تصطدمُ القاعدة النَحْوية بالخبرة الواقعية مِنْ عدة جهات، فكونُ الفُصحى وُضعتْ عبر صيرورتها التاريخية في موقع النَمْذَجَة paradigm داخل العقل العربي، فهذا يعني انسحابها تدريجياً إلى المثال التاريخي المُتعالي، والذي يُبقيها حيّةً هُوَ تبنيها رسمياً في المدونات الأدبية والفلسفية والعلمية المُعاصرة، وسائرَ الخطابات الرسمية الأخرى . بَيَدَّ أنَّ المُنتشر في تلك المُدونات هو "فصاحة اللفظة" و "فصاحة الكلمات" ، لا فصاحة التراكيب التي هِيَ النحوُ الخالص، وقد استخدمَ المُتصوفة وبعضُ الكَلامِيينَ تلكَ الخبرة في سردياتهم ، بحيث يُلامسُ المجازَ حدَّ اللغة ، وينقُلُهَا من جسر الوضوح إلى نفق الغموض ، دُونَ التقيُد بِصُرُط النحو أو أصول التقعيد .
ورُبّمَا تَكونُ "الضرورة الشعرية" هي الخبرة التاريخية التي تشكلَ بها هذا الخروج على النحو، غيرَ أنَّ هذهِ الضرورة لمْ تُبح الخروج على الفصاحة في مُستواها اللفظيّ ، إنما فقط – ولأسبابٍ جمالية – سمحتْ بل وجَوّزتْ للشُعراء كسر القاعدة النحوية الرسمية (وأشدد على الرسمية ، لأن مدارس النحو تعددتْ بتعدد النحاة في البصرة والكوفة والحجاز وبغداد ومصر والأندلس، بل أنَ مدرسة واحدة مثل البصرة وُجِدَ فيها من التنوعِ ما وُجد)، نقولُ أنَّ تصرُف الشعراء والمُتصوفة باللغة كانَ مذهباً مُستحسناً ومُستساغاً عندَ عامة النحاة ، سِوى من تعصبَ منهم أو تهور ، وهم قلة قليلة ، كما أنَّ التصرفُ بالنحو وزحزحتهِ دفع النحو دفعاً للنظر في حدِّ الفصاحة والجزالة ، وهنا يرِدُ تعريفَ الجُرجانيّ للجزالة بأنها "ما تعرفهُ العامة ولا تستطيعُ الإتيان بمثله" اه .
وبما أنَّ النحوَ العربيّ قام على أصولٍ لم يُدونها أربابُ تلكَ الصناعة كما فعل الفُقهاء مثلاً ، كما فعل الإمامُ الشافعيّ في "الرسالة" بنُسختيها القديمة والجديدة ، أو كما فعلَ المناطقة والمُشتغلينَ بالمنطق أمثالُ ابن سينا والأخضري البنطيوسي صاحبُ "السُلم" ، بحيث كانَ التدوينُ تقعيداً ، والتقعيدُ وصفياً ، إلى أنْ جاء القياسُ وبذرتُهُ عندَ ابن الحضرميّ الذي قالَ عنهُ ابن سّلام : " عبد الله بن أبي اسحاق الحضرميّ كان أول مَنْ بعجَ النحو ومَدَّ القياس وشرح العلل" اه .
إنَّ القولَ بتاريخانيّة النحو العربيّ يصطدمُ بِبَدْهِية المنطق الداخلي لِلُغلة ، فمُنذُ وُجدَ اللسانُ وُجدَ معهُ التركيبُ ، بل لا يُمكنُ تصور اللسان بعيداً عن التركيب الذي هو النحو ، والعامية التي هي لغة الشعوب العربية المُختلفة الآن ، لا تملكُ خبرةً تاريخية ووعاءاً فكرياً كالتي كانتْ مُنتشرة عندَ القدماء ، وهُنا يَردُ الجاحظ –رائدُ الأنثروبولجية العربية – مُستخدماً بل ومستنفذاً جميعَ مُمكنات التلفظ العربيّ ومُفجراً بذلكَ طاقات القول منذُ صيرورتها الأولى ، وذلك دُونَ الجُرأة على القول "بالتخلص من النحو" أو "التمرد عليه"!! كما ذهب العفيف الأخضر وقبله ثُلة مِنْ "المُتناحين"!
وإذا انتقلنا إلى التأويل ، وهو عيارُ البلاغيين وساحتهم المُستعرة ، فإننا نلحظُ أنَّ الخطابَ التأويليّ يستعيرُ مُفرداتهُ مِنْ مُعجمٍ فلسفيّ لسانيّ يعودُ إلى مدرسة التأويل الفيلولوجيّ الألمانية التي أُشتهرتْ في القرن الثامن عشر، وما زالتْ جامعة "اللايدن" في هولندا مَعْقِلَ اللسّانيينَ وفُقهاء اللغة بمَكتبتها (مكتبة بريل) التي تحوي مُعظم انتاجات جماعة "بورت رويال" ومُدونات الدراسات الإنجيلية واللاهوتية vaticanus codex ، وبإصداراتها المُتخصصة جداً في حقل اللغة العربية ، مثل دورية Brill's Journal of Afroasiatic Languages and Linguistics ، ودورية Cognitive Semantics أو السيميائية المعرفية التي تجاوزتْ النزعة العلمَوية عند فتجنشتاين وكارانب وحلقة براغ اللسانية ، كما تبنتْ نزعة نقدية مِنْ المنطقية اللغوية عند المدرسة التحليلية عَنْ طريق زحزحة حقل اللِسّان إلى مَجال الدراسة الفيزيولوجية للعقل والفكر ، مما يعني - بحسب رأيهم - تهافُت المقولات القَبلية للمنطق والنحو. الأول الذي يعصمُ الفكر عَنْ الوقوع في الزلل كما قال ابن حزم في "التقريب" والثاني - النحو - يعصمُ اللِسّان مِنْ الخطأ ، وهذا ما أشارَ إليهِ صاحبُ "السُّلم المُنورق" عِنْدَمَا قالَ :
وبعدُ فالمنطقُ للجَنانِ .. نِسبَتُهُ كالنحوِ للِسّانِ
تُميزُ الأنثروبولجيا اللسّانية بَينَ مُصطلحينَ للقراءة الأول هو : emic المأخوذ منْ كلمة phonemic ، والثاني هو : etic المأخوذ مِنْ كلمة phonetic ، وقد جرى العُرف في معاجم اللسانيات العربية الحديثة تعريفُ الأول بعلم وظائف أعضاء النُطق ، والثاني يُعرفُ في نفس المعاجم بعلمِ الأصوات اللغوية ، والحالُ أنَّ الأنثروبولجيا اللسّانية تُشيرُ إلى الأول كقراءة للمعنى الأصلي في الخطاب ، بينما الثاني يُشيرُ إلى فهم ذلكَ المعنى ، مِمّا يعني أنَّ "النحو السياقي" المُتمثل بالمُخاطِب والمُخاطَب والمرجع ، ومقاصد الحوار ، هي التي تُحددُ وظيفة اللغة ، والنحو جزءٌ مِنْ تلك الوظيفة ، بل يُمكنُ قراءة مُدونة النحو مِنْ هذا المنحى الأنثروبولجيّ .
ما يدفعني إلى قول ذلك هو مُغامرة هؤلاء "المُتناحين" في الحديث عن تجديد النحو العربيّ، دونَ الإطلاع على النسق المعرفي المتين solid system الذي يحكمُ النحو القديم، وعلاقاته بالمنطق والبلاغة ، أو ما يُعرفُ قديماً بعلوم الوسائل لا الأصول ، فلم تكن هذه العلوم أصولاً.... ! ويبقى أنَّ الفرقَ بين الموجود والمنشود لا يطلبُ – على الأقل في هذه الفترة – إلا بالتمني ...و تِلكَ الأمَانيُّ يَترُكنَ الفَتى مَلِكاً * * * دُونَ السّمَاءِ وَلم تَرْفَعْ لَه رَاسَا