تخوض المستشفيات في جميع أقطار العالم يومياً، معركة حياة أو موت مع الآفات الدموية - كسرطان الدم، وفقر الدم، وهلم جراً، وهي أمراض يمكن أن تفتك بالأجسام في مراحل مبكرة من حياة الإنسان.
وأحد الأسلحة الفتاكة في ترسانة الأطباء لمعالجة هذه الآفات الخطيرة هو (زرع نخاع العظام)، ولكن الغالبية العظمى من المرضى بهذا النوع من الدواء لا يستطيعون العثور على (مبترّع) ذي قرابة وثيقة بهم، تحول دون رفض أجسامهم لهذه اللمسة الشافية التي يمثلها (نخاع عظامه).
وحتى لو وجد المتبرع المناسب، فإن عملية (زرع) نخاع العظام من جسم إلى آخر، هي عملية معقدة محفوفة باحتملات الخطورة.
ولكن فريقاً من العلماء الطبيين في مستشفى الأطفال بمدينة بوسطن، يحاولون الآن توحيد جهودهم في مسعى طموح من أجل إدخال تحسين جذري على عمليات زرع نخاع العظام التي تهدف لمعالجة أمراض الدم الخطرة، بحيث يصبح بالإمكان التوسع في هذه العمليات واللجوء إليها على نطاق واسع من أجل معالجة أعداد أكبر من المرضى.
استنساخ خلايا جلد المريض
الخطة التي اعتمدها أولئك الأطباء تقوم على استنساخ خلايا جلدية من جسم المريض نفسه، وذلك من أجل توليد خلايا جذعية دموية، تكون مادة ممتازة مقبلولة للزرع، تنتفي فيها تماماً إمكانية رفض جسم المريض لها - من الناحية النظرية.
إن هذه الجماعة من الباحثين في مستشفى الأطفال المشار إليه، ليست سوى فريق من خمس فرق أكاديمية مماثلة في العالم بأسره، لديها خطط لاستنساخ الخلايا البشرية.
من أين يجيء الدم؟
وفي مسعى هذه الجماعة من تحقيق هذا الهدف العلاجي الواسع ضد أمراض الدم، تجد نفسها منساقة نحو مجال علمي يتوخى الوصول إلى سؤال يبدو بسيطاً: (من أين يجيء الدم؟).
إن الدم هو مادة بالغة التعقيد إلى الحد الذي يحمل العلماء إلى الإشارة إليه بأنه عضو، مكتمل الأبعاد، شأنه شأن الدماغ أو القلب. وهو يحتوي على خلايا الدم الحمر الحاملة للأكسجين - غذاء كل خلايا الجسم، وعلى خمسة أنواع رئيسية على الأقل من خلايا الدم البيض، الجائلة في الجسم لمحاربة العضويات الغربية الغازية، كما يحمل الدم بعض الخلايا الاختصاصية.
هذه المنظومة المعقدة عرضة لأمور كثيرة تسبب اختلالها، مثل سرطان الدم، عند إصابة خلايا الدم البيض بالسرطان، وطائفة من الأمراض الجينية الوراثية، بما في ذلك خلايا الكريات المنجلية في حال فقر الدم المنجلي، تلك الأمراض التي تنشأ عن عدم التشكل الصحيح لخلايا الدم الحمر.
كيف يزرع النخاع الآن؟
عند زرع النخاع حالياً، يقوم الأطباء أولاً باستعمال مجموعة من العقاقير وطرق التشعيع، لقمع الجملة الدموية في جسم المريض. بعد ذلك يقوم الأطباء بإعطاء المريض شيئاً من نخاع عظام المتبرع - وغالباً ما يكون شقيقاً أو شقيقة له - الذي تكون نُسج جسمه متطابقة مع نُسج جسم المريض ولا يحتمل أن يرفضها جسم المريض ولا يحتمل أن يرفضها جسم المريض الملتقي. وفي هذا النخاع يوجد عدد قليل من الخلايا الجذعية الدموية. وبعد أن يحقن النخاع في جسم المريض، تقوم الخلايا الجذعية باستيطانه ، ثم تعيد بناء دم المريض بناءً كاملاً، كما تجدد جملته المناعية. هذه الخلايا الجذعية الدموية، شأنها شأن سائر الخلايا بالجسم، تبدأ من خلية بيبيضة مخصّبة منفردة.
وعن طريق استعمال البحّاثة الطبيين مخبرياً ببيضات من بعض حيوانات الاختبار (الفئران والأسماك المخططة الصغرى)، استطاعوا الاهتداء إلى كيفية التي تكتسب بها الخلايا، التخصص الذي يمكنها من التطور إلى (مضغة)، وحاولوا (تقليد) هذا التخصص في المختبرات.
ولكن القوانين السائدة تحرّم تطبيق هذه المحاولة الاستنساخية على البشر. فلا عجب أن ينسحب هذا التحريم على الأعمال التي يخطط لها في مستشفى أطفال بوسطن، تلك الخطط التي أصبحت لها في المركز أكثر من خصومة سياسية أدبية حالياً. ويحمل على هذه المحاولات عدد من النقاد الذين طعنوا بها قائلين إن تدمير أية مضغة في المختبر، ترقى إلى جريمة قتل كائن بشري.
الرأي المغاير
ولكن دعاة هذه المحاولة يرون غير هذا الرأي، وحجتهم في ذلك أن القصد من ورائها هو إمكانية القضاء على آفة المريض، وأن المضغة ليست مساوية للحياة البشرية، فالمضغة، كما يقولون، تكون عند استعمالها عبارة عن كرة مجهرية من خلايا لا شكل لها، مؤلفة من حوالي مائتي خلية، لو وضعت في رحم امرأة، لكان من المحتمل أن تتطور إلى طفل مكتمل النمو.
ولكن هذه المضغ حالياً يتم تدميرها بشكل روتيني يومي كجزء من معالجات إخصائية.
عراقيل كبرى
على كل حال فإن الأطباء القائمين على المخطط الراهن في مستشفى أطفال بوسطن، يواجهون صعوبات كبرى في محاولاتهم، إذ أن عملية زرع نخاع العظام تصطدم بثغرات خطيرة، فأقل من ربع عدد المرضى لديهم أشقاء أو شقيقات لديهم نخاع عظام مماثل لنقي عظام المريض، واستعمال نخاع عظام لا تتوفر له إمكانيات النجاح، يؤدي إلى تصعيد الخطورة بصورة دراماتيكية، على المريض.
وحتى المرضى الذين يظلون على قيد الحياة بعد إجراء عملية زرع النخاع لهم، يظلون مع ذلك، معرضين لاختلاطات جدية، إذ أن نسبة مئوية من هؤلاء الناجين، تتراوح بين 10 - 30%، تصاب بمشاكل خطيرة، مثل (الخصومة) بين الجسم المزروع، والجسم المتلقّي له، وعندها يقوم الدم (الجديد) بمهاجمة الجسم، ويوقع أخطاراً فادحة بالكبد والجلد والمسالك الهضمية - ومنها السرطانات!
هذه العاقبة تضع المرضى والأطباء أنفسهم، أمام عملية حسابية صعبة: هل الفوائد المحتملة من عملية زرع النقي تبرر ركوب هذه المخاطر؟
هنالك طبعاً مرضى كثيرون يعانون من أمراضاً صعبة حقاً، ولكنها مع صعوبتها لا تهدد حياتهم، لذا فإن الأطباء لا يرون من حاجة للقيام بزرع نخاع لهم!
لو....
لكن لو تحقق النجاح المرغوب في مستشفى الأطفال، فإن هذا النجاح لن يقتصر على مضاعفة إمكانات الشفاء عن طريق اتباع الوسائل المستعملة حالياً، وإنما يعني توسعاً في معالجة عدد أكبر من المرضى الذين يشكون من داء وبيل.
خذ في الحسبان مثلاً مشكلة صبي مصاب (بفقر الدم المنجلي) (sickle cell anemia)، وهو مرض مميت، سببه وجود خلل جيني وراثي يؤدي إلى تشوه في تشكل خلايا الدم الحمر.
إن ما يحلم به الأطباء في المستشفى المذكور، هو مجيء ذلك اليوم الذي سيصبح فيه بالإمكان أخذ خلية جلدية من جسم ذلك الصبي، ونزع النواة منها المحتوية على (الدنا) DAN. ثم وضع هذه الدنا في خلية بيضة يحتمل أن تكون أمه قد (تبرعت) بها، ثم تبدأ هذه الخلية بالانقسام.
لو تمّ ذلك، لاستمر النمّو عدة أيام، إلى أن تكتمل (مضغة) تكون (الدنا) فيها مطابقة (لدنا) الصبي المريض بفقر الدم المنجلي.
ومن هذه المضغة يستطيع العلماء أخذ خلايا جذعية، يمكن لها أن تتحول إلى أية خلية أخرى في جسم المريض - بما فيها خلايا الدم.
عندئذ، لو تم ذلك، سيكون باستطاعة العلماء تصحيح (دنا) الخلايا الجذعية، مستخدمين في ذلك إجراءات مخبرية مجرّبة، من أجل (تبديل) الجزء المسبب لداء فقر الدم المنجلي.
ثم، عن طريق اتخاذهم خطوة أكثر صعوبة، (سيقنعون) الخلايا الجذعية المضغيّة بالتحول إلى خلايا جذعية دموية، مما سيضع بين أيديهم مادة تامة الإمكانية تقريباً، تصلح لأن تكون غرسة لنقي عظام!!
__________________________________________________________