" إن كل نداء إلى الماضي ، هو نداء حار إلى المستقبل "
(توما الأكويني)
قال علي السوداني ، بثقة : أنا آتيك به.
فتح حقيبته الجلدية ، وأخذ يعبث أو يبحث في داخلها عن شيء ما .
هذا السوداني الساخر في حديثه ، المثير للضحك والبكاء في كتاباته الصحافية السياسية ، الهجاء حد الشتيمة في انتاجه القصصي ، كان قادراً على أن يفعل المستحيل في تلك الليلة الأردنية ، لكي يأتي بحسب الشيخ جعفر ، من عزلته الفريدة في غرفة صغيرة ، فوق فيلا صغيرة ، بمنطقة " وادي السيل " التي يحتار حتى أبناء الوادي ذاته في الاهتداء إليها.
لكن السوداني ، هذا الذي ترك العراق سنة 1994م ، واتخذ من عمان بديلاً مؤقتاً عن بغداد ، كان في ذلك المساء الأردني ، يذكر نفسه بنفسه ، بصداقته مع البياتي ، وبارتصافه الى جانب حسب الشيخ جعفر ، حيث قال لي : لا اريد لحسب الشيخ جعفر الذهاب الى مدينة عربية أخرى ، عمان هي الأفضل له الآن.
" أبو نواس " هكذا نكني الشاعر حسب ، سومري عريق وهو في موسكو انه يتذكر خنازير الأهوار ، وطيور ميسان ، والبريد السياسي ، ويساكن بكائيات الناس في إهراءات القصب والبردى ، حتى وهو يمرق بجانب أحد نصب لينين في موسكو.
إن هذه العزلة المكانية هي التي ستمنحه قدرة لا تضاهى على إعادة ترتيب مواضينا : ماضيه هو مستقبله أيضا .
لم ينس حسب الشيخ جعفر ، ولا للحظة واحدة ، أصدقاءه ورفاقه .
وعندما التقيت به في حديقة اتحاد الأدباء قبل ان يبدأ عقد السبعينيات من القرن المنصرم ، كان هو الصامت الأكثر حضوراً في جمهرة من قدامى المناضلين ، ونساك الشعر ، وبقية الباحثين عن رفاقهم ، حتى لو كان مطرحهم مقبرة في برلين ، أو غرفة منسية في بكين ، أو زاوية مهجورة في فندق بغدادي عتيق.
كتبت له من هنا في " ذاكرة المستقبل " مطلع سنة 1980م : يا أبا نواس .... كيف يمكن تأميم الماضي؟
وعلى مدى ثلاث ليال متتالية ، كان يقص على أقرب الناس اليه ما ترتب على تلك العبارة من إجراءات : تحقيق غير مباشر أجراه معه رجل لا يعرف أن صاحب " القصيدة المدورة " يفلت من شباك البوليس ، كما تنأى قصيدة حب نبفسها عن مجتمعات الكراهية والاغتياب.
انتظارالمقصلة ، كان حديث تلك الليلة مشتعلاً بالسياسة وقليل من الأدب . كان الشاعر علي عبد الأمير لا يني يعيد ويصقل موقفاً يتبناه . يتمثل في ان التغيير القادم في العراق ، حتى لو جاء على هيئة " قرضاي " عراقي ، أفضل من وضع النظام الراهن.
في المقابل ، كان عبد الأمير الركابي . أحد أبرز شخصيات رواية ، وليمة لأعشاب البحر ، يرى في الحل الأمريكي كارثة ستحرق الحرث والنسل وهو كرر – وباستفاضة هذه الرؤية – أمام نخبة من المثقفين والاعلاميين الأردنيين في محاضرة نظمها له مركز القدس للدراسات وأدارها مدير المركز زميلنا عريب الرنتاوي ، الذي ترشحه دوائر خارجية لتولي حقيبة الداخلية والشؤون البلدية ، في الحكومة الفلسطينية المرتقبة ، بعد إطاحة عرفات ، بينما هو لا يكترث لهذه الهراءات الثقيلة.
كنت مشمئزاً من الحديث في السياسة ذلك المساء ، لكني قلت : سأعطي ظهري لفرسان الحل الأمريكي ، كما فعل أديبان روسيان بعدما سمعا بوفاة ستالين.
حسب الشيخ جعفر ، هو الذي قص علي تلك الحكاية ، قبل نحو ثلاثين سنة .
قال : كان ثمة أديبان في موسكو ، لم يتعايشا مع الواقع الستاليني على الصعيد الثقافي ، فكانا يختلفان الى مطعم صغير يمضيان فيه وقتهما بينما يعطيان للجمهور ظهريهما . أما وجهاهما فكانا قبالة الحائط دوماً.
وعندما أعلن نبأ موت ستالين على الملأ ، واجه الناس بعضهم بعضاً بذهول أو بسرور ، إلا ذينك الأديبين فقد أصرا على النظر إلى حائط المطعم ، بينما ظهراهما في مواجهة الجمهور.
قام علي السوداني على حيله ، وقال بصوت جهوري : وصل أبو نواس .
على مهلك يا دنباً ،
مرحبا يا روح جلجامش ،
هلا بك يا ربيب العمر والفتوة وغابات الكؤوس.
تعانقا ، ثم جلسنا صامتين ، كما كان يحدث قبل ثلاثين سنة.
جمعة اللامي
zaineb@maktoob.com