دُوْر المزادات العالمية
حوّلت الرأسمالية الفن إلى سلعة تجارية رابحة جدا. اذ تُباع التحف وتُشترى في دكاكين وأسواق الأنتيك المنتشرة في العالم. ومنها مواقع عريقة مثل " مارشيه أوبوس " في باريس، و " بورتوبللو " في لندن. لكن أفضل الأمكنة وأعظمها ربحية هي دور المزاد، التي تحقّق القطع الفنيّة المرغوبة من أكثر من شخص يجلسون في قاعة المزاد، أو يتصلون بادارته عبر الهاتف، أسعارا باهضة غالبا ماتفوق مقدار التسعير الاولي الذي تبدأ به المُزايدة. وتَقْتَطع دار المزاد عمولتها بنسبة مئوية من كل من البائع والمشتري. وكلما ارتفع سعر التحفة ازدادت حصة دار المزاد من الارباح .
تنتشر دور المزاد محليا وعالميا. ومن أهمها وأكبرها: " سوذبيز" و" كرستيز " و" بونامز " و" فلبس " و" سبنك " في لندن، والتي لها فروعا في عدد من عواصم وحواضر العالم. وهناك " تاجان "، و " دْرُوُو " في باريس، و تحيط بهما عشرات المحال للاتجار بالفن. ودار مزاد Herman Historica في ألمانيا. و" دوروثيوم " في النمسا. أما في نيويورك فهناك المئات من صالات المزاد وغاليرهات العرض ما يفوق ما هوعليه في لندن وباريس وبرلين وزيورخ مجتمعة. إضافة الى دور مزاد كثيرة منتشرة في العالم، منها الاسلامي، كما في بغداد والكويت واصطنبول، وأخرى كما في الهند والصين، التي تحتل مرتبة رائدة بين دور المزاد العالمية.
تشتد المنافسة داخل قاعات المزاد عند المضاربة لاقتناء التحف. وقد حصل معي عددا من هذه الحالات؛ أُشير الى إثنتين منها: فلحتُ في الاولى، ولم يكن الأمر كذلك في الثانية:
كانت الاولى في مطلع ثمانينات القرن الماضي عندما عُرِضَت في أحد مزادات لندن عُلبة سجائر فريدة لملك العراق الراحل فيصل الاول، من تنفيذ زهرون، من ألمع فناني صياغة الفضة الموشحة بالمينا السوداء في النصف الاول من القرن العشرين. وكانت المضاربة بيني وبين آخرين في صالة المزاد، وكنتُ قد قرّرتُ اقتنائها بأي ثمن، وذلك لفرادة الفرصة والتحفة معا. ولم ينسحب المنافِسون إلا بعد أن وصل سعر البيع إلى أكثر من عشرة أضعاف ثمنها التخميني الذي ابتدأ به المزاد، عدا نسبة 15% من قيمة الشراء، وهي الحصّة التي يتقاضاها دار المزاد من كل من البائع والمشتري.
أما الثانية فكانت في نهاية تسعينات القرن الماضي، وفي مزاد لندني آخر، حيث تَعَرّفْتُ على إبريق فضي عثماني نادر ورائع في تكوينه ونِسَبِهِ. ويظهر ان المقيِّم في دار المزاد لم يعرف أهميته، ربما لخلوِّه من التوقيع وعلامة الوسم، فقدّرهُ ب 350 جنيه استرليني فقط. فدخلتُ في المزايدة مع مجموعة من التجّار والمهتمين الحاضرين في قاعة المزاد. وبعد أن انسحب الجميع عندما لم يصل السعر بعد الى ألف جنيه استرليني، " ظهر فجأة مهتماً " آخر على خط الهاتف صار يُزايد ضدّي باستمرار وآلية متواصلة، حتى ارتفع السعر الى مبلغ 5500 جنيه استرليني عندما اضطررتُ الى التوقّف عن المضاربة، و " فاز " بالتحفة النادرة والمهمة والجميلة " مهتم مجهول "!
تَعْرض دور المزاد مختلف أنواع الآثار والأنتيك والتحف والأعمال الفنية: من شواهد القبور والاعمدة والالواح والابواب والشبابيك والبلاط، حتى التحف المنفذة بشتى المواد ومنها النفيسة والثمينة من ذهب وفضة وعاج وأحجار كريمة؛ ومن السيوف والخناجر والتماثيل والمنمنمات واللوحات الفنية الى أدوات الاستخدام المنزلي من أثاث وآنية وصحاف وأكواب وأباريق وأنسجة وسجاد، وغير ذلك الكثير.
ويعرض دار المزاد بضاعته لبضعة أيام قبل افتتاح المضاربة، فيزور المهتمون المعرض للاطلاع على المعروضات وأسعار تخمينها عن قرب وتمحيص وتفحّص. ويكون الدَوْر الرئيس لتسعير التحفة عوامل القِدَم والفرادة والنَدْرة والجمالية وكمال القطعة من أي ضرر وعَيْب وتَلَف.
ونتيجة للارباح التي تُحقِّقها دور المزاد بفعل زخم التحف التي تَرِدُ إليها وتُعْرَضُ عليها، خاصة في العقدين الاخيرين، وبتحفيز من تصاعد حركة الاعلام عن الاعمال الفنية في الانترنيت وفي البرامج التلفزيونية المكثفة، التي يتعرّف الناس من خلالها على مالديهم من أعمال فنية لايعرفون عنها شيئا. يضاف إلى ذلك حاجة الناس إلى المال السائل؛ وعدم التصاق الورثة بما جمعه أباؤهم وأجدادهم. ويقابل هذا العرض الواسع طلبا متزايدا من تجّار الفن، وإقبالا عاليا من أصحاب المجموعات الفنية، وخاصة الاثرياء منهم.
وبفعل ذلك وغيره، تتطوّر دور المزاد الى مؤسسات تجارية واقتصادية مهمّة. حتى ان بعضها يقدّم " كورسات " في الفنون يتخرّج منها الكادر المتنوع الذي يقوم بمهام دراسة الاعمال الفنية وتوصيفها وتسعيرها للبيع. كما تتنوّع المطبوعات، وخاصة أدلّة المزادات، التي أصبحت بعض العروض الشارحة لتحفها عبارة عن موجزات لبحوث ومراجع أكاديمية، رغم مافيها أحيانا من أخطاء، ومنها مثلا تلك التي تعود الى بدايات دخول دور المزاد الغربية الى حلبة الاتجار بالتحف الاسلامية.
وقد أصبحت دور المزاد هذه بمثابة المراكز والمؤسسات التجارية التي يتوزع من خلالها تراث العالم الى أصحابها: فترى الروسي والصيني والياباني والهندي والافريقي والعربي والمسلم والامريكي اللاتيني يرتادوها لاقتناء مايسترجعوه الى بلدانهم يُعززون به هوية ثقافتهم ونهضتهم المعاصرة.
ويُصاحب دخول جامعين جُدد تحمّس الناس في الغرب لاخراج مالديهم من أعمال فنية محفوظة في غرف المنزل أو مهملة في مخزنه ومِرْآبه؛ وذلك في ظل التحفيز الاعلامي، الذي يشير أحيانا، إلى لُقى فنية من هذا المخزون أصبحت تُعرض في دور مزاد صغيرة وخارج العواصم والحواضر فتحقق ملايين الدولارات.( The Art Newspaper, No. 225, June 2011, p. 92 )
ويلاحظ ان نفس الظاهرة التي شهدتها الدكاكين الصغيرة التي تتاجر بالمواد الغذائية والاستهلاكية بضمور وإفلاس بعضها وإغلاقه نتيجة هيمنة " السوبرماركيتات " الضخمة و" المولات " العملاقة. فقد أصبح أصحاب دكاكين الفن يعانون من سيطرة دور المزاد العالمية على سوق الفن، مما يضطر بعضهم لإغلاق محله و / أو للبيع من خلال دور المزاد. وحتى بالنسبة للمعارض العالمية الضخمة، مثل Olympia International Fine Art & Antiques Fair، الذي يقام سنويا في قاعة " أولمبيا " في وسط لندن، فقد كان معرض هذا العام 2011 أصغر حجما، وأضعف عرضا، وأقل زوّارا. وعند السؤال ظهر ان عددا من أصحاب غاليريهات العرض يفضلون في الوقت الحاضر البيع من خلال دور المزاد. كما أصبح بعض تجار الفن يتبعون نفس طريقة الترغيب لتصريف البضائع الاستهلاكية: " بَيْع الفن بالإقراض ": إقتني اليوم وادفع غدا"، وذلك لتصريف الأعمال الفنية، ولجذب جامعين جُدد إلى سوق الفن.( Melanie Gerils, Art on credit, The Art Newspaper, No. 225, June 2011 p. 82 ) . وربما يتطور الامر غدا، خاصة بالنسبة للقطع والأصناف التي لاترقى الى أهمية التحف النادرة والمهمة، ليصبح: إقتني قطعة وخذ أخرى بلا مقابل!
أما بالنسبة للإتجار بمنتجات الفنون الحديثة والمعاصرة، فانه لايوازي اهتمام دور المزاد بفنون الحداثة الغربية اهتمامها بتثقيف مجتمعات الغرب بمثيلها من الانتاج في العالمين العربي والاسلامي. وَلِيَ في ذلك خاطرة تعود إلى عام 1989 في الظروف الحرجة التي مرّ بها المجتمع العراقي المظلوم بعد انتهاء الحرب الاستعمارية - العراقية المفروضة على إيران: فقد بَعَثَ لي أحد المُسْتَطْلعِين صورة فوتوغرافية للوحة " المُستحمّات " لفائق حسن، أحد أبرز رواد الفن العراقي في القرن العشرين؛ واللوحة موقعة ومن بواكير أعماله. فأخذتُ الصورة الى مزادات سوذبيز وكرستيز وفليبس وبونامز، ولم يوافق أي منهم على عرضها للبيع، عدا مزاد فلبس، الذي قدّر اللوحة بمائتي جنيه استرليني فقط!
لكن حالما تغيّر الأمر عندما تكثّفَتْ نجاحات دور المزاد الغربية في الاتجار بالتحف الاسلامية. فابتكرت تسليع منتجات الحداثة لفنانين عرب وإيرانيين وأتراك وهنود وباكستانيين، مصحوبة بإطلاق الحملات الدعائية الواسعة لها، وفتح فروع لدور المزاد في الخليج، لتبدأ المضاربات وتصعد الاسعار في فترة قصيرة جدا، حتى أضحى بعضها يحقّق أرقاما تكسر حاجز المليون دولار، وبالتالي أرباحا عالية لدور المزاد.
وهكذا أصبح لقطاع الفن دَوْرا اقتصاديا مهما ، يعمل فيه ويدور في فلكه حول العالم مئات الالاف، الذين يشغلون وظائف متنوعة في تجارة التحف من خلال شبكات التجار والاسواق والدكاكين والمزادات والمعارض والصالات ومواقع الانترنيت. إضافة الى الفنانين وورثة الاعمال الفنية. وكذلك جامعوا الفن القدامى والجدد. والمداخيل العالية للمطبوعات الفنية. الى جانب جذب الفن للسياح الذين تتعاظم أعدادهم بمرور السنين.
ومن كل ذلك وغيره تتراكم مليارات الدولارات التي تُدَوِّر عجلة اقتصاد الفن سنويا: فقد بلغ مجموع مبيعات دار كرستيز في العالم عام 2006 مبلغا مقداره 3.2 مليار دولار. و بالمقابل حققت دار سوذبيز في العالم لنفس السنة مبلغا مقداره 2.7 مليار دولار. وجاء في ( القدس العربي، 28/01/2011 ) ان " المبيعات الفنية السنوية لكرستيز للمزادات على مستوى العالم بلغت خمسة مليارات دولار... واعلنت كرستيز في بيان وزعته ان مبيعاتها في العام الماضي ارتفعت بنسبة 53% عن المبلغ الذي تحقق في ال 2009. واوضحت ان الرقم الذي سجل العام الماضي يعد الاعلى في تاريخ الشركة الممتد طوال 245 سنة، وهو الاعلى في قطاع المزادات الفنية على الاطلاق. "
وتُشَجِّع هذه الظاهرة الصاعدة اتخاذ الاعمال الفنية مجالا مهما للاستثمار، خاصة مع بداية القرن الحالي، وبدعم من أثرياء العالم، ومنهم العرب، ممّن لايهمهم دفع أي ثمن مقابل مايرغبون في اقتنائه. فلم يعد مفاجِئا صعود أثمان بعض الاعمال الفنية في المزادات الى مستويات خيالية، حتى مقارنة بتخمينها الاولي، وهذا ينطبق على التحف الروسية والصينية والهندية والاسلامية وغيرها.
وبينما كان بعض الفنانين يعيش نهاره على " سندويتش " في حياته، فان لوحاته تباع اليوم بعشرات ملايين الدولارات: فما الذي يجعل لوحات الرسام الهولندي فان غوغ، ومنها تلك التي رسمها لطبيبه " بورتريه الدكتور غاشيه " تحقق عام 1990 بالمزاد مبلغ 82.5 مليون دولار؟ وما الذي يجعل ثمن التمثال البرونزي Walking Man 1 للفنان السويسري Alberto Giacomettiيباع في مزاد سوذبيز في لندن في فبراير 2010 باكثر من 65 مليون جنيه استرليني، وذلك باربعة أضعاف سعر تخمينه، وفي خلال ثمان دقائق فقط من المضاربة في قاعة المزاد... وعبر الهاتف؟! وكأنّ مايُدفع من عشرات ملايين الدولارات هي من الحجر والحصى . وحتى بالنسبة لبيكاسو الذي ترك الالاف من اللوحات والتخطيطات وغيرها، والتي يباع بعضها بأسعار عالية مثل لوحة ( صبي وغليون )، التي حقّقت 104.2 مليون دولارعام 2004 . والأمثلة كثيرة وهي في زيادة مستمرة تعكس تطوّر ظاهرة تسليع الفن والاستثمار فيه .
وبهذا الصدد لابدّ من الحديث عن دَوْر تبييض الأموال بإخفاء مصدرها المشبوه / أو الإجرامي؛ والناجمة عن الرشاوي والفساد، وعمولات الصفقات التجارية، وسرقة الأموال، وتجارة الأسلحة والمخدرات والأغذية الملوّثة والأدوية الفاسدة، التي تروّج في مناطق الأزمات، كما في العراق، ومرتبات وعطايا " تجارة " التجسّس بأنواعه السياسي والاقتصادي والعسكري، وتجارة الجنس والأطفال، ونوادي القمار، والتهريب، والتهرُّب من الضرائب، وتزوير النقود: وفي مقدمتها طباعة الدولار من قبل البنك المركزي الفدرالي الامريكي بدون غطاء شرعي أو سند بضائعي حقيقي سوى تعزيزه بنهب النفط وفرضه بقوة السلاح.
فتوظّف هذه الأموال في مجالات متنوعة لغسيلها من سواد وعار مصادرها الأصلية غير المشروعة، فتنتقل إلى استثمارات محترمة، مثل شراء العقارات والأراضي والأسهم والسندات، وإقامة مشاريع تجارية وصناعية وسياحية، واقتناء الأعمال الفنية. إذ يشغل الإتجار بالفن مجالا واسعا و " مثقفا " و " أنيقا " و " وجيها " لغسيل الأموال، سواء بفتح محلات لبيع الآثار والتحف والمجوهرات، أو شرائها من أسواق الفن ودور المزاد؛ وتحويل المال غير المشروع الى بضاعة جذابة يسهل الإتجار بها.
وتبعا لإحصائيات الدوائر المالية العالمية المختصة، وما يورده الإعلام، فان مقدار الأموال " المغسولة " في العالم يتعدى ترليون دولار سنويا!
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk
لتكبير الصورة اضغط مرتين