الصورة الفنية الاسلامية
في مُلتقى المهندسين العرب، قال المفكر الألماني الاسلامي مراد هوفمان: الفن الاسلامي كان أحد أسباب اسلامي، " وألهمتني أعمال معمارية، مثل الحمراء في غرناطة والمسجد الكبير في قرطبة، اليقين بأنها إفراز حضارة راقية رفيعة. واستوعبت جيدا ماكتبه راينر ماريا ريلكا بعد زيارته لكاتدرائية قرطبة، إذ كتب: " ... تملكني منذ زيارة قرطبة عداء وحشي للمسيحية، انني أقرأ القرآن وهو يتجسد لي صوتا يستوعبني بقوة طاغية، واندفع بداخله كما تندفع الريح في الارغن". وصار الفن الاسلامي لي وطنا جماليا، مثلما كان الباليه الكلاسيكي من قبل، وأصبحت أرى الاعمال الفنية للعصور: الاغريقي والروماني والقوطي، ولعصر النهضة والروكوكو مثيرة، وعريقة، وأصيلة، بل وعبقرية، ولكنها لاتنفذ الى داخلي، ولا تحرك عواطفي ولا مشاعري."
حتى أصبح هوفمان يدعو المسلمين أنفسهم إلى إدراك قوة جاذبية الفن الاسلامي، حيث يتابع قائلا: " انني ادرك قوة جاذبية هذا الدين الان أفضل من ذي قبل، حيث انني محاط في المنزل الان بفن تجريدي، ومن ثم بفن اسلامي فقط. وادركها ايضا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزا عن مجرد تعريف الفن الاسلامي. ويبدو ان سره يكمن في حضور الاسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والارابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. انني افكر كثيرا في أسرار اضاءة المساجد وفي بنائها الديموقراطي، وفي بناء القصور الاسلامية، الذي يوحي بحركة متجهة الى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي - الوظيفي المبهر للمدن الاسلامية القديمة ( المدينة ) الذي يهتم بالمعيشة المتجاورة تماما كما يهتم بابراز موقع السوق وبالمواءمة او التكيف لدرجات الحرارة وللرياح، وبدمج المسجد والتكية والمدرسة والسبيل في منطقة السوق ومنطقة السكن. وان من يعرف واحدا من هذه الاسواق - وليكن في دمشق، او اصطنبول او القاهرة او تونس او فاس - يعرف الجميع، فهي جميعا، كبرت ام صغرت، منظمات اسلامية من ذات الطراز الوظيفي. فما أكثر ماتجولت في سوق مدينة سلا المؤاخية للرباط لكي استعيد حيويتي. انه ذروة مجتمعية حيوية يجد فيها كل انسان مكانا له، شيخا كان ام شابا، صحيحا كان ام مريضا، فقيرا ام غنيا، ابيض ام اسود، ولا يوجد به عجلة، ولا ازمة ضيق وقت، ولا مبالغة في تقييم الذات، ولا خمور ولا وسائل نقل ثقيلة، ولا سياج ولا ابتزاز، وحيث الجميع سواسية، وكل عملية شراء ترتبط ب " دردشة "، وحيث تغلق الحوانيت ابوابها وقت الصلاة.
كان مااحسست منذ البداية انه اسلامي وباعث على السعادة هو في واقع الامر التاثير الناضج للتناغم الاسلامي، وللاحساس بالحياة والمكان الاسلاميين على العقل والروح. وهذا ما أحسست به في متحف جولبنكيان الاسلامي في لشبونة، مثلما أحسست به في المسجد الأموي بدمشق، وفي مسجد ابن طولون بالقاهرة، وفي مسجد القيروان القديم أو المسجد السليمي في درنة."
كما يؤكد ذلك المفكر الفرنسي الاسلامي روجيه غارودي: " ان الفن الاسلامي، كالعلم الاسلامي والحياة الاجتماعية، والفلسفة الاسلامية، التي لايمكن فهمها، الا من خلال مبدئها الاساسي، الا وهي العقيدة الاسلامية. "
ومن هنا جاء سعار النخب الغربية وموظفيها حكام المستعمرات من عرب ومسلمين، وعملهم الدؤوب على هجرة المسلمين لصورتهم الفنية المميّزة والمتفرّدة، وتدمير منتجاتها بالاهمال والتخريب والنهب والتسريب، للقضاء على جاذبيتها، وعلى رموزها التاريخية في الحكمة والمعرفة والعلوم والاداب والفنون، بُغية إفراغ روح الامة والقبول بالتغريب واستيراد نظمه ومفاهيمه ونماذج ثقافته وفنونه. وفي ذلك كتب ( أحمد الخميسي، اسرائيل عدو الثقافة، أخبار الادب، القاهرة، 17/09/2006 ): " ومع بدء الحرب الامريكية على العراق قدمت اسرائيل لامريكا خرائط مفصلة بالاماكن الاثرية العراقية، وشاركت في نهب التحف والتماثيل ونقلها، وفي حينه قدمت المذيعة الاسرائيلية " ميكي حايموفيتش " برنامجا على التلفزيون الاسرائيلي، قالت فيه: " ينبغي ان يبادر طيارو التحالف الى قصف هذه الاماكن الاثرية من البر والبحر والجو، اذ لايمكن التخلص من الارهاب الشرقي الا بتدمير شامل لتاريخ هذه المنطقة الحضاري."
". ومن " تعاليم " ميكافيلي: " اقطع الشعب عن تاريخه...تسيطر عليه. "! هكذا ضمّ الفرنسيون الجزائر وحاولوا جاهدين طمس ثقافة الجزائريين، لكن الاسلام أعياهم بانتصار الثورة الجزائرية بعد 132 عاما من الادماج الاستعماري. لذلك، وللقضاء على ذاكرة العراقيين فقد اتّبع الغزاة منهج الابادة: فتمّ القضاء على ملايين من وثائق الطابو ( سجلات المُلكية العقارية ) والملفات الرسمية لقطاعات من الدولة، والمكتبات الاساسية، ونهب المتاحف والاثار المدفونة، وهو سلوك بربري للغزاة يتواصل حتى الوقت الراهن.
لكنّ مافات ميكافيلي والنخب الغربية، ان أقواما، كالمصريين والعراقيين والايرانيين، يعيشون في تراثهم، وهو محيط بهم وكأنه جزء من مكوِّنات الطبيعة، كالنهر والجبل والسهل والبحر، فهل يمكن القضاء على هكذا تراث؟ على الأهرام والأزهر، والزقورة والملوية، وبرسيبوليس وأصفهان؟ لكنّها مأساة المجتمع، عندما يَفْصِل الظَلَمَة المُتسلطون على رقاب الأمة، السياسة عن الأخلاق، وعندما تطغى الحماقة على الحكمة.
لم يستخدم المسلمون إسم " فنان " و " فن " قبل أنشطة أوائل المستشرقين الذين درسوا أحوال بلاد المسلمين قبيل استعمارها كمدخل معلوماتي لتسهيل حملات الغزاة العسكريين والسياسيين والاداريين. فالفن عند المسلمين هو إتقان الصنائع التي تفي منتجاتها باحتياجات المجتمع من المدينة الى المصوغة، فائدة وجمالا، مما يتوافق مع منظومة القيم الدينية - الثقافية الاسلامية. وما أن تمّ استعمار وتجزئة بلاد المسلمين والتمكّن من السيطرة على اقتصادها وثرواتها الطبيعية والبشرية، وتعيين موظفين محليين من خونة البلاد ممن ينوب عن المستعمِر في تحقيق مصالحه، والحديث الكاذب عن الحرية والديموقراطية والتحضّر، فقد أيقنت النخب الاستعمارية وموظفوها المحليون أنهم منبوذون و مكروهون ومرفوضون ومستهدفون من قبل مجتمعات المسلمين؛ فتم اللجوء للعمل على استئصال القاعدة الروحية التي تشد نسيج المجتمع، وهو الاسلام وثقافة المسلمين. وقد أعيا ذلك سادة سايكس - بيكو، الذين وإن حققوا الكثير على مدى سبعة عقود، غير انهم ظلوا بعيدين عن تحقيق كامل أهدافهم التخريبية المرسومة. ولكن ما أن صعد على سدّة حكم العالم اليانكي الامريكي قاضيا وشرطيا وسفّاحا عالميا، حتى أخذته لوثة الاستئصال المتمرّس عليها في إبادة " الهنود الحمر "، سكان أمريكا الاصليين والقضاء على ثقافتهم؛ فابتكر منظومة من الاكاذيب اتخذها ذريعة لاعلان الحرب على الارهاب الاسلامي، فتم غزو عدد من بلاد المسلمين وتخريب بناها التخطيطية - المعمارية وتدمير المواقع التاريخية والاثرية ونهب الممتلكات الثقافية والمتاحف وتصعيد حملة نشر فنون الحداثة العبثية وتشجيع تسويقها.
لقد أحدث الاسلام ثورة ثقافية حقيقية وجبّارة شملت العالم الاسلامي، وعَرَضَتْها على شعوب الارض مُدعّمة بقوى تأملية عميقة أفرزت الثقافة الاسلامية العظيمة بطاقة علومها وتقنياتها ومعارفها وآدابها وعمارها وفنونها، بنفعها وجمالها ووضوحها: الصورة الفنية الاسلامية، التي تعكس الكون والخلق من خلال النص القرآني المُلْهِم بعدة مستويات: ظاهرة وباطنة، للذين يفهمون ويعلمون ويتبصّرون ويتفكّرون ويفقهون.
والصورة الفنية الاسلامية ووحدتها الشاملة هي منتوج وبوصلة معا: فهي ثمرة رسالة التوحيد، التي تعكس المنهج الاسلامي الايماني الذي كان الحافز لابتكار الصورة الفنية الاسلامية، والتي حالما نشأت في العهد النبوي، وطوّرها الامويون، وتركّزت ملامحها في العصر العباسي، ثم انتشرت في كل انحاء العالم الاسلامي، لدى جميع الاقوام التي انضوت تحت لواء الاسلام، حيث صار الفنانون والصناع يبدعون بهدي نورها تغايرات إقليمية ومحلية تحمل روح هذه الصورة الفريدة، ولا تخرج عن إطارها الحسي الموحد، الذي صَهَر تراكم عوامل البيئة، ومنهج الدين الاسلامي، وتراث الثقافات السابقة والموازية للاسلام، ومنه تراث الشعوب والاقوام التي أسلمت. وهذه الصورة لم يخلقها ويبتكرها قوم آخر ينتمي الى دين أو معتقد غير الاسلام.
كان هذا في الماضي. لكن في واقع الحاضر أطلال وثقوب وفراغات كبيرة: فمدن وعمارة الماضي وظيفية، نافعة وجميلة، بينما مايشيَّد في الوقت الحاضر غربي وغريب، غير وظيفي وقبيح ومنفّر؛ والوعي الفني ضعيف، ويقتصر على نخبة محدودة جدا من المجتمع؛ والأطر الفنية التي تُدَرِّس الفنون في المدارس والجامعات وتقدمها في المعارض والمتاحف ضعيفة جدا، ومناهج التعليم قد تكون خالية من كتب ومطبوعات الفنون، ومجتمعات المسلمين شبه معزولة عن الفعاليات الفنية كالمتاحف والمعارض. وتحصيل الحاصل ان الثقافة الفنية في مجتمعات العرب والمسلمين ضعيفة ومتخلفة.
لكن الامل بدأ يدب، والروح تنتعش وتُبعث من جديد، حيث يساهم المسلمون، بطرق ثقافية وفنية متنوعة، للتصدي للهجمة الغربية، ببناء المجموعات الفنية العامّة والخاصة، وبتشييد وتأثيث المتاحف الجديدة، وتوسيع أجنحة الفنون الاسلامية القائمة في بعض المتاحف العالمية، وتوسيع حركة المعارض الدورية بين القارات والبلدان، من كندا والولايات المتحدة عبر أوربا الى استراليا والصين واليابان، لعرض منتخبات من مجموعات الفنون الاسلامية، سواء تلك الموجودة في مُلكية متاحف الدولة، أو من المجموعات الخاصة، لتبيان أهميتها، وتنوعها، والمعارف الساكنة فيها، وأساليبها الفنية، وجمالياتها الفريدة، التي تختلف عما يعرفه وألفه الزوار من فنون أخرى.
وقد أصبحت ديناميكية هذه الحركة الفنية الاسلامية، وكثافة حملتها التنويريه بالمتاحف والمعارض والمطبوعات والفعاليات والانشطة المواكِبة لها من مؤتمرات وندوات وأفلام، وحتى نماذج من تنوع مأكولات المسلمين، إضافة الى إقامة أسواق، بعضها داخل خيام، تُعرض فيها منتجات الفنون التقليدية من مختلف الأقطار الاسلامية أفضل وأصدق سفراء لثقافة المسلمين في العالم. ولا تزال هذه الحركة المشحونة بالمعرفة والفن والجمال تثير إعجاب وتقدير الزوار والمهتمين، وتساهم في تغيير بيئة الجهل، والغموض، والآراء المجحفة، والأحكام الظالمة لقطاعات واسعة من مجتمعات الغرب؛ فتنتشر تدريجيا آفاق المعرفة الحقيقية عن الاسلام: حكمته، ورسالته المتطورة والموجهة للناس أجمعين، والابتكارات، والتراكم المعرفي الشامل الذي قدمه المسلمون الى الحضارة العالمية، ومنه فنونها المتميزة بجمالياتها، وفرادة صورتها الساطعة، التي تسرّ الناظرين؛ خاصة لهؤلاء الذين لم تكن لديهم معرفة حقيقية ومُنصفة عن الاسلام وثقافة المسلمين، ولم تسنح لهم فرصة السياحة في المدن الاسلامية القديمة، ولا زيارة المتاحف والمعارض التي تستعرض تراث المسلمين. فأصبحت فئات من مجتمعات الغرب تُراجِع مواقفها السلبية المُسبقة، ومِنْ هذه الفئات مَنْ يتحوّل الى الشغف بتراث المسلمين، وصار منهم من يتعمّق بدراسة الاسلام وثقافة المسلمين ويدرس فنونها، ووحدة إطارها البعيدة كل البعد عن الارهاب والعنصرية.
كما نجم عن هذه الحركة الفنية المفيدة والجميلة بناء لبنات حوار هاديء، وذو حضور فيزياوي شديد التميّز والخصوصية، يختلف تماما عن الحوار المزوَّر بين أفراد ذوي مصالح استعمارية مشتركة، يجلسون في غرف مغلقة، يَلْغطون بما لاينفع الناس، فلا ينتج عن خطاباتهم ونواياهم خير يذكر. وهكذا أصبح الفن والجمال من الأدوات والوسائل المهمة: للحوار الحقيقي للتعارف، والتساكن، والتشارك، والتعاون بين الشعوب والامم، على أساس المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل.
ومن ناحية أخرى، فان فعاليات المتاحف والمعارض، التي تقام لفنون المسلمين في الغرب، تجد صداها في مجتمعاتنا، التي تثمِّن عاليا اهتمام هذا القطاع النبيل من الغربيين بالثقافة والفنون الاسلامية، وبتقديمها الى مجتمعات الغرب للمساهمة في التعريف بها، وفي تقوية الصلات بين الناس في الغرب وبين المسلمين.
والأمل في أن يقود هذا النشاط التأسيسي للحراك الفني الحديث إلى ابتكار صيغة تجديدية ابداعية لصورة فنية اسلامية معاصرة تستوعب التقدم العلمي التقني المذهل للحاضر، وتقدِّم أسلوبا مميّزا للفن الاسلامي يواصل حيوية الصورة الفنية الاسلامية التاريخية، ويُثْبت قدرتهاعلى الاستمرارية الابداعية المفيدة والجميلة بما يؤثر في المُتَلَقي المسلم والعالمي لتمنحه متعة مميزة من خلال المضمون الانساني والاخراج الجمالي والوقع البصري.
www.al-jadir-collect.org.uk jadir959@yahoo.co.uk