تراث الشعوب بضائع في أسواق الغرب (الحلقة الاولى)

2012-02-12

1
سرقة الامبراطوريات لتراث الشعوب

نَهَبَتْ النُخَب الغربية الممتلكات الثقافية للمستعمرات، من آثار وتحف وأعمال فنية، وسرّبتْها الى مراكز الامبراطوريات والدول الاستعمارية، تأكيدا على انتصارها، كما حصل من قِبَل بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والمانيا واسبانيا والبرتغال؛ وذلك كجزء من النهب الشامل لموارد المستعمرات وحقوق شعوبها. وقامتْ على أساس هذا التراث الفني المجموعات المتحفية في الغرب، إضافة الى اكتنازها في المجاميع الخاصة للاثرياء والشركات والمؤسسات المهتمة بالاعمال الفنية، وكذلك حفظها في بيوت الضباط والاداريين المُسيِّرين للحركة الاستعمارية؛ وتكدّس الفائض في أسواق الفن الاوربية، التي لاتزال غنيّة بما يفد اليها من أعمال فنية يجلبها للبيع ورثة الجمّاعين وموظفي الادارات الاستعمارية. كما تحوّل تراث المستعمرات الى مواد تجارية تباع بالمليارات من الدولارات في أسواق ومزادات الغرب؛ إضافة الى توظيفها في المتاحف والمعارض لتنشيط الحركة السياحية العالمية والاستفادة من مداخيلها.

وفي الوقت الحاضر تنتقل نفس ظاهرة سرقة الممتلكات الثقافية للمستعمرات من أوربا الى القطب الامريكي، الذي ذهب شوطا بعيدا في تنفيذ المخطّط الغربي لمحو الذاكرة الثقافية لشعوب المستعمرات؛ إذ يتم نهب المتاحف والمواقع الأثرية بالحفريات غير المشروعة، وتهريب المسروقات لتتوزع على متاحف الغرب، وأصحاب المجموعات الخاصة، وأسواق ومزادات الفن؛ حتى أصبح تراث الشعوب، كما هو الحال بالنسبة للعراق، بضائع تباع علنا على شبكة الانترنيت، وظهر جمّاعون جدد في العالم يكوّنون مجموعاتهم، مهما كان حجمها، بالشراء من خلال الانترنيت. وقد اتصل بي مواطن يوناني غيورعلى تراث بلاده، فوجد الفرصة سانحة له لتكوين مجموعة من عشرات الخناجر الفضية من كريت اقتناها عبر الانترنيت.

ولكنّه، ومع تنامي وعي شعوب المستعمرات وأخذهم زمام المبادرة لانتزاع حقوقهم، وفرض اعتزازهم بتراثهم وهويتهم وكرامتهم، فان الامر صار يتغير: فبينما نُهبت وأُحرقت الممتلكات الثقافية العراقية، التي استهدفها الغزاة عام 2003 وفرّط بها عملاؤهم الفاسدين من العراقيين، فانه على الضد من ذلك حصلت مبادرة وطنية واعية ابّان ثورة 25 يناير المصرية المجيدة، بقيام الجيش المصري بمساندة الغيورين من الشباب بتطويق مبنى المتحف المصري الواقع في صدر ميدان التحرير لحمايته من السرقة والنهب، رغم فقدان بعض التحف، كما جاء في عدد من المصادر الإعلامية.

وتستهدف المؤسسات الاستعمارية في الغرب السيطرة على أفضل ما أنتجته عبقريات ومواهب وأستاذية فنّاني وحرفيي ومهرة صنّاع المستعمرات على مر آلاف السنين من التراكم الابداعي؛ ولم يتوقف هذا الاتجاه يوما، سواء بشكله السافر، كما حصل إبّان النهب البربري للمتاحف والمؤسسات الثقافية في العراق، أو بالنسبة لتراث فلسطين والصومال وأفغانستان والبوسنة وغيرها. وبالامس القريب جدا سُرقت لوحة " زهرة الخشخاش " لفان غوغ من متحف محمود خليل في القاهرة، وتبعتها سرقة " منبر قاني باي الرماح "؛ حتى ان ( أخبار الادب، 23/01/2011، القاهرة، ص 5 ،) نشرت مقالا بعنوان: " مساجد أثرية على قوائم اللصوص "، أردَفَتْهُ على الصفحة (33) من نفس العدد بمقال آخر: " سرايات وقصور ومساجد غير مسجلة: تراث مهدور " . فاذا كانت اللوحة صغيرة و" تسهل " سرقتها، فماذا عن منبر في مسجد؟! فهل ان إفراغ بيئة المسلمين من روحها الثقافية والفنية صدفة وعشوائية؟ أم انه مخطط منظم؟ فقد نشر ( اسامة فاروق، حوار، سمير غريب: أنا شاهد على تدمير تراث مصر، أخبار الادب 19/12/2010 )، يذكر فيه سمير غريب: " أتلقى مكالمات 24ساعة عن أماكن متميزة تهدّم او يتمّ الاعتداء عليها، لذلك أعتبر نفسي شاهدا على تدمير تراث مصر أو ماتبقى من تراث مصر لان 80% من هذا التراث تمّ تدميره. "

