"دعوا الرأي يغبّ، حتى يختمر،
وإياكم والرأي الفطير"
(عامر بن الظرب)
اختار الشاب منضدة قصية، عند زاوية من المقهى البيروتي المطل على صخرة الروشة وفتح كتابه على صفحة منه وأخذ يقرأ.
كان الشاب يقرأ في حينه، على مهله وكلمة كلمة، الأفكار التي يطرحها الفرنسي سانت اكزوبري في عمله الصغير البديع: "الأمير الصغير". كان ذلك قبل خمس وثلاثين سنة.
قبل ثلاثة اسابيع، انتوى الفقير السعيد أن يختلي بنفسه مع أحد كتب اكزوبري؛ في سوق كبير وضخم؛ فاختار منضدة قصية؛ عند زاوية مهملة وفتح كتابه على صفحة منه. وأخذ يقرأ.
من عادة الفقير السعيد أن ينغمر في القراءة، حتى أنه ينسى الذي يخاطبه عن قرب، أو يجالسه حتى تحتك كتفه بكتفه.
دعونا نعد ترتيب المشهد: أنت تتقدم من باب بيتك، ثم تدير المفتاح في قفله، وبعد ذلك يمتلىء بصرك بمشهد البيت؛ غرفة بعد غرفة، وحاجة بعد حاجة، ليمتلىء البيت بك؛ وتشغله أنت، ولا يعود بينك وبين البيت، إلا صمت الألفة الناطق.
وهكذا القارىء الحصيف مع الكتاب.
ثمة مفتاح ما، ربما يكون عنواناً؛ أو كلمة، أو جملة قصيرة، يشرع أبواب الكتاب أمامك، ويجعل من البعيد قريباً، ومن الصعب سهلاً، ومن المركّب بسيطاً، ومن المستحيل متاحاً.
ولذلك، فإن "أبا الطيب" عندما قال: ان الكتاب خير جليس، قد أصاب كبد الحقيقة، لأن الكتاب يفيدك وهو صامت، ويفري عيوب الناس وهو ساكت ويفكك الحالات ثم يعيد تركيبها، من دون أن تسمع له أي صوت، سوى صوت الكلمات فقط.
صوت الكلمة هو الصمت.
والصمت عالم لا قبل للضجيج به، ولا قدرة للثرثارين على المكوث بين جنباته، فهو مثل الموسيقا، أو الموسيقا هي الصمت ولكنه صمت ضاج، كما قال بيتهوفن.
وقد ضج الصمت حولي، قبل ثلاثة أسابيع، حين شاهدت فتاة أوروبية تجلس إلى طاولة صغيرة، ثم تفتح حقيبة يدها وتتناول كتاباً من داخلها، وتبدأ بالقراءة، بينما كان الناس حولها في ذلك السوق العامر بكل شيء إلا بالكتاب؛ يبدون خرساً.
كيف يمكن لسوق ضخم ان يعيش من دون غرفة مكتبة؟
بيد أن تلك الفتاة الاوروبية التي ارتبط الكتاب بها، كانت تعيد تأثيث ذلك الصمت بكتاب.
sharjah_misan@yahoo.com
www.juma-allami.com