت الجلايدية لأنها تتاجر في جلود الأغنام والبطاين، ولكنها لا تغامر بالمتاجرة في جلود الأبقار أو الجمال التي كانت تدخل سطات قادمة من الصحراء يسوقها صحراويون يستقرون بفندق/اسطبل مشهور بطريق بولعوان، فيزورهم " الحاج راعا" يسأل عن جذوره المتنقلة، من عمق الجنوب في نهاية القرن التاسع عشر إلى دمنات ومنها إلى سطات.والجمال المُكارية كما كان (الصاروخ) يسميها قاسية وعنيفة، لكنه الوحيد الذي يستطيع تطويعها وحملها على كتفيه بشجاعة نادرة.


بالقرب من السوق القديم من الجهة الشرقية، توجد منطقة (الكنانط) حيث يقف شيخ برُزَّته وجلبابه كل يوم سبت بعد الزوال، يسمى السباعي، ينتظر قدوم الجِِمال للفصد عن طريق غرز مسمار طويل وحاد ،يسمى " الشْفا"، في عرق الدم الخاسر لينفجر مَعينه فائرا متعاليا.

هناك سباعي آخر، مختص في الكي، رجل اسمر، قرب السوق من الجهة الجنوبية وأمام الباب الخلفي- الداخلي لثانوية ابن عباد داخل فَنْدق/اسطبل يتسع لبرَّاكة وفضاء واسع، يدخله في كل السبوت والآحاد فيخصص صباح السبت لمداواة البهائم ، وبعد الزوال يشرع في كَيِّ الرجال، أما زوال يوم الأحد فيخصصه للنساء والأطفال الرضع. يجلس السباعي بجلبابه الساركة قرب عتبة البرَّاكة ،ومن حين لآخر تمتد يد الشريف السباعي، إلى القضيب الحديدي الساخن من كانونه اللاهب، في حركة مدربه لكي كل الأمراض.


مات السباعيان، ومات بالتأكيد عمر العيار والصاروخ، وتاه "المومينين"، الرجل الأعمى الطيب الذي كان يوهم كل سكان المدينة بأنه يخرج للسعي في رزقه ورزق زوجته التي يسميها " الأميرة" .تركها في نوالة بنزالة الحد تهيئ له ما طاب ولذ من الشهيوات .


صياد الخيال الضائع

قال لي صديقي يوسف الكاتب بأنه يؤرخ للأفول بمدينة سطات ،منذ رحيل خربوش الذي كان يصطاد الكلاب الضالة بالمدينة، حينما كان يقود عربة البلدية الاستثنائية بحصانها المعتوه ،وذات الطلاء الأخضر ، حاملا " السلبة" من القنب مربوطة في عصاه الطويلة، وبيده الأخرى قطعة من اللحم (وعادة ما يكون عبارة عن رئات البهائم) يُغري بها الكلاب الضالة بالمدينة، وكلما اقترب كلب يكون خربوش جاهزا لرمي السلبة على عنقه ،ثم يجره بعد ذلك ويرميه في " عربة الموت البلدي" .(ونحن أطفال في وقتنا الأزلي كنا نحيي السيد خربوش، كلما اصطاد كلبا، بأغنية تليق بالمشهد وهي مُحرفة عن أغنية لعبد الحليم حافظ ، نقول فيها :رميتِ السَّلْبا وجرِّيتِ الكلبَ يا خربوشا...). أضاف يوسف ما معناه أن خربوش ضروري في كل فترة.

الستينات كانت العقد الذهبي بعده جاءت السبعينات تعيش على فتات الضوء وفي الثمانينات مات " المومنين" وماتت أميرته وكل الشخصيات الأساسية في رواية اسمها سطات.

***

عاش بسطات ، في الملاح ، يهود كانت لهم علاقات حميمية مع السكان ، فأسلم منهم من أسلم وسافر أغلبهم إلى فرنسا وأمريكا وكندا وفلسطين . وفي العقدين الأخيرين ، أصبح أبناء اليهود السطاتيين في مراكز سياسية واقتصادية استراتيجية داخل حكوماتهم ومؤسساتهم ..وما زالوا حتى الآن يزورون حيهم القديم ومزاراتهم "المقدسة".

في سطات تتعايش الأحلام لذلك فهي لا تنس كل أبنائها ، لا تنس ولد التركية والحاج قاسم وقد ساهما ، من خلال مكتبتيهما لبيع الدفاتر والأقلام والقصص ، في تعليم أجيال .كما لا تنسى بويا الغليمي وسيدي بوعبيد ولالة ميمونة وسيدي عبد الكريم وسيدي المختار الزكاني وباقي الأولياء والعلماء والفقهاء ..حُرَّاس خيالنا.

نهاية أسبوع بدون مفاجآت


يوم السبت استفقت في الخامسة صباحا ، وفي المكتب استكملت قراءة آخر صفحات الفصل الرابع من كتاب جاك دريدا الكراماتولوجيا (في علم الكتابة)،ثم عدت إلى البحث في دراسة لي حول المحكي البوليسي.وفي الثامنة والنصف تناولنا ، جميعا، فطور الصباح ، لأواصل العمل بالمكتب إلى حدود الساعة الحادية عشرة والنصف ، موعد ذهابي للاستحمام بحمام عمومي قريب منا برفقة علاء كما تعودنا في نهاية كل أسبوع.ولأول مرة تفاجئني مريم بطلب الذهاب معنا ،فلم ألتفت إليها ولكنها ألحت وبدأت تقبل يدي وتجرني من ملابسي لتقبل وجهي والدموع بعينيها .حاولت أنا وأمها إفهامها بأننا نذهب إلى حمام الرجال وهناك حمام آخر للنساء ..فلم تفهم هذه الحدود لأنها مازالت صغيرة لن تقفل سنواتها الثلاث إلا في شهر يناير المقبل .وأخيرا أخذتها معي لأول وآخر مرة ، فاستحممنا جميعا وعادت سعيدة إلى البيت .


في الواحدة زوالا عدنا إلى البيت وتناولنا وجبة غداء من السمك ونمت لساعة، ثم قمت لمراجعة حصص الدروس مع علاء إلى حدود الخامسة والنصف تركته يتمم انجاز أشغاله.خرجت من البيت في السادسة وتوجهت لمتابعة ندوة نقدية حول رواية كويتية هي الأولى لصاحبها محمد الشارخ صاحب البرامج المعلوماتية صخر بحضور عدد من كبار النقاد بالعالم العربي والمغرب والحقيقة إأنني لم أذهب إلى الندوة لمتابعة أشغالها ولكنني شعرت برغبة وسعادة لرؤية أستاذي سي محمد برادة فقط وهي مناسبة لرؤية ناقدين عربيين أعتز بصداقتهما ، صبري حافظ وفيصل دراج.

لكن الذي فاجأني وأثلج صدري هو حضور عدد من المتتبعين والأدباء من الدار البيضاء والرباط وقد تجشموا عناء السفر لرؤية الروائي وفي سبيل تثمين الروابط الثقافية العربية وإعطائها حضورا ملموسا ودائما .

أحيت هذا اللقاء ورعته باعتزاز ثقافي كبير شركة سبريس لتوزيع الصحف والكتب بالمغرب وهي الشركة التي توزع لنا مؤلفاتنا، وهي أيضا الشركة التي أعدمت مؤخرا كتابين نقديين لمؤلفين مغربيين صدرا ضمن منشورات القلم المغربي في طبعة مغربية ولهما طبعات عربية بالقاهرة وبيروت ..دون أن يتم التوصل حتى الآن إلى تسوية لهذا المشكل الغريب الذي تعدم فيه شركة وطنية للتوزيع كتابين أساسيين في ثقافتنا.


عادة ما نبدأ برامجنا الثقافية بالدارالبيضاء في شهر نونبر وقد جاء هذا اللقاء ليعوض هذا الفراغ العالي وأيضا المأزق الذي وُجِدنا فيه بعد عدم تمكننا من عقد جلسة كنت اقترحتُها في مطلع شهر أكتوبر على إخواني بنادي القلم المغربي حول الاحتفاء بواحدة من الروايات المغربية الجديدة في لقاء حميمي بإحدى الفضاءات بالدار البيضاء ، واتفقنا على عقد قراءة نقدية في رواية هي الأولى لكاتب أعتبره إضافة جديدة أخرى لمشهدنا السردي ،وذلك في نهاية أكتوبر.فشرعتُ بالاتصال مع ثلاثة نقاد ، اعتذروا جميعهم بمبررات مختلفة ، الأساسي منها أنهم لايعرفون الكاتب ولا الرواية بالإضافة إلى انشغالات مرتبطة بالدخول المدرسي والعمل وأشياء أخرى .