ونرجو ألايصل بنا الامر الى مستوى الكارثة التي عبّر عنها آلان غودونو، مدير معهد التراث الافريقي في بنين، مثلا: " الى ان 95% من التراث الفني العائد الى افريقيا جنوب الصحراء موجود خارج القارّة، مما يحرم الافارقة الشباب من الاحساس بهويتهم "، ( " رسالة اليونسكو " العدد الثالث - 2007 / المقال الاول. )

إنه نزيف مستمر منذ الحروب الصليبية، وعبر حملات استعمار العالم الاسلامي، التي بدأت في أعقاب الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 والى يومنا هذا، حيث تُهرَّب وتُسرَّب تحف المسلمين نحو الغرب، عبر الغزو، وبالسرقة، وبالخداع، والتنقيبات الغير شرعية، وبالاقتناء الذي يتم بواسطة " السيّاح "، وأصحاب المجموعات الخاصة، وموظفي المتاحف والمؤسسات الغربية، وكهدايا بين الحكام والمسؤولين. هذا بالاضافة الى الاهمال المتعمّد والمُمنْهج في الغرب للاعلام عن إبداعات الثقافة الاسلامية وتأثيرها، بل وانتقال منجزاتها ومبتكراتها لتصبح الاساس الذي قامت عليه ثقافة الغرب المعاصرة.

وفي ذلك يذكر ( السيد ياسين، النقد الذاتي الغربي، جريدة الحياة، 16/ 03/ 2008 ): " ان مفردات الحداثة الغربية هي الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا والديموقراطية التي كانت الاسرار الكامنة وراء التقدم الغربي " لكن " ازدراء أديان الاخرين واحتقار ثقافتهم، هو خيانة واضحة لمباديء الحداثة ". ثم يشير الى ظاهرة النقد الذاتي الغربي في الفترة الاخيرة لاغفال واخفاء الغرب عمدا ودراية بالدور البارز للثقافة الاسلامية في تأسيس الثقافة الغربية الحديثة زاعمين انهم انطلقوا مما وصل اليه الاغريق والرومان للوصول الى الحداثة الغربية. حيث وضع الامريكي مارتن برنال مؤلفه " أثينا السوداء: في الاصول الاسيوية الافريقية للحضارة الغربية " مظهرا ان الاغريق انفسهم نهضوا على اساس ثقافة المصريين الفراعنة وغيرهم. وكتاب الامريكي تشارلس هاملتون مورغان بعنوان " تاريخ ضائع " الذي يظهر انجازات المسلمين في العلوم والفلسفة والطب والادب، والتي قامت على أساسها أوربا عصر النهضة، الذي يتواصل تقدمه حتى الان.

وعن ( نشوى الحوفي، طرح النسخة العربية للكتاب الامريكي " تاريخ ضائع " بقصر المانسترلي بالقاهرة، الشرق الاوسط، 12/03/2008 )، يذكر صاحب هذا الكتاب الامريكي هاملتون مورغان عن الدور الثقافي المهم الذي قدّمه المسلمون للحضارة الانسانية: " قال الكاتب مورغان ل " الشرق الاوسط " ان هدفه من الكتاب ليس الدفاع عن المسلمين أو الاسلام، كما قد يظن البعض، ولكن هدفه الرئيسي هو تسليط الضوء على مرحلة في تاريخ البشرية تكاد تكون في طي النسيان، ليس من قبل الغرب وحده، ولكن من قبل المسلمين انفسهم على الرغم من تأثيرها الشديد في مسيرة الحياة على كوكب الارض من خلال اكتشافاتهم واختراعاتهم وابداعاتهم على مدى مئات السنين بدءأ من عام 570 ميلادية. وأكد مورغان ان وصايا القرآن الكريم ساعدت على تفتح الفكر والعلم في الحضارة الاسلامية، فالعلماء والمفكرون العرب من أمثال ابن الهيثم وابن سينا والطوسي والخوارزمي وعمر الخيام، هم الذين مهدوا الطريق لعلماء الغرب أمثال نيوتن وكوبرنيكوس وأينشتاين وآخرين غيرهم. كما ساعدت قيم الاسلام السمحة على احتواء العديد من العلماء من غير المسلمين ليكونوا مشاركين في بناء حضارة عظيمة اتسعت للجميع بدون تمييز بين أحد على أساس اللون أو الجنس أو الدين. "

