رحل عن عالمنا هذا العام الموسيقي الكبير "عبده داغر" عن عمر يناهز الخامسة والثمانين، ويعتبر عبده داغر من المبدعين الموسيقيين الذين يندر أن يجود الزمان بمثلهم .
تفتحت أعين داغر على المعهد الذي أنشأه والده لتعليم الموسيقي بجانب الورشة الخاصة بتصنيع الأعواد فعشق الموسيقى . وعلى الرغم من معارضة والده لهذا الحب والإصرار على تعلم الموسيقي، بدأ داغر تعليم نفسه بنفسه. ومن خلال أمسيات المنشدين والمطربين، بدأت براعة داغر في الظهور، ووجد في آلة الكمان ما كان يصبو إليه، وفي صوتها ترجمة لخياله الكبير. وبدأ رحلة الإبداع من خلال هذه الآلة ليبلغ بها مستويات متقدمة ولا سيما من خلال مقطوعات ألفها لها لم يسبقه إلى مثلها مؤلف موسيقي من قبل .
الموسيقى العربية وعبده داغر
كان لعبده داغر رأي خاص بالموسيقى العربية، وهو خروجها من مدرسة تلاوة القرآن الكريم، وأن مبدعي الموسيقي العربية أخذوا أسس واسرار المقامات من هؤلاء العمالقة الذين أبدعوا في المقامات الموسيقية الأساسية بفطرة من الله وبدون أي حساب لاسم المقام الأساسي أو المقام الذي سينتقلون إليه . وكان يرى أيضاً بأن الدارسين والباحثين هم من اخذوا هذه الإبداعات وأقاموا لها النظريات والتقاسيم التي يدرسها المختصون الآن .
وعلى الرغم من تأكيد داغر على قِدَمِ المقامات الموسيقية الأساسية، إلا أن الفضل في دخولها موسيقانا العربية يرجع لطريقة تجويد القرآن وتلاوته. ويرفض داغر لفظة "شرقية" التي تقترن في بعض الأحيان بكلمة الموسيقى، فهو يرى أن الموسيقى الشرقية تخص جنوب شرق آسيا.
الإبداع عند عبده داغر
عندما نستمع لموسيقي "عمّ" عبده داغر، نجد أننا أمام ناتج سمعي جديد وغريب وخاص بعيدا عما نسمعه من أعمال أخرى ونتساءل لماذا؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد وأن نرجع إلى بدايات داغر وطفولته في طنطا وكم الموالد وحلقات الذكر والابتهال والأفراح التي عايشها بل وعمل وعزف فيها مع هؤلاء الفنانين؛ وبالطبع فكل هذه الأشكال من الغناء كانت تمتاز بشيء واحد ألا وهو الارتجال وهو أحد أصعب أشكال الغناء أو العزف لأنه يقوم على خيال المبدع وإمكانياته المتفردة، وهو ما جعل عبده داغر يتمتع بمخزون كبير من الموسيقى والمقامات والأجناس المختلفة، إلى جانب استمراره طوال حياته في التدريب على آلة الكمان. ومن أهم ما يميز موسيقى عبده داغر أيضا ضبطه الكمان (تسوية الكمان) بطريقته الخاصة التي كان يراها من أفضل التسويات لإبراز الهوية المصرية في الموسيقى وهي أبعاد (خامسة، رابعة، رابعة)، ما يسهل الأمر على العازفين في عزف المقامات التي تحتوي على العديد من علامات الخفض "بيمول" (خفض الدرجات الموسيقية نصف درجة) والتنقل من مقام لآخر.
تفرد عبده داغر أيضا في براعة يده اليمنى وكان يعي جيداً أهميتها بالنسبة للعازف، وكان يُعِدّ لها تدريبات خاصة، أما عن اليد اليسرى فيقول المتخصصون عبر تاريخ عبده داغر: إن نغمة السيكاه (ثلاثة أرباع النغمة) عنده لا مثيل لها في التاريخ وهي خاصة به ولم يستطع أحد أن يعزفها مثله.
الصوفية عند عبده داغر
تمتاز موسيقى داغر بلمحة صوفية بديعة لا نستطيع الجزم هل كانت عن عمد أم أنها كانت فطرية وهبها الله له. وعن هذا يقول عازف الكمان الكبير محمد ظهير: إن هذه الملامح الصوفية جاءت من خلال تركيز عبده داغر على كل جملة موسيقية يقوم بتأليفها حتى تأخذ حقها الكامل ثم يبدأ من نهاية هذه الجملة بداية جملة أخرى وهكذا حتى تنتهي المقطوعة بدون وضع شكل محدد للإيقاع المصاحب لها ليأتي بعد ذلك عازف الإيقاع ويتسلل في تلك الجمل ليخرج الإيقاع الخاص بها.. ومن هنا تأتي أيضا صعوبة فهم أعمال عبده داغر للمستمع البسيط فموسيقاه تحتاج إلى متخصص أو إلى شخص معايش لعالم عبده داغر .