أول الكلام :
زيارة البابا فرنسيس إلى العراق تكتسي أهمية كبرى لا لكونه الحبر الأعظم في الكنيسة الكاثوليكية وحسب، بل لكونه شخصية مميزة، فهو الأول من خارج أوربا منذ أن تولاها البابا السوري غريغوري الثالث (731- 741)، ضمن تسلسل 286، وقد تم اختياره في أقصر مجمع انتخابي كنسيّ سام ليرسم في 19 آذار 2013. وهو أول بابا من النصف الثاني من كوكبنا (العالم الجديد) وتحديداً من الأرجنتين، وهو الأجرأ في التعبير عن آرائه الجريئة، وهو الأكثر نزوعاً إنسانياً وأكثرهم حباً للفقراء أحباب السيد المسيح وأكثرهم إدانة للحرب بما فيها حرب الفوكلاند بين بريطانيا وبلده الأرجنتين، هو إذن داعية سلام قل نظيره، وهو أول من آمن وأطلقها بجرأة في حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته ودعا لأن تكون القدس قدسية دولية ! وهو داعية للتآخي بين الأديان والطوائف ونبذ البغضاء والروح العدوانية بين بني البشر! ووقف موقفاً مرنا مع الجنس بالتراضي بما في ذلك المثلي ووقف ضد تبني المثليين للأطفال بدافع إنساني، ودعا لحرية التعبير للمؤمنين والملحدين وأقر بحقهم في ممارسة حياتهم دون عقوبة أو فتوى ضدهم...الخ.
***
وليس أخيراً فحين انتخب الأسقف خورخي ماريو بيرجوليو - المولود في 1936 – في بيونس أيرس حبراً أعظم لأساقفة الكنيسة الكاثوليكية ورفض أن يسكن القصر المخصص لمنصبة بل بقي في شقته الصغيرة، يذهب إمقر عمله وحده دون موكب مستخدما وسائل النقل العامة، وليس آخراً حين رُسم الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية في 19 مارس 2013 أطل من الشرفة بملابس بيضاء لا بالملابس الرسمية التقليدية الحمراء المخصصة للحبر الأعظم لبابا الفاتيكان..
أما عن تحصيله فهو بكالوريوس كيمياء ومارسها كمحلل في شبابه، ثم درس الآداب وتحصل على دكتوراه فلسفة في اللاهوت، وهو يجيد سبع لغات، منها الإسبانية واللاتينية والإيطالية والفرنسية والأوكرانية و البرتغالية.. ناهيك عن الانكليزية..
واعتقد الكثيرون أن زيارته للعراق تكريم لأول بلد عربي وعللوا لأن العراق مسقط رأس إبراهيم الخليل.. ليس هناك ما يثبت أركيولوجيا هذا الزعم ففي العراق آثار وأوابد تاريخية تشير إلى حضارات سادت ثم بادت والعراق مهد الحضارات ..ولله در الذي قال :
تلك آثارنا تدل علينا – فانظروا بعدنا إلى الآثارِ
فعلم الآثار أجاب بتأكيد ودحض كثيراً من المزاعم بما فيها عبور موسى وحكايته مع فرعون مصر (؟).. يُراجع بهذا الصدد بحوث الدكتور خزعل الماجدي.. بل وحتى المؤرخون الإسرائيليون المنصفون دحضوا هذه المزاعم دحوضا قاطعا !
والأمر الثاني أن الحبر الأعظم فرانسيس الأول زار الأردن ثم القدس عام 2014 ولم يمر بإسرائيل أسوق هذا الكلام للمطبعين ودعاة التطبيع بعد أقل من سنة على ترسيمه (كما ذكرت في البداية)، وزار مصر 2017 واستقبله الرئيس السيسي وشيخ الأزهر أحمد الطيب كأحسن استقبال.. وزار في سابقة الخليج العربي في شباط 2020 وتحديداً الإمارات ولم ندر أي الآثار الحضارية زارها هناك ربما مفخرتها البرج، وفي آذار زار المغرب .. ولأجل هذه التوجهات الجريئة وغيرها أعتقد الكثيرون أنه من جماعة القسسة المسماة "لاهوت التحرير"، وإنما لنزوعه الإنساني الذي يلتقي مع اليسار..
ثم زيارته الحالية للعراق، إذ زار بغداد يوم الجمعة الخامس من آذار باستقبال جيد يليق بمقامه وبدت الشوارع مكسوة بالتبليط الجديد، حيث زار كنيسة النجاة ثم إلى النجف زار سماحة السيد علي السستاني، (ولم يستقبله سماحته في الشارع ) بل نقلت وسائل الإعلام صور البابا البشوش وسماحة السيد في غرفة متواضعة، ولم ينقل مادار من حديث سوى أن الحبر الأعظم أكد على التسامح والتآخي وحق الإنسان أن يكون حراً في عبادته ودينه.. ثم زار الآثار في ذي قار، لينتقل الى أربيل ومنها الموصل.. وفي جميع الحالات كانت التغطية سيئة والترجمة تنقصها اللباقة والحذاقة فالمترجم يقرأ من ورقة أي لم تكن ترجمة فورية وبهذا كانت الترجمة مُعدّة مسبقاً لتصبح ترجمة انتقائية وفق مقتضى الحال !
لم يزر الحبر الأعظم مناطق البؤس من العاصمة ولا في مناطق العراق الأخرى.. ولم تتح له زيارة المدارس البائسة ولا الفقراء العائشين على ما ينبشون من مكبات الأزبال، ولم يتعرَّف على دخل المسحوقين في بلد النفط ولم يتعرّف على نسبة الفقر وما دون خط الفقر..للأسف !
كنت أتمنى أن يسمع غناء مجموعة من الأطفال ينشدون خلف منشد يرحبون ويحكون معاناتهم للبابا من فقر وبؤس وخراب.. حظي هذا الشريط بمشاهدات مئات الألوف وانتشر بسرعة لبلاغته الشعبية وتوافق اللحن مع الكلمات وبعفوية لم يخرجها مخرج بل صُورت بهاتف موبايل..
أستميحك العذر في أنني أطلت التعريف بك وأنت غني عن التعريف، والأمر ياسيدي أن يتعرف عليك دعاة الدين من إسلامنا السياسي لعلهم يعرفون حجمهم وسلوكهم وفسادهم لعلهم ... يخجلون !
شكراً لك سيدنا سماحة البابا فرنسيس، وأهلا بك بعد خمسة أعوام لعلك ولعلنا نعثر على عراق غير مخطوف وغير مكبل !
https://www.facebook.com/Wed25/posts/191318499454851
السابع من آذار 2021