ومن إشارات ولي العهد البريطاني الامير تشارلس في خطابات له في جامعة أكسفورد، إنصافه للاسلام وثقافة المسلمين، ومن ذلك أقواله التي تدل على معرفة أفضل بجوهر الاسلام، وعلى موقف موضوعي من ثقافة المسلمين: بأن الغرب لايفهم طبيعة الاسلام، وان هناك جهلا كبيرا لافضال ثقافة المسلمين على الغرب، اذ ازدهرت ثقافة المسلمين في القرون الوسطى من وسط آسيا حتى ضفاف الاطلسي، لكن الغرب اعتاد ان يتخذ من الاسلام عدوا في ثقافته ومجتمعه ومعتقداته متجاهلا روحية تعاليم الاسلام الذي يقدم رؤية تكاملية للكون تشمل الدين والعلم والعقل والمادة معا. وثمّة اضافة من مقولات الامير تشارلس نقتبسها من ( د. وائل مرزا، الاسلام كما يراه الامير تشارلس: " ان العالم الاسلامي يحوي واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية الموجودة لدى البشرية. وهي تشكل في نفس الوقت تراث الاسلام النبيل وهدية لاتقدّر بثمن لباقي البشرية. رغم هذا، كثيرا مايتم استصغار تلك الحكمة الان بسبب التوجه السائد لتبنّي المادية الغربية، أي الشعور بانه لتكون معاصرا وحداثيا عليك ان تقلّد الغرب..."... " وبكل هذا في أذهاننا فاني احب ان اضع امامكم ، لو أمكن، تحديا آمل ان يصل الى ماوراء هذا الحضور اليوم. وهذا التحدي يكمن في تحفيز العلماء والشعراء والفنانين والمهندسين والحرفيين المسلمين لتحديد الافكار العامة، ومعها التعاليم والتقنيات الكامنة في الاسلام، والتي تشجعنا على العمل بالانسجام مع الطبيعة وليس ضدها أو في تضارب معها. انني أدعوكم لاعتبار مايمكن أن نتعلمه من ثقافة المسلمين التي تمتلك فهما عميقا للعالم الطبيعي لمساعدتنا جميعا في التعامل مع التحديات المخيفة التي تواجهنا ".

لكنّه الجهل الذي لايزال سائدا في مجتمعات الغرب والذي يعود الى فترة الحروب الصليبية، والى إصرار الاعلام الارهابي الغربي على تظليل شعوب الغرب بتشويه الحقائق عن الاسلام وثقافة المسلمين، كما لاتزال البرامج والمناهج الدراسية الغربية مشحونة بالمواد العنصرية، التي تكوّن صورا يتربّى على زيفها أجيال من المتعصبين الكارهين لكل ماهو اسلامي من دين وثقافة وعلاقات اجتماعية ونظم اخلاقية؛ وما جرائم الغزاة في ابادة الناس في فلسطين والعراق وافغانستان وباكستان بهذا الشر المستطير، بروح فاسدة ودم بارد وضمير ميّت و خال من اي اهتمام بقدسية حياة الانسان الا نتيجة لهذه التربية البربرية؛ فالنخب الغربية عاشقون عقائديون للغزو والنهب والتدمير والابادة والتهجير، ولقهر الشعوب المظلومة، واستهلاك أزمانها وأجيالها وطاقاتها بوحشية واستكبار وغطرسة، والنَيْل من كرامتها ومنعها من حقها في التطور والنهضة والتمتع بثرواتها والخروج من أسار التخلف والتبعية والاستغلال، وفرض سياسة التغريب الممنهج، ومواصلة الكذب والخداع والنفاق والتزوير والغدر والاحتيال، مما خلّف في ديار المسلمين عالما مشحونا بالحرمان والشقاء والبؤس والتعاسة واليأس والاحباط والجهل والمرض والفقر والبطالة، والغضب ... كل ذلك الاجرام المتواصل فداء لاستمرار قوة ورفاه الغرب وتطوره؛ فما يستحقّه المسلمون عند النخب الاستعمارية الغربية هو نماذج من أمثال غزو العراق وافغانستان، ومن أبوغريب وكوانتانامو، التي تستمر منذ تسع سنين لاينالها العدل، بل حتى لايتذكّرها.

www.al-jadir-collect.org.uk

jadir959@yahoo.co.uk

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/77f9ef68-b32b-4aec-a694-f46c4dedc21c.jpeg

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f9fd4990-2b9b-47e4-a8cb-50e718c44acd.jpeg

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/3c0983f1-eb45-42a4-9f61-76046779196e.jpeg

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/5c699fd6-650c-4b19-8a74-e23c72acb45c.jpeg

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/b1094680-ac42-4df5-977e-8d764f968232.jpeg

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved