دراسات وشهادات عراقية واجنبية ، وكلمة من ابو رغيف
بغداد ـ خاص :
أفردت مجلة " الأقلام" العراقية ، اكثر مجلة ادبية عراقية زاملت الحركة الثقافية والإبداعية العراقية خلال العقود الاربعة الاخيرة ، ملفا خاصا عن التجربة الإبداعية للقاص والروائي العراقي جمعة اللامي ، لمناسبة عودته الى بلاده بعد غيبة قسرية استمرت اكثر من ثلاثة عقود متواصلة ، في شهر ايار / مايو 2011.
شارك في تحرير العدد نخبة من ابرز رموز القصة والرواية والنقد الادبي في العراق ، لا سيما من مجايلي اللامي ، واصدقائه ، والذين رافقوه ورافقهم في هموم الكتابة والوطن ، في المنافي وداخل العراق ايضا .
وتصدر الملف، كلمة احتفائية بقلم الشاعر الدكتور نوفل ابو رغيف، المدير العام لدار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة العراقية، الذي اشرف بنفسه على هذا الملف، وتابع مواده ومحاوره مع زملاء اللامي ومجايليه .
في الآتي نص كلمة الشاعر ابو رغيف
في فضاء جمعة اللامي
نوفل ابو رغيف*
** إنه أوان الإيفاء لمبدعٍ كبيرٍ تقاسمته هواجسُ الوطن على أرضه ، مثلما تقاسمته أوجاعه بعيداً عنها .
ليس أثراً سطحياً أونسقاً تقليدياً يضاف إلى أنساق البرامج الدورية في مشهد الثقافة العراقية، وليس تعاطياً عابراً أن تقف المؤسسة الثقافية الرسمية موقفاً يليق بمن أنجبتهم الثقافة العراقية ، قدراً واعداً سيتاح له فيما بعدُ أن يشترك في تحديد معالم الخريطة الثقافية ، ورسم ملامحها العجيبة في بلاد تعجُّ تضاريسها بالمعرفة وتنشغل هويتها بالإبداع..
وكالعادة.. من هناك..
من جنوب القلب..
من الأرض المعفرة بمواويل الأُمهات، ونكهة العمر المكتـنـز بأسرار الحياة والقلق الشاخص منذ بدء الخليقة.. ومنذ بدايات الاستشراف الرابض عند تلك التخوم.. ومن أسبابهِ البريئة حينذاك.. من أزقة (الماجدية) وتفاصيلها الدافئة وأنفاسها الحانية،.. نبتت بنوءةٌ جريئةٌ في أحضان الطين ونما عمرٌ أسمرُ من الحب الممسك بهموم البردي وهواجس القصب الطالع من جذور باكورة الحضارات الأولى..
وامتدت البنوءةُ صوتاً سيعانق أحلام الفقراء ويغرق فيها فيما بعد.. قادماً من تلك الحياة النقية صاعداً بإمتداد الشغف المتسارع إلى عاصمة الدنيا بغداد، منتقلاً إليها.. لتكون محطة الأحلام الوردية وغبش العنفوان الكبير.. وعنواناً مُختـَزَلاً في شيخ هذا التاريخ.. وفتى تلك اللحظة الشاخصة في ذاكرة الثقافة العراقية.. صاحب هذا المقام (جمعة اللامي)..
إنه أوان الإيفاء لمبدعٍ كبيرٍ تقاسمته هواجسُ الوطن على أرضه مثلما تقاسمته أوجاعه بعيداً عنها، وإذ نحتفي باطلالته الأولى على بلاد الشمس بعد ثلاثة عقود ونيِّف من الغياب، فإنما نحتفي بعودة هاجسنا المسافر. فربما تتأخر المواعيد أو تتغير عبثاً على حائط السنوات ولكنها ستأتي حتماً.. وعند مساقط شلالات القبس الأول ليس لكَ إلا أن تشعر بالزهو ممزوجاً بالنشوة حين تحتفي الثقافة العربية في أكثر من بقعةٍ ومنصةٍ ومدينةٍ فالطريق مأهولةٌ، بجمعة اللامي. روائياً وصحفياً وكاتباً من طراز يليق بمن خرجوا من رحم الثقافة العراقية ليؤسسوا أثراً شاخصاً في الرؤية وفي العطاء وفي الحضور على آمتداد خطوط القلق وأزمنة المحنة.
