عن مركز دراسات المرأة في عمّان صدر قبل أيام كتاب "اللغة الغائبة" للكاتبة زليخة أبو ريشة, وحمل الكتاب عنواناً ثانوياً يشرح ما إبتغته الكاتبة في بحثها وهو "نحو لغة غير جنسوية", ووصفت أثناء حفل توقيع أقيم في دارة الفنون التابعة لمؤسسة شومان بأنه يبدأ بطرح السؤال ويتجرأ أيضاً بطرح حلول, فالمهم لا الجرأة بل المنهج, وآثار (اللغة الجنسوية) التي تمعن في الحط من قيمة الأنثى لم تعُد ضمن سياقها اللغوي حسب, بل هي دخلت كفكرة في العقل وتملّكت الأرواح والأجساد, ودعت الكاتبة زليخة أبو ريشة الى التفكير في جانب آخر يعيش في اللغة, ذلك الجانب الذي تمثله الأنثى, وهذا يحتاج الى أكثر من التعاطف بل الإنسجام مع الفكرة نحو (اللغة العادلة) حيث لا حط لكرامة ولا تقليل من حضور الجنس الآخر.
الكتاب في متنه مثير للجدل وضعته شخصية مثيرة للجدل أيضاً, فالكاتبة, شاعرة, باحثة, كاتبة مقال, كاتبة أطفال, وناشطة في الحركة النسوية "فيمينست" وضمن هذا الإتجاه هي رئيسة لمركز دراسات المرأة, وهي شخصية مستقلة وليبرالية, تذهب في كتاباتها وبحوثها الى مناطق جديدة في الفكر والأدب, مثل النقد النسوي والإجتهاد الإسلامي المعاصر, ويهدف الكتاب "أن يكون دليلاً يقدِّم تحليلاً ما للغة الجنسوية, في مسعى لتقديم نموذج عملي لتخليص اللغة العربية من صفتها الذكورية الطاغية, ويسبق ذلك دراسة أولية لظاهرة الجنسوية, ثم تجليها في عدد مهم من الدراسات والإنتاج المطبوع, قديمه وحديثه".
زليخة ابو ريشة: فكرة "مشاغبة" جماليا وانسانيا (كاميرتي)
والمشروع بدا عند الكاتبة وإتخذ منحى جديداً أثناء إندراجها في محاضرات الدكتور نهاد الموسى (أستاذ النحو في الجامعة الأردنية) لطالبات وطلاب الدكتوراه في قسم اللغة العربية عام 1989 وكانت الكاتبة (إحداهن), وساعدها جو الإنفتاح وحداثية الفكر التي يتمتع بها د. الموسى على إختبار فرضيات مهمة ربما كانت تُطرح لأول مرة في الفكر النحوي واللغوي العربي, وإستمر هذا الإهتمام, أثناء عمل الكاتبة كمحررة للمواد التعليمية في معهد التربية التابع لمنظمة (الأونروا) وقيامها بتحديث النَص التربوي على أساس تخليصه - قدر الإمكان - من مظاهر التفكير الذكوري, وفي هذا الصدد تقول الكاتبة: "وما تزال المهمة شاقة, إذ أن موقعي - ككاتبة, وكمسؤولة عن المواد التعليمية في معهد التربية, يواجهني كل يوم بصعوبة جديدة في معالجة اللغة وتنقيتها وتحويلها الى لغة عادلة ومتوازنة, فاللغة إرث إنساني إجتماعي لا يمكن تغييره بين ليلة وضحاها, وما هذه الدراسة وما سيتلوها إلا محاولات لتنبيه الذهن العربي الى ضرورة القيام بمجهودات دائمة ومستمرة ويقظة لخلخلة الجمود في الإرث وتفعيل ملامح الصحة والعافية فيه, والتفكر - لا على مستوى النظر فحسب بل على مستوى الإستعمال - بالوسائل والأدوات التي تجعل من اللغة العربية لغة الجنسين".
في الفصل الأول من الكتاب عرضت زليخة أبو ريشة لمجموعة من المفاهيم التي ترد في متن البحث وموضوعته, مثل "الجنسوية" بإعتباره يذهب الى "تنميط الناس على أساس الجنس تماماً كما تفعل العنصرية في تنميط الناس على أساس العرق واللون", وسبق للناشطة النسوية الأميركية "أنجيلا ديفز" أن أكدت هذا المعنى وعلاقة (الجنسوية) بأشكال التمييز الأخرى, كذلك عُرفت بمفهوم "اللغة الجنسوية" على أنها التصوير اللفظي لهيمنة الذكورية في البُنيان اللغوي والإستعمال اللغوي أيضاً, وعبر ذلك المفهوم يتم إرتكاب التفسير الذكوري للعالم بما يتضمن أن النساء أقل, وإنهن سلبيات مستقبلات, وإنهن بالتعريف خاضعات للرجل وتابعات له, فيما ذهبت الى إعتماد مفهوم "التخطيط اللغوي" من أجل إعتماده لإحداث التغيير المخطط له ومن أجل تحويل اللغة العربية من صفتها الذكورية الى صفة حيادية ومتعادلة, كذلك كان هناك مفهوم "التوعية اللغوية" التي ترى الكاتبة أنها تتخذ لنفسها إستراتيجيات شتى منها ما يتخذ المنبر الإعلامي ومنها ما يتخذ المعالجة الأكاديمية ومنها ما يختار الإستراتيجيات الحديثة في تطوير شبكات إتصال وحلقات درس ومنتديات ومؤتمرات وسوى ذلك.
في الفصل الثاني درست الكاتبة (التأنيث وصورته في الفكر النحوي العربي, إبن الأنباري نموذجاً) وتابعت فكرة أن المذكّر هو الأصل, وصورة المرأة في فكر إبن الأنباري, وفي العديد من نصوصه, وفي الفصل الثالث تابعت (الجنسوية في أدب الأطفال) حيث وجدت أن هذا الأدب يفيض بالنماذج وأساليب التعبير والصور والشرقيات والأفكار والقيم المفرطة في جنسويتها, وبالمقابل قدًمت الكاتبة لنماذج من أدب غير جنسوي للطفل رغم ندرتها, وفي الفصل الرابع راحت الكاتبة تقدِّم أمثلة ونماذج للتحدي والتغيير في اللغة, منها مقترحات لتطوير وثائق الدولة والمنظمات - المؤسسات, وتجربتها في معهد التربية (منظمة الأونروا) معززة بأمثلة في التغيير اللغوي عملياً, ومظاهر ذكورية في اللغة والنحو الى جانب مظاهر أنثوية (غير جنسوية) في اللغة والنحو.
وتأكيداً لواقعية البحث ومصادره الحياتية, قدّمت الكاتبة في الفصل الخامس سرداً بألفاظ وعبارات وتراكيب جنسوية وقدّمت بدائلها أيضاً, وفي مجالات الصفات الجسدية, والنفسية - الوجدانية وفي المجال الإجتماعي, المِهَن, الوضع الإجتماعي, وفي عموم التأنيث والتذكير.
وفي خاتمة الكتاب كانت هناك عدة ملاحق, للتعرف إستبياناً على الجنسوية في أدب الأطفال, وأوردت في بعضها قائمة بوظائف ومِهَن تقليدية للجنسين في الوطن العربي ودلالاتها, وقائمة بالسِمات التقليدية النمطية للأنوثة والرجولة من منظور عربي شائع, وفي ملحق خاص بالألعاب أوضحت الرسوم, ملامح التمييز بين الجنسين والذي يبدأ مع الطفولة مثل: فتاة تلعب بدمية وفتى يلعب بمكعبات الى جانبها وفتى يجذف وفتاة تتأمل حولها, وفتاة تسير على قدميها وفتى يمتطي دراجة, كما ذهبت الرسوم الى تأكيد التمييز حتى في الأعمال المنزلية: الأب يشاهد كرة القدم على التلفزيون في حين تمسح الأم أرض الغرفة.
كتاب زليخة أبو ريشة "اللغة الغائبة" لعله الأول من نوعه عربياً, وقد سبقته جهود قيِّمة في مجال نقد الكتب المدرسية وأدب الطفل من جهة تضمنها مفاهيم ذكورية وصوراً نمطية لكل من المرأة والرجل, وهذه الجهود تنوه عنها الكاتبة بقولها: "وهي الجهود التي فتحت عيني على حقيقة التميز الذكوري الصارخ في ثقافتنا الماضية والمعاصرة, مما دفعني الى القيام بدراسات تتناول الجنسوية في أدب الطفل والإنصراف الى إعداد أبحاث شتى في صورة المرأة في الأدب القديم والحديث, آخرها بحث سأتقدم به لنيل درجة الدكتوراه من جامعة إكستر - بريطانيا عن (صورة المرأة في أدب الأطفال العربي المعاصر) ولا بد أن أنوه بالجهود الأخيرة المتميزة للناقد الدكتور عبد الله الغذامي في مقالاته في جريدة (الحياة) اللندنية عن المرأة واللغة".
الكتاب صمم غلافه الفنان والقاص العراقي "فاضل جواد", ووقع في 145 صفحة من القطع المتوسط.