زمان يا زمان!!

2016-09-07
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/42328e98-6359-42f9-b9ff-129213cdee9b.jpeg
(1)
هذه صفحات مطوية عن تاسيس الخلايا الأولى للحزب الشيوعي العراقي  في النجف، والتي ترددت كثيراً في أن اكتب عن دور الوالد جواد كاظم شبيل ورفاقه، وسبب ترددي هو كيف يتهيأ لي أن اكتب عن ذكريات لم أعشها وأنما جاءتني اصداؤها مما سمعت عن والدي ومن رفيقه وصديقه الحميم علي محمد الشبيبي وما قرأته من نثار من أخبار في بعض الكتب ولا سيّما مذكرات المربي علي الشبيبي والتي نشرها نجله الأستاذ محمد الشبيبي في سلسلة من مقالات  في مواقع عديدة حملتني على التراسل معه وتبادل وجهات النظر لأجل طبعها في كتاب.. 
وحين طلب منّي صورة لوالدي، ولم يكن يومها لدي ما يُسعفني لأسعفه؛ وذلك أن مذكرات المربي المناضل علي الشبيبي قد احتوت فصلا هاما عن والدي وذكريات النضال واشراكه في مخزن الطريق ذي الدخل المردود الجيد الذي امتلكه الوالد حين فصل لاسباب سياسية وخطّ لوحته شاب سيُشتهر باسم " سلام عادل"؛ وكذلك الرسائل المتبادلة بينهما التي احتواها الكتاب وكنت أقرؤها بشغف ...
وحيث كنت أشدُّ الرحال مسافراً لأقصى الشرق وردتني من شقيقتي  صورٌ للوالد والوالدة، وصور أخرى للوالد شاباً، فتكونت لديّ حصيلة من صور..أثرت بي أيما تأثير عن والدي الذي رحل قبل أكثر من سبع عشرة سنة، فحفزتني أن أكتب عنه في مدونتي فتعرضت الى هجمة ضالّة أغلقت بسببها حسابي، قبل أقل من عام وأعدتها قبل ثلاثة اشهر، لأنشر فيها فصولاً من مسلسل الذكريات، اخترت منها بعض الفصول للنشر.!
وهكذا عقدت العزم أن أكتب عنه قليلاً  كتابة تلميذ عن معلمه، وكذلك عن أيام بعيدة مضت علّ في ذكر أحداثها فائدة ترتجى خاصة للأجيال الجديدة، هذا ما أرجوه في أن تكون الكتابة موضوعية ودافعي أيضاً هو تلبية لتلاميذه ومعارفه الذين طالما يسألوني عنه، وقد قال شيخ المعرة::
وقبيح بنا وإن قدُم العهدُ – هوانُ الآباءِ والأجداد
***
هو من أوائل خريجي دار المعلمين الابتدائية، تخرج 39-1940، وكان متفوقاً في منهج دراسي صعب وكان الأساتذة من عيار طه الراوي والدكتور عزالدين آل ياسين والمقرىء الشيخ محمود عبد الوهاب، والموسيقار سامي الشوّة، واللغوي أنيس فريحة... ونخبة من أساتذة أنكليز.. وعندما كنت أنظر لكتب المنهج من مجلدات مختارة للأدب الأنكليزي كنت أصاب بالذهول لأن النصوص  كانت بالإنكليزية الأصلية old english   لأساطين الشعر الإنكليزي ومنهم شكسبير وشعراء البحيرة(*)..ولأجل هذا كان لفظه الانكليزي سليماً حين التقيته في براغ عام 1981 رغم نسيانه الكثير! وحيث كان التنافس بينه وبين اللغوي إبراهيم السامرائي زميله وصديقه عرض عليه الدكتور عز الدين آل ياسين أن يكمل دراسته فشرح له أنه نشأ يتيماً وأن أمه قد تعبت لأجل أن يكمل درسه فاختصر المسير ليخفف عنها فقال أستاذه: كن مع أمك الرؤوم!
بدأ يتفتح وعيه السياسي منذ الصغر وعرف الظلم وكيف تؤكل أموال اليتيم .. وفي دار المعلمين تبلور انحيازه لليسار ومع الحرب انتصر للسوفييت ضد الفاشيه وهكذا دخل الحزب الشيوعي مناضلا لاتلين له قناة مع رفاقه: علي محمد الشبيبي وحسين محمد الشبيبي وإسماعيل الجواهري ومرتضى فرج الله وحميد الحكاك وشاكر كيوان وأحمد رضا السوداني وغيرهم وهم الشيوعيون الأوائل في النجف ... حين عُيّن مديراً للمدرسة الحيدرية في البراق من النجف بعد تخرجه مباشرة.. وواصل رحلة النضال.. وهكذا أصبح "كاطع" مسؤولاً عن الكوفة وعضواً في محلية النجف .
!ولدوا وعاشوا ثم ماتوا؛ بهذه الكلمات الثلاث تعاقبت أجيال، عاشت عيشاً " أخفُّ منه الحِمامُ" كما قال الشاعر القديم.. وعوامل الهلاك المحيقة بالإنسان كثيرة، فمن يسلم من الحروب قد لايسلم من الكوارث الطبيعية من زلازل وسيول وحرائق ومن يسلم من هذه قد لايسلم من أخرى أوبئة وأمراض متوطنة ووو.. ولذا لا يكترث الناس لمولود عاش أو مات مات... وفي العراق لسنوات قليلة مضت لا يعلم الناس تواريخ مواليدهم ولا وفياتهم! وإنما تحفظها الذاكرة بقرينة حدث مهم .. وينفرد العراق دون باقي الدول العربية بأن الناس إن عرفوا سنة مواليدهم فهم لا يعرفون الشهر واليوم لذا درجت عادة عند التسجيل الرسمي يعمد الموظف باختيار اليوم الأول من الشهر السابع(1/7....) لماذا؟ وفق المنطق الرياضي سيكون الأقرب بخطأ لا يتجاوز الأشهر الستة زيادة أونقيصة باعتبار أن التاريخ هذا يتوسط السنة!
فقد ولد ولا يُعرف تاريخ ولادته على وجه الدقّة وإنما باعتبار يقترب من الدقة وبقرين حدث معروف وهو دكة عاكف والدكة بالكاف الفارسية تعني الواقعة incident التي هي في حقيقتها حادثتان الأولى حين ألحق أهالي الحلة الكرامُ والعشائرُ المصاقبة لها هزيمةً نكراءَ بالقائد العسكري العثماني المتجبر، ليحموا أولادهم كي لا يُقَدَّموا وَقوداً للحرب وكانت في الأيام الأخيرة من آب 1915، والتي جعلت القائد العثماني يحمل حقداً دفينا وموجدة لئيمة لينتقم بخديعة جبانة منهم في عام 1916 وتحديداً منذ 16تشرين الثاني/ نوفمبر الى 19 منه ثم لينسحب أمام الفصائل البريطانية يجر أذيال الخيبة الى الفرات الأعلى! وهذه الثانية هي المقصودة بدكة عاكف(**) إذا ذكرت دون تحديد التاريخ.
ما يهمنا من هذا التاريخ هو أن المولود الذي سُميّ "جواد" وهي تسمية متوافقة مع اسم والده كاظم وفق أصول ُكنى الآباء العراقية، وبذلك ستكون الولادة بين 20 أو 21 من شهر ت2 عام 1916 باعتبار وصول خبر الحدث يحتاج ليوم أو يومين.
كانت الكوفة يومذاك مزدهرة نوعا ما بسبب كونها على الفرات وذات جو معتدل بسبب المياه التي تسقي البساتين، وبسبب الحركة التجارية التي تلعب بها المراكب والسفائن التي تمخر عباب الفرات شمالاً وجنوباً وتنقل الحبوب لا سيما الشلب والقمح والخضر والتمور والفواكه، بين الشامية وأبي صخير والكوفة والكفل ثم الحلة قبل أن يشح فيها الماء في شطها عام 1885 لينتقل الى شق الهندية ولم ينقذ الحلة إلا سدُّ الهندية الذي شُيِّد عام1913! كانت المراكب تنقل الزائرين الى كربلاء والنجف..للأولى عبر المسيب وللثانية عبر الكوفة!
لهذا فقد اشتهرت الكوفة بخاناتها ومخازنها وسوقها التجاري وكان الموسرون من أهل النجف يتخذونها مصيفاً للهرب من حرِّ النجف الصحراوي! ناهيك عن العتبات التاريخية المقدسة مثل مسجد الكوفة الذي ضم مقامات الشهداء مسلم بن عقيل رسول الحسين وحبيب بن مظاهر وعمار بن ياسر وكذلك مسجد السهلة ومنزل الإمام علي، ومقام ميثم التمّار ..
وتاريخيا عُرفتِ الكوفة بدياراتها التي بقيت آثارها حتى اليوم محاذية للفرات، ولاسيما دير هند بنت النعمان بن المنذر التي أدركتِ الإسلام ولم تُسلِم، كما اشتهرت حتى العصر العباسي المتأخر بمعاصر العنب فالعنب الكوفي مشهور "عنب شدة" صغير الحبة شديد الحلاوة ممتلىءٌ ماء!(***). كانت البيئة نقية نظيفة وسمعت أكثر من مرة بعض المسنين وهم يصفون الربيع بأن الأرض بين الكوفة والنجف كانت تتحول الى بساط سندسي بالوان شقائق النعمان والاقاحي والبنفسج والشيح فيمتلىء الجو بضوْع عبق!
ما كاد يتم الرابعة حتى وفدت الهيضة ( أو الكوليرا ) وتسميها العامة "أبو زوعة" فحصدت أرواًحاً كثيرة ومنهم والده الشهم الخلوق الذي رحل مأسوفاً عليه، ولا يكاد الأبن يتذكر منه شيئاً ذا بال، وتبدأ الأم معاناة الترمل والأبن معاناة اليتم، وقد رفضت الأم الزواج من أي متقدم لها وبقيت حانية على ابنها لتربيه أحسن تربية وليحظى برعاية أخوال طيبين.  
واستطاع أن يجتاز الأبتدائية في الكوفة بتفوق والمتوسطة في النجف متوسطة الخورنق، وقد كان محباً للعربية والإنكليزية ومتفوقاً بالرياضيات، وأكمل المتوسطة بتفوق ليقبل في دار المعلمين الابتدائية.
***
هي ذي بغداد التي وصلها كطائر فرّ من قفص، مدينة واسعة رحبة، جميلة تتيح للوافد كثيرا من الحرية؛ الأغاني تنبعث من أجهزة الراديو في المقاهي والمطاعم، هنا عالم الاضواء، العام هو 1937، والإذاعة والراديو لم يكمل بعد عامه الأول، ولا بأس إن انتهى وقت البث فسيُعوَّض بأجهزة الغرامافون حيث تنساب الى المسامع أغاني عاطفية عراقية وعربية وأجنبية أحيانا!
وهنا تردَدَ على خال له وبعض من يمت له بصلة من الأم . الحياة هنا أجمل من الكوفة الصغيرة وأوسع من النجف العابسة! هنا لا يشعر المرء مراقبا من الأقارب ومحاسبأ عن أية نأمة، هنا السينما يدخلها أول مرّة وفلم الوردة البيضاء لعبد الوهاب ونجاة علي، ما شحن عاطفة الشاب بمَسحة رومانسية، جعلته يتطلع لفتاة الأحلام !! هنا الحياة ليست دين فحسب، إنما الحياة دنيا ودين؛ "ولا تنس نصيبك من الدنيا"!
هذه دار المعلمين الابتدائية؛ بناية باذخة، وقسم ملحق لها لمبيت الطلاًب البناية جميلة وفي أجمل بقعة في بغداد ، ضاحية الأعظمية قرب المقبرة الملكية! الطلاب من مختلف أنحاء العراق من الجنوب والوسط والشمال الكردي والتركماني، فيهم المسلمون الغالبون عدداً والمسيحيون واليهود والصابئون الأقل عددا ووو.. رغم هذا التنوع فالكل فرِحٌ مستبشر، وسرعان ما غدوا عائلة واحدة لا للطائفية فيها مكان ولا للعنصرية فيها موضع! 
والأساتذة من عيار ثقيل، أساتذة جادّون يدرسّون مناهج صعبة، فيهم من تحصل على شهادات عالية وأعلاها هي الدكتوراه، إذن ليس الدكتور حصرا على الطب بل يكون في اللغة والقانون والكيمياء وو.. وإذا لم يكونوا كذلك يكونون أساتذة مرموقين وشيوخٌ مثقلين بالعلم؛ والإنكليزية لا يدرِّسها إلا بنو جلدتها لطلاب من غير بني جلدتها!
في القسم الداخلي يتوزع الطلاب في قاعات رتبت فيها الاسرة ترتيبا وأفرشة نظيفة لا بقع فيها! وأغذية ممتازة ناهيك عن الأجبان وعلب الأطعمة والصابون وفرش الاسنان ومعاجينها... عندما دخل المرحاض أول مرة وجد جهازاً يبعث على الريبة أعلاه خزان خزفي أبيض كرأس أدميّ منتفخ  تتدلى من جانبه سلسلة كأنه بها تستدعي من يسحبها، ترى ماذا لوسحبها الشاب نحو الأسفل؟! وإذا بشلال من الماء مصحوب بصوت مخيف حسِبه سيلا غارقاً، فجمدت الدماء في عروقه وامصيبتاه! ولكن بعد هنيهة يفتر الشلال ويستكين الصوت وبدا الخزان يمتلأ من جديد وامتلأت نفس الشاب بسكينة فقد أدرك اللعبة وخرج من المرحاض مرتاح الضمير!!!
---------
(*) شعراء البحيرة مجموعة من الشعراء المتمردين الإنكليز عاشوا في منطقة البحيرات في مطلع القرن السابع عشر، وأبرزهم وردزورث، وكولريدج، وصامويل تايلر وروبرت ساوذي..
(**)للاستزادة تراجع المصادر: تاريخ الحلة للشيخ يوسف كركوش؛ لمحات الوردي ج4؛ الشيعة في العراق حسن العلوي؛ فصول من تاريخ العراق الحديث لمس بيل، ترجمة جعفر الخياط؛ ومقالة شاملة للأستاذ أحمد الناجي، دكة عاكف بثلاث حلقات على الحوار المتمدن، تغني عن المصادر السابقة.
(***) للاستزادة يراجع كتاب "الديارات" للشابشتي تحقيق كوركيس عوّاد
خالد جواد شبيل
25شباط/فبراير 2016 رام كم هنغ

للموضوع صلة

 



 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved