تنفرد النجف بخصائص ميزتها عن بقية المدن العراقية، وحتى عن المدن المصاقبة لها مثل كربلاء وخاصة من الناحية الدينية، فالنجف التي تقع على حافة الصحراء، والتي تضم مقام الإمام علي (ع) مدينة عربية وأهلها في غالبهم من عشائر عربية المحتد، ومن يأتيها من غير العرب سرعان ما يذوب في مجتمعها النجفي وهي مع ذلك مدينة أممية، تمشي في سوقها فترى مختلف الأزياء والسحنات وتسمع مختلف الألسن من الزائرين وعوائلهم الوافدين من الخليج ومن إيران وتركيا وبلاد الافغان وبلاد الهند والسند والتبت ..
وهي مدينة المعاهد الدينية، وهي مدينة المكتبات العامة والخاصة وهي مدينة دور النشر والمطابع، حين يحظى الكتاب بمكانة عالية، وطالما تُفضَّل مكتابات البيوت على الأثاث!
وهي منفتحة على الثقافات الوافدة من الكتب والمجلات المصرية واللبنانية، ولذلك عرف شيوخ ومثقفو النجف منذ بداية القرن الماضي يعقوب صروف وشبلي شميل وجرجي زيدان ومحمد عبدة وجمال الدين الأفغاني - الذى كان أحد طلبتها وزامل الشاعر محمد سعيد الحبوبي- والكواكبي و المنفلوطي وجبران خليل جبران وسلامة موسى وطه حسين والعقاد والمازني وعلي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وأحمد أمين، كما تلقفوا شعر المهجر بنجومه أبو ماضي ورشيد سليم الخوري وألياس أبو شبكة وميخائيل نعيمة... ولا أغالي إذا قلت انهم كانوا على صلة بالأدباء العالميين مثل تولستوي حيث راسله بعض أدباء النجف..لا أود الاستغراق ، ولكنني أود أن أدلل على كلامي على انفتاحها بأن شيخين شاعرين قد رثيا الباخرة الغرقى "تايتنك" عام 1912 كأصدق ما يكون الرثاء وبأنبل ما تكون المشاعر الإنسانية، وهما الشاعران الشابان محمد رضا الشبيبي و علي الشرقي..
والنجف التي ثارت على الرجل المريض وعلى الوافد المستعمر الإنكليزي قد قدمت شهداء بسخاء، والنجف أول من انتصر لفلسطين حيث تبارى شعراء الرابطة بأجمل القصائد الحماسية انتصاراً لفلسطين منبهين على مخاطر الحركة الصهيونية! والنجف قدمت أول شهيد في التظاهرات الشهيرة المتضامنة مع مصر التي تعرضت للعدوان الثلاثي عام 1956.
فلا غرابة إذن أن ينمو فيها الفكر الماركسي الثوري..ولا غرو في أن يستقطب المثقفين ورجال دين وطلبة علم وكادحين.. ومع الحرب العالمية الثانية انقسم الناس بين مؤيد للاتحاد السوفيتي وبين مؤيد لألمانيا وزعيمها هتلر، ولكل فريق ذرائعه، ولكن الحال سيتغير وسترجح كفة المؤيدين للطرف الأول!
في النصف الاول من عام 1941 كتب الشاب حسين الشبيبي المعلم في مدرسة غازي مجموعة مقالات متميزة بانحيازها الطبقي لجماهير الشعب وبروح وطنية في مجلة المجلة التي كان يصدرها القاص ذنون أيوب، وفي آب من نفس العام استدعي لزيارة المجلة فرجع مفعما بالحماس والنشاط بعد ان التقى فهد وأيوب، ويروي المربي علي محمد الشبيبي أخوه الأكبر في مذكراته أن حسين أسرّ ه بالدعوة الى مبادىء الشيوعية بين الناس بتروٍّ لجذبهم للحزب وهكذا بدأ تأسيس أولى الخلايا في ذلك العام واستقطبت معلمين من جملتهم، إسماعيل الجواهري وعلي الشبيبي ومرتضى فرج الله وعبد الأمير السكافي، وجواد كاظم شبيل وحميد الحكاك وشاكر كيوان وأحمد رضا السوداني (أبو عاصم) وآخرين..وجذبت إليها مجموعة من طلبة العلم اللبنانيين التقدميين وبالأخص الكتّاب من قبيل حسين مروة ومحمد شرارة ومحمد حسن الصوري وغيرهم واستطاعت أن تتغلغل في العمال والكسبة وبعض المحامين والأطباء ثم نشط جواد شبيل ليكون بعض الخلايا في الكوفة وربطها بتنظيم النجف.. واستطاعت منظمة النجف أن تكسب كادحي الأرياف في أبو صخير والشامية..
اتسم النشاط بتوعية الناس وكسب الأصدقاء، وكان النضال مركباً في فضح الفساد والرشاوى والاغتناء باحتكار المواد الغذائية وبيع البطاقات التموينية الزائفة، وتحشيد الجماهير في مظاهرات للمطالبة بحقوقها المعيشية وتوفير قوتها وحقها في الخيز ( لا الخبز الاسود) وتوفي الحليب والدواء ومكافحة السوق السوداء، ومن جهة أخرى كان النضال ضد الفاشية والنازية وفضحها والانتصار للاتحاد السوفيتي، كما كان النضال من اجل قضية فلسطين مهمة يومية وكانت عصبة مكافحة الصهيونية من منظمات الحزب النشطة. أما النضال ضد المعاهدات مع بريطانيا وخاصة معاهدة 1930 والمطالبة بإلغائها وتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي وكسر التبعية للاستعمار كان هذا النضال دائبا لا يفتر..
ومنذ عام 1944 بدأ نشاط الحزب يتسع وبدأت منظمته بالامتداد. وأما أصحاب الأقلام فقد نشروا وفضحوا بمقالات في الصحف بؤر الفساد الحكومي والمتاجرة الاحتكارية للسلع والمواد الغذائية.. ما جعل الشيوعيين يحظون باحترام الشعب، وزاد توزيع صحافة الحزب الشرارة ومن ثم القاعدة مع ورود الصحافة التقدمية مثل الرابطة لعبد الفتاح إبراهيم ورسائل البعث (لا علاقة لها بحزب البعث الذي لم يكن له وجود وقتئذ) لعزيز شريف ورسائل حزب التحرر الوطني لرئيسه حسين الشبيبي؛ وصحافة الأحزاب الشيوعية العربية كالطريق اللبنانية واتحاد الشعب السورية والغد الفلسطينية والفجر الجديد المصرية وأم درمان السودانية...
وكان المعلمون الشيوعيون يعطون تلاميذهم دروسا في الوطنية وقصائد تمجد الحرية والإنسان، مما يثير حفيظة المدراء والمفتشين، فقد اصطدم علي الشبيبي مع المفتش بسبب قصيدة "الغني والفقير" لأليا أبو ماضي، و جواد شبيل هو الآخر اصطدم مع المفتش بسبب قصيدة بشارة الخوري: " ياهند قد ألف الخميلة بلبل –يشدو فتصطفق القلوب وتطرَبُ" ..
بدأ الصراع يزداد مع السلطة وعملائها ومخبريها ومن هم بعض زملائهم المعلمين الذين وشوا للسلطة عن نشاط الشيوعيين؛ وما زلت أذكر كتاب عقوبة رسمية وجهت للوالد بسبب تحريضه المعلمات والمعلمين للمشاركة بالمظاهرات ضد حكومة أرشد العمري!
وفي 12/10 1946 وفي ظل حكومة أرشد العمري الذي يعد أتفه رجل دولة في العهد الملكي تم فصل تسعة معلمين اثنان منهم بتهمة النازية والباقي من الشيوعيين والتهمة هي تدخلهم بأمور لا تعنيهم!! ومنهم المعلمون علي الشبيبي ومرتضى فرج الله وجواد كاظم شبيل وأحمد السوداني وحميد الحكاك وشاكر كيوان..
والحقيقة كان عام 1946 منذ بدايته نذير، شؤم حيث بدأت الهجمة على القوى الوطنية وعلى الحزب الشيوعي الذي يحتل القلب منها! وبهذا تكشَّف زيف وعود وعهود نوري السعيد التي وقع في أحابيلها الحزب الوطني الديمقراطي وانضم للوزارة! كان السعيد المعروف بدهائه يعرف كيف يختار رؤساء الوزراء؛ فكلما أراد أن يمرر أجندة خطيرة يكلف رئيس وزراء لتنفيذ خططه، وكانت وزارة أرشد العمري خير مثال لتحجيم دور الحزب الشيوعي بغية القضاء عليه.
وإزاء هذه المخاطر وحملات الاعتقالات والفصل التعسفي التي طالت الشيوعيين وحزب التحرر واعقال قائده الرفيق حسين الشبيبي، كان لا بد للشيوعيين من أخذ الحذر، وإخفاء الوثائق والممنوعات من الكتب! وهذا ما قررته لجنة مدينة النجف.
في حي "الجديدة" الحديث يوم ذلك، كان الوالد جواد شبيل يسكن في بيت قريب من مدرسة الوثبة حالياً، تعود ملكيته يومئذ لآل عريعر، فيه فسحة فارغة (بيتونة) وكانت مكاناً ملائماً لوضع الوثائق والجرائد والكتب العائدة له وللحزب، وهكذا أتت صناديق و "علاليق" مغطاة و بالخصروات والتمر لتفرغ حمولتها من "الأدبيات" في "البيتونة" وكُلف الرفيق البنّاء شاكر شريف ببناء جدار عليها، وما زالت الكتب مدفونة هناك منذ ما يقرب من سبعين سنة، ككنز أدبي يحكي تاريخ تلك الحقبة من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في مدينة النجف.
لم يكن أمام الوالد وقد فقد وظيفته من سبيل لإعالة عائلة لا تني تتسع إلا البحث عن عمل جديد، ولكونه لا يعرف حرفة غير التعليم قرر أن يفتح محلاً تجارياً في "باب الولاية" وفي موقع هام يجاور خان الهنود (لم يعد له وجود) من جانبه المطل على شارع الكوفة القديم، حيث كان كَراج سيارات بغداد والحلة والفرات الأوسط عموماً خطّ قطعة ذلك المحل " مخزن الطريق" شاب حيوي اسمه حسين الرضي سيعرف لاحقا باسم "سلام عادل"؛ عندما همّ الوالد أن ينقده لقاء عمله امتنع ببشاشة مكتفيا بعلبة سيكاير افرنجية!
ازدهر المحل تجارياً وسياسياً، فقد كان ممتلئاً بالبضائع وكان أنيقاً يظهر في مقدمته ميزان بركلي حيث يكون الوزن بالغرامات، للأوزان الخفيفة مثل الشاي..ويقف في وسطه البائع، وفي جانب منه تنكات البنزين وعلب زيت المحرك!
أما كيف ازدهر سياسياً فقد غدا محطة لاستقبال بريد الحزب القادم من بغداد والصحف حيث يأتي الشاب حسين الرضي على دراجة ليستلمة ويتلاشى بسرعة ، وكذلك يأتي ليودع رُزَماً أخرى!
أما الأستاذ علي الشبيبي فقد فتح محلاً في سوق العمارة، وكان المحل كما يصفه الشبيبي في مذكراته "كان حانوتي بسيطاً في شكله، ومحتوياته مواد معيشية، رز، ماش، حمص ، سمن وأشياء من هذا القبيل، مع سكر وشاي، وسكريات للأطفال، وبعض المواد الطبية، كحبوب الأسبرين، وما ينفع اللوزتين، وعشبيات للنزلة الصدرية. كما إن بعض الصيادلة زودوني بزيت السمك بدون احتساب ربح له على سعرها. لكن الذي فت في عضدي، وأصاب حانوتي بالكساح، السمن، والسكر والشاي. لم أستطع أن أجهز الحانوت بغير نوع واحد من السمن، بينما لدى سائر البقالين عدة أنواع".
الأمر الذي جعل رفيقه جواد شبيل يدعوه ليصبح شريكا له بمحلة المنتعش " وحين تدهور حانوتي، تفضل صديقي "جواد كاظم شبيل" وعرض علي أن أتحول شريكاً له في حانوته، وتقدم صديق آخر فأقرضني ما يساوي ما قُدرَ من محتوى حانوت صديقي. في هذا الحانوت المشترك، الذي يساعد موقعه على بيع وصرف علب السجاير بنسبة عالية لمجاورته إلى كراجات سيارات الكوفة وأبي صخير والديوانية والناصرية"
كان المحل يسجل في أيام الزيارة والمناسبات الدينية دخلاً يوميا هائلاً يصل الي مائة دينار! ولكن الدخل تراجع حين احتكر وكيل البنزين وأخذ يبيع البنزين بالمفرد لينافس باعة المفرد.
وكان صراع الوالد مع نفسه هل يرجع للوظيفة أم يستمر بعمله التجاري الناجح؟ ! في خربف عام 1978، ومع اشتداد هجمة البعث على الشيوعيين، مهددة "التحالف الجبهوي" المهلهل، نشرت طريق الشعب وثيقة تاريخية مهمة لمطالبة المعلمين المفصولين في النجف بالرجوع الى وظيفتهم التي فصلوا منها من دون وجه حق إبان حكومة أرشد العمري؛ وكان الطلب بخط المعلم جواد شبيل وكان رقمه الأول في القائمة مع مجموعة من رفاقه أحمد رضا السوداني ومرتضى فرج الله وعلى الشبيبي وحميد الحكاك...
هكذا أرجع المعلم جواد شبيل ورفاقه وتاخر تعيين رفيقه علي الشبيبي الذي بقي يدير المحل التجاري..
لقد أرجع الوالد الى مكان ناءِ هو الجبايش..
خالد جواد شبيل
للموضوع صلة