مع اقتراب مساء أحد الأيام القريبة الفائتة ، دخلت طفلتي التي تبلغ من العمر عشر سنين في حالة فزع ، قائلة وهي تنظر من النافذة الى لون السماء : مصيبة .. سيحدث انفجار .
قالت ذلك مع غروب الشمس في اليوم التالي لصدمتها بوقوع انفجار في منطقتنا السكنية خلال المساء ، حتى أخذت تربط بين غروب الشمس ووقوع انفجار معتقدة أن كل مساء سيحدث فيه انفجار قرب مسكننا او شارعنا كالمساء السابق .
طمأنتها بأن المساءات لاتأتي بالنار بالضرورة ، فثمة مساءات تنعم وننعم معها بالهدوء .
قالت : الحمد لله أن لي أماً واثقة .
ذات مرة وحين كانت طفلتي تبلغ الرابعة هبت ريح عالية أدت الى ارتداد الشبابيك والأبواب فهلعت قائلة .. ماما .. هذا انفجار ..
وذات مرة أيضا ، قصصت عليها حكاية وجدتها في مجلة للأطفال ، وكانت ذات منحى توجيهي .. قلت لها بكلمات بسيطة : كان هناك طفل يعبر الشارع من غير أن ينظر الى جانبي الطريق تحسباً لسيارة قد تكون قادمة .. مرّت سيارة فصرخ به السائق أن ينتبه ، ثم عبر الطفل الشارع بسلام .. بعد انتهائي من قص الحكاية عليها طلبت منها أن تحكيها لي .. فسردت الحكاية على النحو الآتي وبلهجتها الطفولية المحببة :
كان هناك طفل يعبر الشارع ( ضربوه طلقة ) ـ وقصدت أصابوه بإطلاقة نارية ـ !
طلبت منها إعادة سرد الحكاية كما حكيتها لها ، قالت : كان هناك طفل يعبر الشارع .. صار انفجار ومات !!
طلبت منها ثانية إعادة سرد الحكاية كما حكيتها ، فقالت : كان هناك طفل يعبر الشارع .. (أجوي الامريكان ضربوه طلقة) !!
لم تسرد لي ابنتي ، ولا مرة ، الحكاية كما سردتها لها .
إتخذت ُهذه الحوادث الشخصية مقدمة لموضوع يتناول تأثير العنف والحروب والصدمات على الأطفال لاسيما في بلدنا الذي باتت فيه مفردات مفخخة وناسفة وقتل يتداولها الأطفال حتى أثناء لعبهم .. المقدمة تخرج من كونها شخصية الى مدلولات عامة لأن تفاصيلها او تفاصيل مشابهة لها تحدث لدى أطفال كثيرين وتؤشر لنا ملامح تأثير الصدمات في ذاكرة الطفولة .
إن المتأمل للصور المأساوية التي تختزنها ذاكرة أطفال العراق ممن اعتادوا الانفجارات، وشهدوا أحداث العنف وسمعوا أحاديثنا عنها في بيوتنا ، وسمعوا معنا نشرات الأخبار ، فتلقفوا منها تلك المفردات ، وحفظتها ذاكراتهم ، مع أنهم كائنات طرية تحفظ ولاتنسى .. وقلوبهم زجاجية شفافة تكسر بسرعة مع أضعف ضربة .. ـ نقول إن المتأمل يدرك التبعات الجسدية والنفسية التي تخلفها تلك الصور فيهم على المديين القريب والبعيد كاضطراب الشخصية والنزعة العنفية او العدوانية في الشخصية والتشاؤم والعزلة وتراجع المستوى الدراسي وضعف العلاقات الاجتماعية واللامبالاة وغياب الشعور بجدوى الحياة والإصابة بالأمراض .
تقع على الأهل مسؤولية خلق أجواء من الحب والطمأنينة والثقة حول الطفل، ومحاولة أفكاره وتخيلاته الناجمة عن العنف الذي يحيط بحياتنا ، فكثير من الحب الغامر يمكن أن يزيح كثيرا من الخوف لديه ، ذلك أن الحضن الدافئ يوفر للطفل شعورا بالأمان .
وينبغي للمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام الإهتمام الجاد بهذه الموضوعة، فالمدرسة مطالبة بدروس وتوجيهات مضادة للحرب والعنف، والمعلم او المعلمة يمكن لهما إتباع أسلوب المحبة في التعامل مع التلاميذ وإرشادهم، والفضائيات مطالبة ببرامج تشذب ذاكرة الطفل من آثار العنف بترسيخ مفاهيم إنسانية عالية عبر برامج تحاكي الطفولة وجمالها .
إذن، المطلوب تضافر جهود الأطراف المعنية جميعا لمسح ذاكرات الأطفال بمناديل المحبة والمرح، كي يرفعوا منها ماعلق بها من شوائب العنف الذي أصاب جسد العالم، فلا تترعرع في ذواتهم حماقات الكبار الناضحة بالنزاعات .