في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبد الرحمن منيف، يعمد الياس البائع الجوّال المتنقل بين قرى الأرياف، على شحن حماره بالبضائع ثم يترك لحماره حرية الانطلاق نحو القرى أي أن مكان البيع يكون وفق مشيئة الحمار لا صاحبه! وهذا ما أعنيه بالاستطراد، هو أن تترك لقلمك القياد..
وأحسب أن من أكثر الأدباء المستطردين هو طه حسين في سيرته ورحلاته وأحاديثه " من لغو الصيف" ولك أيها القارىء أن تزيد عليها" من حديث الشعر والنثر" و "حديث الأربعاء" ونقداته الخلاّقة للشعراء التي لا تخلو من عسف وحيف لحق بعض الشعراء مثل كثيّر ووضاح اليمن وقيس بن الملوّح والسيد الحميري .. فتجد طه حسين ما أن يكاد ينتهي من فكرة حتى تعنّ له سانحة جديدة ثم تقوده إلى أخرى تبتعد أو تقترب من سابقتها تماماً كأمواج البحر، وهكذا يتنقل بقارئه في شتى مناحي الحياة ودروبها., وأعزو سبب ذلك إلى الجانب المثودولوجي وخصوصاً المنهج اللاتيني وبالأخص الفرنسي الذي يميل إلى التفاصيل والاستفاضة بها والتكرار ونفش المادة بذلك الأسلوب الخلّاق الذي يجمع بين السلاسة اللغوية والجانب الموسيقي في بناء العبارات الذي عرف به طه حسين بينما بقي كعب أخيل عنده في كتابيه عن المعري " مع أبي العلاء في سجنه" و " في تجديد ذكرى أبي العلاء" والسبب يكمن في ضعف عميد الأدب في الفلسفة(*) وخاصة في شبابه حتى تتهيأ الظروف لعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطىء) أن تعدّل كفتي الميزان وتنصف شيخ المعرة ذلك الإنصاف العلمي في رسالتها المعجبة للدكتوراه! لقد أخفق كل من أراد تقليد طه حسين في أسلوبه المتميز أو محاكاته، فهو المثال الأجلى في السهل الممتنع .
على خلاف اللاتيني(**) يكون المنهج الأنكلوسكسوني وتحديداً الإنكليزي ( والألماني ) الذي يتبنى الدقة والصرامة المعهودة بممثله العربي عباس محمود العقاد، ومن يطالبُني بمثال فدونه بحثه الرائع " ابن الرومي حياته من خلال شعره" الذي أزال عسفاً وحيفاً لحقا بالشاعر العبقري قرونا.. وفي كتابه "يسألونك" وغيره الذي يدلل فيه العقاد على ثقافة موسوعية مدهشة، وسأغض الطرف عن سقطاته في كتابه "مذهب ذوي العاهات" أو رواية "سارة"!
في الأول المتوسط حيث يتوثب الذهن ويصفو، جاءنا مدرس خمسيني مبعداً من الشمال حيث كان يشغل منصب مدير للمعارف، لكونه سياسيا، كان طيب الذكر الأستاذ حسين حسن عقراوي يدرسنا العلوم، وكان يبدي نفحات ذكية للطلاب، فمرة سأل سؤال نسمعه لأول مرة وانشغلت به رؤوسنا الغضة: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة؟ لمن الأسبقية، ثم قال هذا هو الجدل البيزنطي أي الجدل الذي لا يؤدي إلى نتيجة؟! أما لماذا بيزنطة فلأنها ذلك الجزء من بلاد الأغريق حيث الجدل أي المماحكة الكلامية، والتي هي حالياً تركيا التي كان يطلق عليها تجاوزاً بلاد الروم، وهكذا حاز الشاعر المتصوف صاحب ديوان "مثنوي" مولانا جلال الدين البلخي لقب الرومي حين جاء يصحبة والده خوفا من السيل المغولي الجارف ليحل في قونية ويدفن فيها ويصبح مزاره مقصد المريدين والمتبركين..
***
كنت على "غير مايرام" طيلة أيام خمسة مضت، لنازلة أصابت عزيزاً عليّ غيّبته، فأخرجتني من وجومي قصيدة مطوَّلة لشاعر متميز أجبرتني أن أعلّق عليها تعليقاً مقتضباً، وبيت شعر من صديق وكلمات تفيض مشاعر طيبة من أصدقاء..
كنت قبل هذا بمدة أطول أردد ما فطرت عليه من اعتقاد قديم ما زال يرافقني فحواه هو أن أول صرخة لمولود رغم تفسيرات فلسفية عديدة منها أنه أجبِر على حياة لم يخترها.. وما إلى ذلك؛ بيد أنني مازلت متمسكاً بحقيقة: هي أن أول صرخة لأي(***) مولود ذكر أو انثى إنْ هي إلا إعلان عن أن صاحبها أصبح مشروع موت في أي لحظة لعمر قد يطول أو يقصر! وكم صدق طَرَفة بن العبد ( ت 569م ) في بيته الخالد:
لَعَمْرُكَ إنَّ الموتَ ما أخطَأَ الفَتى – لَكَالطِوَلِ المُرخى وَثِنياهُ باليَدِ
وإذا كان طرفة في قوله هذا ذكّر بالموت الذي يمكن أين يطول أو يقصر قدومه كحبل الناقة المحكم بيد صاحبها أُرخِيَ أو شُدَّ طال أو قصُر، فإنّ زهيراً ( ت609م ) شاعرّ الحكمة يقول:
رأيتُ المنايا خَبْطَ عشواء من تُصِبْ - تُمتْهُ ومن تُخطِئْ يُعمَّر فيَهرَمِ
وأما لبيد بن ربيعة ( ت 41ه ) المُعمِّر، فقد قال بيتاً مواسياً، وكان قد دخل الإسلام وأدرك النبين فغدا بيته هذا مثلاً شروداً طالما يترجمه الناس إلى العامية :
وما المالُ والأهلون إلاّ ودائِعٌ – ولا بُدَّ يوماً أنْ تُرَدَ الودائعُ
ومن المؤكد أن لبيد ترجم المأثور القرآني شعراً في قوله الذي اشتركت فيه ثلاث آيات مع اختلاف السياقات:" فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" الأعراف34/ النحل 61/يونس 49 .
والأبيات التي تصور الموت مترصداً الإنسان فهو حكم المنية كما قال أبو الحسن علي التهامي ( ت416ه ) في رائيته الرقيقة:
حكمُ المنيةِ في البريةِ جارِ – ما هذه الدنيا بدار قرارِ
إلى أن يقول ذامّاً الزمان:
ليس الزمانُ وإن حرصتَ مُسالِماً – خُلقَ الزمانُ عداوةُ الأحرارِ
يا كوكباً ما كان أقصرً عمره – وكذاك عمرُ كواكبِ الأسحارِ
وترى الجوانب الفلسفية عموماً في الشعر العربي فطرية بسيطة بساطة الصحراء واضحة وضوحها، وكانت فلسفة الموت مع دخول الإسلام أصبحت تعتبر الموت قضاء خاضعاً لإرادة الله ولا يقبل نقاشاً كما رأينا، وبذلك خبت جذوة الرؤية الفلسفية لتصبح رؤية دينية كما تدل على ذلك قصائد الرثاء؛ لكن لأبي ذؤيب نظرة فلسفية تشكل امتداداً لسابقيه من أن المنايا رُصَّد ترمي فتُصيب، يقول أبو ذؤيب الهذلي ( ت 27ه ) يرثي أولاده الخمسة الذين أتى عليهم الطاعون:
أمِن المَنونِ وريبِها تَتوجعُ – والدهرُ ليس بمُعتبٍ من يجزَعُ
قـالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً - مُـنذُ اِبـتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ
ولقد حرَصت بأن أدافع عنهم – فإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفَعُ
إن أن يقول بيته الشهير:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها – ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفَعُ
بيد أن أبا العلاء المعري ( ت 449ه ) فقد كان كارهاً دنياه، متشائماً إلى أعلى درجة من التشاؤم، حتى أن موته كان أقرب إلى الانتحار، حين رفض الدواء والطعام والشراب وهو القائل بصراحة ما بعدها صراحة :
فيا موتُ زُرْ إن الحياةَ ذميمةٌ – ويا نفسُ جِدّي إنَّ دهرَك هازِلُ
ومال الغرابة أليس هو القائل:
إن حزناً في ساعة الموتِ أضعا – فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ
فإن شاعراً آخر هو أبو العتاهية ( ت 213ه )، يفكر بعالم ما بعد الموت فيتساءل:
الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ – فليتَ شِعريَ بعْدَ الموتِ ما الدَّارُ؟
وفي الحقيقة لا يهمّني ما بعد الموت قط، ولا أخاف الموتَ قط، وإنما أخشى البوّابات والمسالك المُفضية إلى الموت، من أمراض أو علل تجعل صاحبها مقعداً أو معذَّباً أو مستطيعاً بغيره وهذا أضعفُ الإيمان!!
-----------------
(*) لم يتناول الدكتور طه حسين الفلسفات المزدهرة في عصره وفي فرنسا تحديداً كالماركسية أو الوجودية إطلاقاً، ويذكر الروائي نجيب محفوظ أنه عندما تقدم للدراسة في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة كان في لجنة المقابلة الدكتور طه حسين الذي سأله لماذا تدرس الفلسفة ويقول محفوظ أنه عندما طفقت بالجواب: إن الفلسفة هي محاولة لفهم ما وراء الأفكار والمفاهيم التي تواجهنا في حياتنا من أجل تطوير معرفتنا للحياة.. يقول قاطعني الدكتور قائلاً : إنك تصلح للفلسفة لأنك تتكلم كلاماً غامضاً غير مفهوم !
(**) أرى إن للطبيعة والمناخ تأثير كبير فاللاتينيون هم في حوض البحر المتوسط كالإيطاليين والفرنسيين والإسبان.. بينما الانكلوسكسون في شمال أوربا مثل اسكندنافيا وألمانيا وانكلترا وهولندا .. لذا تجد اللاتينيين منفتحين ثرثارين عكس الشماليين! ويلحظ الإنسان ذلك في المترو الصامت في ستوكهولم والصاخب في باريس!
(***) بكاء المولود يرجع إلى سبب بيولوجي حيث يستشعر الهواء البارد الذي يدخل رأتيه لأول مرة ويملأ الحواصل الرئوية ويحرك الأهداب القصبية فيسبب ألماً لم يعتده في رحم أمه الدافىء! رام كم هنغ
رام كم هنغ
22ت2/نوفمبر 2016