إن الوضع الذي يعيشه الإنسان اليوم من جراء تفشي هذا الوباء، أشبه ما يكون بوضع البابليين الذين تحدوا الآلهة ببناء برج عال ليطلعوا من خلاله على أسرار السماء، تحصينا لهم من التعدد والاختلاف . فاستحقوا بذلك لعنة الآلهة التي قضت بعزلهم و بتشتيتهم في الأرض وبلبلبلة لغتهم حتى لا يفهم أحدهم الآخر . فهل يقضي الإنسان المعاصر عقوبة جرم اقترفه في حق الطبيعة، أو بحق نفسه والآخرين ؟ لماذا عجز فجأة كل ما راكمه الإنسان من تقدم علمي وتكنولوجي في مواجهة فيروس غير مرئي، ولماذا امتلأت المستشفيات، وتعطل الإقتصاد، وتهاوت المؤشرات، ودب الخوف في الجميع . هل هو بمثابة تحد مضاد ؟ هل هو دعوة الإنسان إلى إدراك ضآلة حجمه وهشاشة نظمه ومحدودية عقله ؟
إن المتأمل في هذا الوضع بعمق، سيجد لا محالة أن هذا الفيروس الصغير قد بعث برسائل كثيرة للإنسان ولقنه دروسا ًمتعددة :
أولا درس المساواة :
لم يميز الوباء بين الرجل والمرأة، ولا بين الشاب والشيخ، ولا بين الغني والفقير، ولا بين الأبيض والأسود . لقد عطل كل التمييزات القائمة على الجنس واللون والوضع الاجتماعي . لذا فالمساواة بين كل الناس حقيقة لم يتمكن الإنسان من استيعابها، أو أنه تحاشى الإعتراف بها منذ قرون . ولم يشأ مواجهتها وجها لوجه . إلى أن جاء هذا الوباء ليرسخها في ذهنه على مضض . لقد عبّر البعض عن أنانيتهم بالقيام بسلوكات، مثل الإنفراد باقتناء مواد غذائية، ومعقمات وكمامات، دون اعتبار ما ترتب عن ذلك من حرمان الآخرين . كما صرح البعض الآخر بعنصريتهم، عندما فكروا في تجريب اللقاح ضد الوباء في أفريقيا . مالذي يجعل البعض أحق بالحياة من غيره ؟ هل لون البشرة مسوغ للتضحية بآلاف الأشخاص ؟ ففي ظل غياب وعي إنساني بضرورة الإقرار الفعلي بهذه المساواة، وأمام استمرار الفكر الإقصائي وتكريس دونية البعض وتزكية أفضلية البعض الآخر، قال الوباء إذن إن الناس سواسية بصرف النظر عن كل الإعتبارات التي تميزهم . لقد قضى هذا الوباء الصغير جدا في عالم كبير جدا ألا يستعلي البعض عن الآخر .
ثانيا درس حفظ الحياة :
ما إن نادت السلطات المختصة بمجموعة من التدابير الوقائية لموجهة الوباء، حتى هرع الناس إلى اقتناء المواد الأساسية وغير الأساسية، تحسبا للأسوأ، وحفاظا على حياتهم من الهلاك . لكن منطق أفضلية البعض عن البعض الآخر، والسلوكات الأنانية التي أبان عنها جل المتدافعين في الأسواق والمحلات، أظهر أن هؤلاء يريدون الحفاظ على حياتهم فقط، وليس حياة الناس ككل . وذلك لأنهم يعتقدون أن حياتهم منفصلة عن حياة الآخرين . وظلوا على اعتقادهم هذا حتى علّمهم الوباء أن حياة الناس كل غير قابل للتجزيء . ولا شك أنه عندما يختل شرط المساواة بين الناس، يختل معه شرط الحفاظ على حياتهم . إذ تبين أن حياة الكل مهددة عند إصابة البعض . كما أن هذا الشعورالجمعي بضرورة حفظ حياة كل الناس، هو الذي غاب عند البعض الذين ظلوا يستهينون بالأمر . وكلما اقتربت حالات العدوى منهم ومن محيط عائلتهم بدأوا يستوعبون خطورة الوضع . إن الإنسان الحقيقي هو الذي يهتز لأول وفاة بهذا الوباء، بدل أن يستسهل الخطر طالما أنه يصيب الآخرين فحسب .
ثالثا درس الحرية :
إن استصعاب الناس تجربة الحجر الصحي، واستثقالها على نفوسهم، وتضجرهم من المكوث في البيت طويلا، دليل على حتمية هذا الحق الأساس . فالإنسان مجبول على هذه القيمة التي لا تقبل المساومة . وتعتبر هذه التجربة مناسبة ثمينة لإقامة الوزن للحرية التي نتمتع بها . وفرصة لتذكر الذين فقدوها كليا أو جزئيا . كما أن هذه الفترة الحساسة قامت برسم حدود حرية الأفراد، خصوصا فيما يرتبط بنشر الأخبار الزائفة، بحيث يعتبر ذلك إضرارا بالآخرين وزرع الهلع في أنفسهم . لاشك أن حضر التجول الذي نادت به كل السلطات في العالم، يعد تعليقا مؤقتا لحرية الناس، وذلك للحفاظ على حياتهم . وهنا يتضح ارتباط قيمة الحرية بالحفاظ على الحياة : فلا حياة بدون حرية كما لا توجد حرية بدون حياة . ثم إن هذه الفترة من الحجر الصحي، تعلمُنا ابتكار أشكال أخرى للتعبير عن الحرية، غير الشكل التقليدي المتمثل في التجول والسفر الجغرافي . ومن بين هذه الأشكال التي قد يهتدي إليها البعض، نذكر السفر عبر الوجدان، وذلك بتأمل الذات وإعادة قراءة القناعات والمواقف والنظرة للحياة في ضوء ما يحدث من تغيرات في العالم .
رابعا حقيقة الكون والفساد :
لقد جاء هذا الوباء ليذكرنا أن الحياة خاضعة لمنطق الكون والفساد، وهذا يعني أن كل شيء فيها يكون ثم يفسد . أي أن هناك نهاية لكل شيء . ومن تم تبين أن كل ما راكمه الإنسان من تقدم علمي وتكنولوجي يبقي هشا وضعيفا، بحيث لم يمكنه كل هذا التقدم من رفع التحدي الذي قطعه على نفسه، باعتباره الكائن الأقوى والأذكى والأفضل على الإطلاق . إن إدراك حقيقة الكون والفساد من شأنها أن تعيد الإنسان المعاصر إلى الأرض بعدما كان يتطلع كثيرا إلى السماء . لقد تبين أن إدراك حقيقة السماء لا يمكن أن يتم بإعمال العقل فقط . بل نحتاج إلى القلب أيضا لإدراك حقائق لا تفك بالمنطق الإستدلالي الرياضي . وكأن العقل هو كل ما يملكه هذا الإنسان لإدراك الحقائق، لم يعد يحتكم إلى حواسه كالحدس مثلا . لقد أصبح الإنسان اليوم في زخم حياته اليومية خارج حواسه، بحيث تراه يجري وراء تحقيق أشياء لا تؤمن له المناعة النفسية لتدبير مثل هذه الأزمات . لذلك يصبح ضحية الخوف . الخوف من الجوع، والخوف من الموت... إنه لم يطور تفكيرا محايدا فظل رهين التفكير السلبي المدمر .
خامسا دَور دٌور العبادة :
لا شك أن بناء دور العبادة أمر لا بد منه بحيث لا يمكن فصل الظاهرة الإيمانية عن المجتمعات . لكن إغلاق المساجد والكنائس والمعابد خلال فترة الأزمة هذه، من شأنه أن يدفعنا للتساؤل عن الدور الذي يفترض أن تقوم به هذه المؤسسات داخل المجتمع . فهل سيقتصر دورها في أداء العبادات ؟ أم أنها ستنخرط في بناء شخصية دينية قادرة على استيعاب رسائل هذه المرحلة، وبلورة تجربة روحية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية والمذهبية، التي كانت ولا تزال، سببا في دمار المنشآت الحضارية وضمور الحس الإنساني عبر قرون . فكيف يمكن إذن لهذه المؤسسات الدينية أن ترسخ القيم الإنسانية الكونية الداعية إلى العيش جنبا إلى جنب، فوق هذه الأرض التي تسعنا جميعا، دون تمييز الإنسان على أساس الجنس أو اللون أو الانتماء الجغرافي أو العرقي...؟ وكيف يمكن أن تجعل من الإنسان محط اهتمامها، سواء تعلق الأمر ببعده المادي و الروحي الفردي أو بعده الاجتماعي العلائقي ؟
أسئلة جوهرية وغيرها تفرض علينا نفسها وتدعونا إلى الإجابة عنها على ضوء التغيرات العميقة التي نشهدها اليوم تطال جميع المستويات . حتى نرفع التحديات الكبرى باستحضار كل هذه الدروس، وحتى نعود لبناء برج جديد عنوانه الإنسان .
حسن المودن 11 أبريل 2020
أوريكة.