في الصباح الباكر جدا من يوم الأحد توجهتُ إلى سطات لحضور انطلاق موسم الحرث عندنا ..وقد عمل العمال الزراعيون على تحميل أكياس البذور إلى المزارع ..لكن الأمطار ، دون سابق إنذار صريح ستفاجئنا بالهطول وبغزارة مما جعلنا نتوقف ونؤجل الحرث إلى موعد لاحق .

عدتُ رفقة بويا إلى المدينة ، وبمقهى بوشتى أخذنا موقعنا على الكراسي الخارجية كما تعودنا ، نحتسي الشاي ونتحدث.. ومن حين لآخر يأتي من يسلم علينا ، أو من يقبل يد والدي احتراما له وتقديرا أو لأنه كان هو معلمه وراعيه ..وكنت للحظة أتمنى لو يتم تقبيل يدي أيضا .

التحق بنا ثلاثة من الفلاحين الذين يوصيني دائما بويا بالحذر منهم ومن مكرهم ، وقد جاءوا للحديث معنا بشأن وساطة بيننا وبين آخرين بخصوص مخارجة وقسمة أراض شياع بيننا .

انتقلنا إلى داخل المقهى حتى لا يسمعنا أحد واستمرت مفاوضاتنا الأولية لأزيد من ساعتين ، وهي منهجية لا تحسم في التفاصيل ولكنها تؤكد على المبدأ، ثم ضربنا بعد ذلك موعدا في بعد الزوال لمواصلة الحديث بشكل عملي .

انتهينا ثم عدنا إلى مكاننا الأول بالكراسي الخارجية حيث وجدنا قاسم وابنه رفقة اثنين ينتظروننا بنفس المكان .قاسم كان صديقا لجدي عبد السلام لذلك أعزه وأساعده في ما أقدرعليه. ونحن نتحدث ونحتسي الشاي يقطع والدي الحديث- بعد مرور وقت طويل- ليفاجأني بسؤال عن هوية السيدين الجالسين في وسط منا ، وكنت أعتقد في البداية أنهما جاءا معهما .لكن قاسم وابنه نظرا إلينا بدهشة وقالا إنهما وجداهما جالسين ولا علاقة لهما بهما ..والغريب أن أحدهما كان صامتا يستمع ويشير برأسه والآخر يناقش معنا كما لو أنه واحد منا حقيقة .

قمنا إلى البيت ، تناولنا وجبة كسكس من القمح الخالص ، ولم ننعم بقيلولة كاملة لأننا سنعود إلى البادية لأجل استكمال المفاوضات بعين المكان وكل الترتيبات الموازية ،فلم نتوصل إلى شيء ملموس وأجلنا الأمر للأسبوع الموالي ونحن في وقت متأخر من المساء ..لأشد الرحال بعد ذلك إلى الدار البيضاء التي وصلتها في التاسعة ليلا.


يوم الجمعة الذي صادف نهاية الشهر، قضيتُ اليوم كله بالرباط مشاركا في ندوة بكلية الآداب تكريما للناقد والباحث عبد الحميد عقار،وهناك التقيتُ بمولاي أحمد المديني الذي كان كعادته دمثا وإنسانيا ونبيلا كما التقيت بمبارك ربيع وأصدقاء من فاس ومكناس ومراكش.


***


- قال لي وهو قريب من روحي :لماذا تُلح على كل تلك الطهرانية،إنها تخفي شيئا لا تريد قوله؟

- بل ما لا أريد قوله هو ما يخفي أنوار الطهرانية ،قلت له . ثم عدتُ أفكر بداخلي في كون هذه الطهرانية هي ما يُحصِّنُنِي من الرَّجات المستمرة في كثير من قيم المثقفين وهي ما يجعلني أحفظ الود لأصدقائي وأساتذتي .


في لحظات الغروب تتحول المدينة إلى نهر تغتسل فيه كل الملائكة من آثام وتآويل النهارات الطويلة..لتبدأ دورة الحقيقة، وتنطلق من مراتعها الغابرة تلك الرياح التي تتلمس طريقها ، يوميا وفي نفس الموعد ،تتسلل في البداية من أسفل بطن الغروب المترهل والذائب مثل دموع الفقيرات الوليات الميمونات الجالسات على رَبَوَات مُخضبة بعرق الفرسان الضائعين تعمل على تدوين حكايات الملائكة في مآقي عيونهن بكُحْلها الرباني .


chouaibhalifi@yahoo.fr

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved