تُشّكل قضايا المرأة في العالم محورًا استراتيجياً وحقوقياً مُتعدّد الاهتمامات والاطروحات، إذ يُنظر لقضيّتها بعين التوجس والايديولوجيات التي تعتمدها شتى المجتمعات لتعكس سلوكيات الدول وشعوبها في جوانب الحياة المختلفة .
وليست قضية المرأة في البند العالمي مجرّد محاضرات أكاديمية أو دراسات بحثية أو موضوعات تنموية، أو حتى سلسلة من الرؤى تجاه جنس ما، إنما هي أساس وركيزة بدرجة أولى تطرقت إليها الأحكام الدولية او المجتمعية .
وقد ظهرت مصطلحات عديدة في طرح موضوع المرأة منها: مشكلة المرأة، أزمة المرأة، إشكالية المرأة، وقضية المرأة، لكن تظل قضية المرأة في جوهرها إنسانية ومجتمعية .
فما هي التحديات التي تواجه جهود تمكين المرأة من حقوقها واندماجها الكامل في المجتمع وما سقف الطموحات التي تسعى المرأة العربية لتحقيقها في ظل القوانين والثقافة المُجتعية السائدة وأيضا في ظل المُستجدات العالمية ؟
قضايا المرأة بين الموروث الراكد والطرح الوافد
هناك من تناول قضية المرأة كعنصر مستقلّ عن باقي المجتمع، لكنها تظلّ إشكاليّة تاريخية، تضرب جذورها عميقا في حياة البشرية التي ظهر فيها مبدأ الملكية الخاصة ليطفو معها الاستلاب واستغلال الإنسان للإنسان ككل .
وإن تأملنا وأمعنا النظر جيدا، أدركنا أن معاناة المرأة في العالم، إنما هي جزء من معاناة مجتمعات بأسرها، فما الرجل والمرأة إلا صورتين لموضع واحد وهو الإنسان .
إنّ أنواع من الظلم الاجتماعي والاقتصادي قد وقعت على كاهل الرجل كما هو على كاهل المرأة، لكن الأخيرة عانت أكثر واقع التهميش والاستغلال، فهي تعاني من الاقصاء وتتراكم الكثير من الجرائم الفردية والمُجتمعية فوق كاهلها، كما تتعرّض أيضا الى العنف والنظرة الدٌونيّة في الأسرة نفسها، والذي يتفجرّ أكثر لأسباب اقتصادية واجتماعية.
تحرير المرأة لن يكون بمعزل عن تحرير عقلية شعب بأسره وبناء مجتمع قائم على المساواة، ولن تتحقق الحداثة خارج هذا البعد العربي الإنساني
ومن أهمّ ظواهر هذا الظلم المُسلّط عليها، الأميّة والبطالة والعنف الاسري، وعدم المساواة، وهنّ أقصى الكوارث الاجتماعية التي تصيب المرأة وتمنعها لأجيال كثيرة من التطّور التي تطمح إليه، إضافة إلى التمتّع بحقوقها في ظلّ قوانين عادلة .
ولم يكن وضع المرأة العربية مختلفا عن ما كان عليه في مناطق أخرى من العالم، حيث مرّ هذا الوضع عبر التاريخ بمراحل من التمييز، مما أدّى إلى خضوعها لقيود على حقوقها وحريّاتها، والعديد منها يرجع إلى الموروث الثقافي والمعتقدات الدينية المُتعصبّة، رغم أنّ الإسلام ركّز في جميع تعاليمه وأحكامه على رفعة المرأة وتعزيز مكانتها، وكان اهتمام الإسلام بالمرأة سبّاقا ونوعيّا .
لكن العقبة الأكبر كانت في القمع الذكوري للمراة، ويعتبر البعض أنّ المرأة نفسها، قد ساهمت في الترويج لذلك. وفي هذا الصدد تقول د. جمان هردي الباحثة في قضايا المرأة: "إن المرأة تتبنّى رؤية قامعها وتتحوّل إلى وكيلة للنظام الأبوي وتقوم بضبط النساء الأخريات ليُطعن النظام العام".
وقد حددّت منظمة الأمم المتحدة عام 2030 سنة لمناصفة كوكب الأرض ما بين الجنسين، وهي مُهمّة قدّرها البعض أنها صعبة للغاية وتحتاج إلى الكثير من الجهود للقضاء على أنواع كثيرة من الاستغلال والتمييز والعنف، خاصة في ظلّ المُستجّدات التي مرّ بها العالم العربي والسُلوكيّات الوافدة من بؤر الحروب والتطاحن السياسي في المنطقة التي طالها ما يسمى الربيع العربي. فأي رؤية جديدة لوضع المرأة العربية وهل تُعدّ قادرة على إحداث وجود فعّال ومُغاير !
قضايا المرأة والرؤية جديدة
يذكر مساعد الأمين العام للأمم المتحدة كيفن كندي أن هناك سبعة ملايين امرأة سوريّة يقُمن بإعالة أسرهنّ لكنهنّ يتعرّضن للعنف ويحتجن للمساعدة . أمّا الناشطة السعودية د. هيفاء الحبالي فتقول : "نحن نطالب بقوانين لمكافحة التحرّش بالمرأة والطفل أيضا"، وتقول الناشطة السورية الكندية عفراء حلبي: "إن الأزمة السورية جعلت المرأة عرضة للاختفاء القسري والقتل والتهجير". وتُضيف أيضا: "لا يزال الوعي الفكري والديني والثقافي في المنطقة ضحلا لا يتغيّر، وأن التوجّه الإقصائي نحو المرأة لا يزال موجودا " .
