لأنها المربية والحاضنة للأجيال في صغرهم، لكنها تجدهم الجلادين لمشاريع تحررها وانطلاقهاعنمايكبرون... هي الصفحة التي تمحى بممحاة المجتمعات المصلوبة والمجمدة بفكر العادات الموروثة والمغالطة لفكر الحداثة والتطوير.
هي المفكرة الذكية في ذاكرة الرجل، وهي المجهولة المركونة على هامش عصره وخلف لسانه المعقود. هي كل ذلك وأكثر بل وعلى الرغم من جميع المحاولات التي حظيت بها مشاريع تحرر المرأة وكل النداءات والشعارات وتعميمها ونشرها في شتى وسائل الإعلام، إنما ذلك لم يف بالنتائج المطلوبة والضرورية ولا يلبي الحاجة الماسة إلى تطوير المجتمعات وتحررها المرهون أولا بتطوير المرأة لضرورة دورها الإيجابي والفعال في حياة الناس والمجتمع بشكل عام. فالمرأة لم تولد بنصف دماغ ولا بنصف إرادة... ولا حتى بنصف لسان.
فلماذا يريدون إبقاءها ضمن تلك المعايير الظالمة، لماذا تهميشها وتبطينها ببطانة الضرورات الملحة التي يتحدثون عنها ويدعون بأنها تصب في مصلحة التدخلات الخارجية، ولمصلحة من حصرها داخل تلك الأطر التي ستؤدي إلى نتائج مجتمعية مبتورة الأداء تفرض سلبياتها على أجيال ضعيفة الإرادة وغارقة في سبات موروث لا يتماشى مع الحضارة ولا مع التطور المنشود الذي نسعى إليه والذي لا نلمس منه إلا القليل الخجول بحيث لا يتناسب أبدا مع المساعي والطروحات الكثيرة والمتعددة المطروحة تحت مظلة تحرر المرأة، لكن يبدو أن هذه المظلة مثقوبة كالغربال الذي يسمح دائما بتمرير أشياء كثيرة صالحة ومفيدة لذلك نراها تبقى في إطار العناوين العريضة القابلة للترويج لكنها غير معدة للتفعيل والتطبيق.
إن وصول القلة القليلة من النساء إلى مواقع القرار لا يترجم الواقع الحقيقي للمرأة ولا يعكس وضعها وحاجتها الملحة لتنمية دورها المثالي، ولا يلبي متطلبات الآلاف من النساء المقهورات والمظلومات واللواتي يتوجسن ويأملن بتقديم النماذج من الأفعال الجيدة التي تثلج الصدور، وكثيرا ما يتساءلن عن دور من أحرزن ووصلن إلى مواقع متقدمة في السلطة، وهل فعلا من وصلن إلى تلك الموقع قادرات على صنع قرار يترجم ويعكس متطلبات المجتمع الراغب والتواق والمتعطش إلى العمل الجدي الذي يمكنه من وضع اللبنات الأساسية لإنقاذه من تخلفه.
لماذا تختزل قدرات المرأة بالرغم من تبوئها المناصب وبالرغم من تواجدها في شتى مناحي الحياة وفي المدارس والدوائر والعيادات ومكاتب العمل وهي القاضية التي تقضي والتي لا تملك حق الشهادة وتختزل إلى نصف كائن إن طلبت لتلك الشهادة، هي المحامية التي لا تجرؤ على مناقشة مطبات القوانين، بل إن بعضهن يتعاملن مع مواده كما لو كانت قدرا لا يمكن الجدل فيه، وهي السفيرة التي لا تمتلك حق السماح لأولادها بالسفر.إن كل هذا التهميش وغيره تجعلنا نتساءل عن الهوية الحقيقية للمرأة ولماذا تكون دائما في موقع التابع على الرغم من وجودها في موقع القرار، وتفوقها وحضورها الدائم.
قبل تقييد عمل النساء وقدراتهن، ألم يكن الأجدر مناقشة الوضع المزري لواقع المرأة العاملة في الحقل وفي المعامل والمصانع الخاصة ؟ هل عولجت مشاكل المرأة كلها فلم يبق علينا إلا التشطيب على جهات طالبت وساهمت بشكل معقول ومتوازن في الكشف على بعض من عيوب المجتمع ؟ !.. ألم يكن ضروريا احترام سيادة وإنسانية المرأة وضمان حقها المهدور في أفواه المستغلين، إذ تعمل المرأة أحيانا لساعات طويلة مع أجر لا يتجاوز سبعة وخمسون ليرة فقط في اليوم وبدون أي تعويض بل وعلى العكس فإنها تنال قدرا كافيا من الإهانات والتحرشات التي لا تجرؤ على الشكوى والبوح فيها خوفا من ضياع عملها ذو الأجر الزهيد، ولعلمها أيضا بعدم الجدوى من تلك الشكوى.
ومؤسف جدا إن الآلة المصنوعة من المعدن والتي لا يتجاوز سعرها بضع آلاف فإن أجرها يفوق أضعافا كثيرة لأجر المرأة المخلوقة من دم ولحم والمليئة بالمشاعر والأحاسيس القابلة للانهيار تحت الضغوط الكثيرة التي تواجهها في العمل والمنزل والشارع المتمثل بمجتمع يتمتع بنظر لا يرى إلا ما يريده هو. أليس الواجب أن تكون التوجهات والتعليمات لآلاف الرجال الذين يتعاملون مع نسائهن بالضرب والقهر وعدم الاحترام، وبالتالي احترام كيانها وضمان حقها، فأين الجهات التي تحمي المرأة وحقها في القطاع الخاص، أين هم المنصفون الذين سيجتثون الظلم عن المعنفات في المنزل والحقل والمعمل ؟ وأين هم المتطوعون الذين سيغامرون لخوض تلك المساعي التي تساهم في مساعدة المرأة, والذين يواجهون المتاعب ...