وأنا اقرأ كتاب العقود (سرديات) للقاص الاستاذ محمد خضير استوقفتني قصة ((البطّات البحرية) .
القصة تتناول علاقة حب بين زوجين واللحظة القصصية هي مرور السنة الثالثة على زواجهما، والسرد منشغل بالوقت مع السطر الأول للقصة .
(أنصرف مصطفى من المصرف مساءً، وكان يطفو في زمن الخامسة) .
(أضطر مراراً إلى أن يخرج ساعته المثبتة بسلسلة في جيب السترة الصغير، وأن يدوس نابض الغلاف الفضي، فيقطب بكآبة لأن ّ العقرب الكبير يتأخر ثلاث دقائق عن الخامسة) يقوم مصطفى بشتم الزمن، فالعقرب الكبير بطيء في وصوله إلى السادسة !! كما يؤكد صوت السارد . والزمن يطالبه بالانتظار وهناك في البيت تنتظره (البطة) وتساءل السارد كيف قفز هذا الإسم من الأسماء التي اطلقها على زوجته (البطة المذعورة) وحين يصل إلى بيته في مساء ممطر نعرف لماذا تهمه الساعة السادسة من خلال تحاوره مع زوجته .
(كان ذلك في الساعة السادسة.. أتذكرين
- أجل الساعة السادسة.. في الشتاء
- إنها مسألة لا تنتهي
- أية مساءلة ؟
- أن أحبك)
تأخذ من زوجها مصطفى الكعكة التي اشتراها، تضعهاعلى خوان في الصالة ثم يركز السرد على المشهد الحميم بينهما : (تقدمت نحوه . تناولها بين ذراعيه . قالت وهي تريح رأسها على معطفه : السنة الثالثة التي تمر على ذلك المساء.. حقا إنها مسألة لا تنتهي) فيجيبها الزوج (أجل، على الدوام) سيرمز السرد على هدوء حياتهما من خلال المسح السينمي للمكان وتبدأ اللقطة مطوقة بعينيّ الزوج وهو يصف زوجته ومن خلالها يتأنث المكان : (كانت دافئة ورخوة، أستعرض عبر كتفها الصالة المضاءة، الأرائك الحمر المصفوفة في قوس حول المدفأة، الستائر الوردية المنسدلة، البساط الوبري) من خلال المكان العائلي الدافئ تتضح لعين الزوج المختلسة وربما بفعل نار الموقد والهدوء، كل الأبعاد الجميلة لزوجته فتتداعى ذاكرته في ذلك المساء الأول ألقى النظرة الحذرة نفسها قبل إزاحته لنقابها الأبيض. لحظاتها دقت الساعة ست دقات بطيئة،
لحظتها (ارتطمت شفتاه المتلهفتان بالطلاء الاحمر على شفتيها، التصقتا بهما ثم انفصلتا بعد أن استطعما حلاوة كطعم الفانيلا على الكعك.. ) ومثلما تتداعى اللحظة المفرحة في ذاكرة الزوج، واجهته لحظة مساء كئيب في رواق طويل ينهار فيه البياض السعيد بمرور البطات في ذاكرته . البطات المذعورات تعبر وتختفي في الضباب . وهذه البطات موجودة في لوحة فنية يتذكرها الزوج ويضيف إلى اللوحة ما هو غير موجود فيها وهنا تجيبه زوجته
: أنت تتحدث عن اللوحة ؟ أليس كذلك ؟ لا تحتوي قارباً .
يتساءل زوجها : حقا ؟ غيوم فقط ؟
تجيبه زوجته : تتكاثف تدفعها الرياح
هذا التحاور حول اللوحة استعارة سردية عن حياتهما واللوحة اقتطعها من مجلة : منظر يحتوي ثلاث إوزّات رمادية تحلق فوق أحراش مظلمة .
السارد يمزج بين الفني والوقائعي، الإوزات الثلاث يصبحن (ثلاث بطّات تجتاز رواقا طويلا بأردية المستشفى البيض، وكانت إحداهن تحمل بين يديها لفافة بيضاء، وتتقدم زميلتيها بخطوات (كن سمينات كالبطات) وحين تسأله زوجته : من؟ يجيبها الزوج : الممرضات .
وفعل التذكر: يعني أن الرجل يتذكر ما جرى لزوجته لحظة المخاض .
كامرأة قارئة أرى : أن الزوجة لم تنس حتى تتذكر، لكنها تفضل أن تتوجع وحدها بسبب رفع رحمها المسرطنة .
كلما انتهي من قراءتي لهذه القصة الأجمل أعود لهذا السطر من القصة وارى فيه نهاية القصة .
(فرك بطنها بكفّه الدافئة، فابتسمت وغصّت بآهة أخرى، بياض شامل، وحده حفيف الأجنحة يُسمع بصعوبة فوق صخرة بحرية تتلاطمها الأمواج) .
*كتاب العقود/ سرديات / منشورات الجمل/ بغداد/ 2021/ (البطات البحرية/ ص57)