- مرةً، في إحدى زوايا الشتات من هذا العالم المأهول بسحر الأدب وأسئلة الاكتشاف، كان الحديث يتهادى مطمئناً عن قامة عراقية صنعت كل هذا الحضور والتواصل في مناخ الثقافة العربية، واكتشفت أسرار الحرف المخبَّأ في ثنيات التجريب وقطعت مفازات الكتابة وأحراشها مجتازةً ما وراء القص لتبدأ مشواراً آخر في العيش عند ضفاف أُخرى ما وراء النص، في قدرةٍ ناصعةٍ على توظيف الممكنات الأسلوبية والصياغية لابتداع أنظمته السردية وعوالمه الكتابية في حقول التراكم المعرفي عبر تقادم القراءات لدى تخوم الجغرافية الأدبية تارةً أو عند منابع التاريخ تارةً أخرى في رحلةٍ مفتوحة الاحتمالات، كان جمعة اللامي ولا يزال ينحتها ويصوغ نصوصه من رحيقها، بلغةٍ عصيّةٍ على سواه.
-
أيقنت ساعتها في ذلك المقهى الثقافي الذي ضمَّ نخبةً مميزةً من كتّاب ومبدعين ومثقفين عند ضفاف النيل في القاهرة، أن قَدَرَ العراق الذي تناهبته مواسم الريح الصفراء وأكلته الحروب وأستـنـزفته الحصارات وحاول الطارئون تهشيمه ، أن يحيا بالمبدعين الحقيقيين من حملة الهم الإنساني وصناع الحياة .. قدره أن يعوض خساراته المفتوحة بهذا الشجر المتقادم وفاءً وأملاً. وهكذا كانت مشاعر تلك الباقة العراقية الملونة مجتمعةً حول لحظة أخرى يبتكرها فضاء جمعة اللامي وهو يوقع روايةً جديدةً في معرض الشارقة الدولي للكتاب في تفاصيل حميمةٍ شهدتها تلك الأحاديث الحميمة في وهج إبداعي صادقٍ بحجم اصطبار نخيل العراق.
شعرت أن خسارةً ما، وشيئاً مهماً فاتنا حينما لم تصدر رواية (مجنون زينب) عن وزارة الثقافة العراقية أو أية مؤسسة عراقية أخرى تمهر بصمتها على هذه الأسماء في عراق جديد لم يعد يتنفس برئةٍ مخنوقةٍ وحيدة، في عراق صار بوسع اللامي أن يعود مطمئناً ليصدح في فضاءاته السحيقة بعيداً عن حراس النوايا وشرطة الأفكار ورقباء القلوب ، في عراقنا الذي سفح المعتمون تفاصيله واستباحوا نخيله وهدروا أحلامه المضيئة عقوداً طوال.
- كانت تلك الباقة المحلقة حوله تتقاسم المكان لتحصل على نصيبها من الإهداء الجديد .. لم يكن ساعتها أمام وفدنا الثقافي الباحث عن أعشاش العراقيين في المنافي، في مشواره الحميم الذي يجتهد لنسف القطيعة بين نهارات العراق التي تقاسمتها المحطات بين الوطن والشتات .. إلا أن ينـتـزع العلم العراقي الذي كان معلقاً على الجناح العراقي لمعرض الكتاب لينشره على سارية أُخرى .. (على أكتاف جمعة اللامي) محبةً بحجم وطن، وفجرا ً، ربما تأخرّ طويلاً .. لكنه لن يتخلى عن البزوغ في جباه بنيه ، على قاعدة القدر الواعد..
-
إن الكتابة عن جمعة اللامي في هذهِ العجالة التي يداهمنا ، فيما الزمن المسرع ستبدو ضرباً من البوح العابر في أفق طالما زَخَر بالتأمل والإنتظار..
