"الموسيقى تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، ولتفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى". (إدوارد سعيد)
جاء الجدل حول النشاط الموسيقي في ساحة بازار «مقام النبي موسى»، ليطرح قضية ثقافية جديرة بالحوار: إلى أي مدى يؤثر الوضع السياسي على الفنون، ومنها الموسيقى ؟ وهل يعبِّر الفن عن الحياة التي يعيشها الفنان أكان أنثى أم ذكراً، وعن الماضي الذي عاشه الأجداد، أم يعبِّر عن الحاضر والماضي والرؤية المستقبلية.. كلّها معاً ؟
وماذا عن الموسيقى الإلكترونية والأنواع العديدة التي تضمّها، مثل التكنو؟ متى نشأت ؟ وما طبيعتها ؟ وعمّ تعبِّر ؟ وما سبب تعلق الشباب بها ؟ ولماذا لا يعتبرها البعض فناً، في تجاهل لإقبال الأجيال الشابة عليها، والاندماج فيها، ما يجعل بعض مَن لا يتذوقونها يحاولون شيطنتها مجتمعياً، دون محاولة فهمها ؟
نشأت الموسيقى الإلكترونية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومنذ ذلك الوقت عكست موسيقاها الروح الثورية للأجيال الصاعدة، بصخبها وتحرّرها . وتضم الموسيقى الإلكترونية العديد من الأنواع (Genres)، تصل إلى خمسة وعشرين نوعاً، منها الروك الإلكتروني Electronic Rock الذي يحتوي ثمانية أنماط، ومنها موسيقى البيت House Music التي تحتوي 32 نمطاً، وموسيقى التكنو Techno التي تحتوي 11 نمطاً .
ولا يمكن تجاهل أن الموسيقى الإلكترونية أصبحت جزءاً من المشهد الموسيقي المعاصر، وبالإضافة إلى من تخصَّصوا فيها، نجد أن العديد من مؤلفي الأنماط الموسيقية الأخرى حول العالم استخدموها ضمن موسيقاهم، فمنهم من استخدمها مع أغنيات تراثية، أو مع آلات موسيقية محدّدة، أو أصوات غنائية، ومنها ما استخدم مرافقاً للغناء الصوفي، أو الغناء الوطني . مثال على ذلك موسيقى الفنان التونسي المجدِّد «ظافر يوسف»، الذي مزج بين العود والموسيقى الإلكترونية . وأغنيات فرقة العاشقين، التي تأسست عام 1977، والتي أضافت «الأورغ» إلى الآلات الشرقية، مما يؤكِّد أن الأدوات الفنية الإلكترونية جاءت كتطوّر لم ولن يتوقف .
عارض العديد التطوير في الموسيقى عبر العصور، كما حدث مع موسيقى الروك، التي تعدّ حتى اليوم من أكثر أنواع الموسيقى انتشاراً .
وبالنسبة للتطور في الموسيقى العربية، نذكر أن أول من أدخل آلات موسيقى الروك الغناء العربي كان موسيقار الأجيال «محمد عبد الوهاب»، حين لحَّن دوراً للجيتار الكهربائي، إلى جانب التخت الشرقي، في أغنية «إنت عمري»، التي غنّتها كوكب الشرق «أم كلثوم»، رغم معارضتها لهذا التجديد في البداية .
وفي الثمانينيات، وبعد أن هاجم الملحِّن المصري «حلمي بكر» الفنان الليبي «حميد الشاعري» لأنه استخدم الموسيقى الإلكترونية، تراجع ليتعاون معه في إنتاج أوبريت «الحلم العربي» عام 1998 .
أتَفِقُ مع الفنان «خالد جبران»، الذي أكَّد أن الفن يعبّر عن حياة الفنان، في اللحظة الحاضرة . وإذا كان العالم بأسره لا يستطيع التنفس اليوم، تحت ثقل سياسات النيوليبرالية المتوحشة، والتمييز والعنصرية، وثقل «كوفيد-19»، فهل يستطيع الإنسان الفلسطيني التنفس، تحت ثقل الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني، والاستعمار الصهيوني العنصري، وثقل جائحة «كورونا» ؟
هل يمكن ألا تؤثر تلك الظروف القاسية، التي يعيشها الإنسان في العالم اليوم، والظروف التي يعيشها الفلسطيني، على الفنون كافة، وفي القلب منها الموسيقى؟
وما هو الواقع الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني؟ ألا يعيش في عالم فوضوي، تُزيّف فيه الحقائق، وتهدر الحقوق، وتغيب العدالة ؟!
هل يستطيع الموسيقى الفلسطيني، شاباً كان أم شابة، أن يعزف لحناً هادئاً حالماً، بينما يعيش واقعاً يسحق أحلامه بالحب والحرية والأمان؟! ألا يشتعل الفلسطيني غضباً حين يضطرّ للانتظار ساعات على أكثر من حاجز عسكري حتى يصل إلى بيته أو مكان عمله، وحين يمنع من السفر، وحين يقتلع زرعه وتصادر أرضه ويهدم بيته ويشرّد ؟
وما هي الأصوات التي يسمعها الشباب ليلاً ونهاراً؟ هل يسمع خرير الماء وغناء العندليب؟ أم أصوات صفّارات الإنذار، وسيارات الإسعاف، والرصاص، والقنابل، والصواريخ، والجرّافات، وصرير أبواب الزنازين ؟
هناك من أهل الموسيقى من وضعوا الألحان التي تناسب شعارات سياسية محددة، وهناك من استلهموا التراث، وغيرهم ممن استنطق الموسيقى من داخلها ليجد صوته الخاص. هناك الموسيقى التي تعكس الواقع المرّ، وأخرى تهرب منه إلى عالم خاص بها، وأخرى تثور عليه .
لا يتوقف الخلاف بين القديم والجديد في الفن والأدب والحياة .
الفن هو الفن، هناك من أهل الفن من يقدِّم الواقع كما هو، وهناك من يعيد إنتاج الواقع مع إضافة رؤيته لهذا الواقع. والفن الجيد يفرض نفسه بغضِّ النظر عن كونه قديماً أو جديداً .
وإذا كان منّا مَن يفضَّل ألا يتابع الجديد فنياً بشكل عام، أو ألواناً محددة من الفنون مثل الموسيقى بشكل خاص، فهذا شأنه ورأيه، الذي لا يمكنه فرضه على أحد. لا يمكن لأحد أن يوقف عجلة التطور، أو يعود بالزمن إلى الوراء .
أيها الشباب والشابات، تعرّفوا على ماضيكم، واستلهموا منه ما تتذوّقون، تشرَّبوا الماضي والحاضر، واصنعوا المستقبل .
المصدر: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية - مسارات