فالإحتفاء بجمعة اللامي يشكل نصاً مترجماً لرؤية الوفاء التي إطلقناها ودافعنا عنها وعن ترسيخها وما زلنا في زمن الاستعادة ولملمة ما نثرته الحروب.
ولعل الوفاء في هذا المقام يتيحُ المساحة لحديث يمتد إلى نسقٍ متصل في الثقافة العراقية والعربية..
يبتديء بالوفاء إلى الرجال الذين ينتمي شيخنا اللامي إلى طرازهم وإلى النص التجريبي الأسبق حضوراً ورؤية في المتن السردي الروائي حيث الضفاف الستينية المشرقة وزمن الذورة في الإبداع الخلاق.. وهو وفاءٌ يتصل بالتحولات الكتابية التي حققها مبدعنا الكبير ((المحتفى بـه)) في أنساق الكتابة بين الصحافة الثقافية والسياسية بين المعرفة والتأريخ تارةً وبين الرؤية والموقف تارةً أخرى.. في مـدٍ متصاعد لم يقف متـزمتاً أو منكسراً أو طيعاً بأزاء العواصف الأيديولوجية والتيارات المنقادة لغيرها والاختلافات..
فكان العراق هاجساً قاراً في ذاكرة التحولات القلقة وسجلاتها، وكان التوازن في طريقة النظر إلى الأشياء وفلسفتها على نحو مختلف، مرتكزاً آخر ضمن لأستاذنا أبـي عمـار منطقة أعرافٍ يلتقي عندها المختلفون.. في رؤيته لثقافة الاحتلال وموقفه من ثقافة الأجندات والوصايات وقناعاته في كيفية تشكل خطاب ثقافي يمتِّنُ حضور الدولة ويحفظ هويتها بعيداً عما يمكن أن يفصِّله المثقفون على مقاسات لاينتمون إليها..
في النهاية.. فإن حديثاً وافياً عن مشروع طالما كان نسيج وحده في الثقافة العراقية ومنها الى الثقافة العربية متلاطمة الأمواج، لا يمكن أن يتحقق في هذا المضمار..
بيد أن ربيعاً ندياً وبرقاً صادقاً يمكن قطفُـهُ من حديقة ((زينب)) بوصفها شاهداً على القلق والانتظار والتحول، إذ باتت بوصلةً تشيرُ الى ثقافة هذا المبدع المتعدد في الحضور وتؤشرُ منطقة الفكر التي رست عندها بارجاته المعرفية وممكناته الرؤيوية واستـشرافاته، فقد غدت ((زينب)) بوصفها مفردةً مجردةً عن دلالاتها الحاضرة ومعانيها المعروفة ، غدت ثيمةً رئيسةً في المنظومة الكتابية لجمعة اللامي ، يمكن من خلالها أن يزخر فضاء التلقي بمزيد من مساحات الاستدراك ومفاصل التأويل في ماقدمته تجربة إنسانية بهذا التنوع والثراء، مرت بما مرت به وشهدت ما شهدته لتنتهي إلى ما هو عليه اليوم.
إننا نحتفي في ملف الاقلام لهذا العدد بذاكرة من هذا الطراز .. تمتلك أن تلخص زمناً شاسعاً من القراءة والكتابة والإبداع والعطاء، نحتفي بعراقي صحب المنفى طويلاً ليحوله إلى وطن مشرع بأوجه القادمين من العراق، يتنفس من عيونهم أريج الغبش الأول
كل العرفان وكل الحب لمن حضر ليؤثث معنا هذا الفضاء المفتوح ونحن نسجّلُ لحظةً فارقةً في عمر الراهن الثقافي في العراق.
نوفــل أبـو رغيــف
* القيت في الاحتفالية المركزية التي إقامتها دائرة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة بتاريــخ
22 / 6 /2011 بمناسبة عودة الأستاذ جمعة اللامي إلى أرض الوطن بعد غياب طال أثنتين وثلاثين سنة.