أما في العراق، فتؤكد الناشطة هناء أدور سكرتيرة جمعية أمل، أن حالات الطلاق في تزايد ويعود سببها إلى فقدان الاستقلال الإقتصادي والإجتماعي . وقد عانت العراقيات بمختلف الطوائف ويلات الحرب، من اعتداءآت جنسية وجسدية ارتكبتها قوى الإرهاب وأصبح البعض منهنّ سبايا تحت سقف ما يُسمّى بداعش ولم تسلم من قبضته إلى الآن، إضافة إلى اغتيالات مٌتكرّرة بحق نساء رائدات في شتى المجالات الفكريّة والثقافيّة والفنّية خصوصا في الحقبة الأخيرة .
لقد أضحت المرأة العربية في هذه المرحلة الجديدة، مُهمشة أكثر فكريّا ومُستغلة جسديّا، وتعاني الأمرين في ظل التوتّر القائم والنزاعات القومية، وبسبب التطرّف الديني الزاحف بقوة، لتتراكم أبشع الجرائم الفردية والمُجتمعية فوق كاهلها، إضافة إلى الزجّ بها (مُرغمة او مٌقنتعة) في الانتهاكات الإنسانية وارتكاب جرائم إرهابية بسبب التشويه الحاصل في الشقّ العقائدي .
وفي ظلّ ما يسمى بالربيع العربي، انقادت المرأة بكل ثقلها في الثورات، مُشاركة في الاعتصامات والمُظاهرات ومُحمّلة بطموحات عديدة، وتطلّعات للإندماج الكليّ في المجتمع المدني والسياسي، وبرغبة جامحة في أن تكون مساهمة فعّالة في الحياة المجتمعية والتنمية، دون عوائق تحدّ من حريتها في القرار. لكنّها لم تجنِ ثمار نضالها بحجم التوقُعات والرّهانات، وذلك مُنذ الاستعمار الأجنبي وإلى حدّ السّاعة في ظلّ الأنظمة العربية الجديدة والمُستنسخة.
لكن يعتقد الكثير ان الاستثناء الوحيد في مسار حقوق المرأة العربية يُحتسب للمرأة التونسية، ولنا أن نتسائل أيّ واقع تعيشه في خضم التحوّلات السياسيّة والإجتماعيّة ؟
واقع المرأة التونسية ...النموذج
إن تاريخ تونس حافل بالنساء المُناضلات دفاعا عن الوطن بادىء الأمر، وعن حقوق المرأة والأسرة والمجتمع، وكانت مساهمتهنّ فاعلة ومُهمة في الشأن العام، بما فيها مناهضة المُستعمر وسعيا لاستقلال البلاد أيضا، ومن بين الأسماء بشيرة بن مراد التي ساهمت في رسم مستقبل المرأة المُشرّف منذ بدايات القرن الماضي، وعزيزة عثمانة في العمل الخيري، وعدّة نماذج أخرى استطاعت أن تقف بالمرصاد للجهل والاميّة والتمييز. كما ساندها بعض من روّاد الفكر التنويري والنقابي لتطوير المجتمع، وأهمهّم المُفكرّ والسياسي والنقابي الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" .
وكان للمرأة التونسية وجود فعّال على جميع الأصعدة وفي المدى القريب نذكر ميّ الجريبي وسامية عبّو وفضيلة الشابي والباحثة د. الفة بن يوسف التي تُصنّف من الجيل التونسي الجديد المُثقف والرمز لحريّة المرأة، ومن مؤلفاتها "نساء وذاكرة"، وقد اعتمدت على منهج التاريخ الشفوي وشهادات لنساء تونسيات شهيرات في مجالات مُتعددة مطلع القرن العشرينر.
وبعد 58 عاما على سنّ مجلة الأحوال الشخصية بما تُمثّله من دستور مدني اعتبره العديد ثورة في التشريع والمجتمع قادها الزعيم بورقيبة، وحققت المرأة من خلالها مكاسب متنوعة، لكن هذا لم يمنع من وجود فئات نسوية مُهمشة ومضطهدة، وقد انقسم المجتمع التونسي بين فئة مُثقفة ومُنفتحة طغت عليها طموحات المساواة في الشغل والشأن العامّ مع الرجل ومَعنيّة بالتكافؤ الحقيقي للفرص والمناصب حتى السياسية منها، لكن ظلّت فئة نسويّة أخرى فاقدة لهاته الحقوق ومحرومة من أبسط مُقومات العيش الكريم، ممّا يزيد في هوّة المساواة بين المرأة والأخرى، إضافة إلى المساواة بين المرأة والرجل.
ولئن تطوّر مسار حقوق المرأة التونسية واتبّع منحى إيجابيا في مجمله منذ الاستقلال، لكنه أيضا سار في عدة انحرافات خطيرة هددّت في عديد الحالات الخليّة الأساسية في المجتمع وهي الأسرة، عبر انتشار ظاهرة الطلاق ونسبة الجريمة ومطبّات لا أخلاقيةر.
ولا نقدر إلا أن نُعرّج أيضا على قضيّة أساسية بدأت تفتِك بالمرأة التونسية وتتوغّل خصوصا في فئة من القاصرات غير الواعيات لسهولة استقطابها، وذلك بتسفيرهّن إلى بؤر التوتر والزجّ بهنّ في صراعات إقليميّة، ضمن الانتماء إلى الجماعات الإرهابية المُتطرفة واستغلالهنّ في نشر ثقافة الموت وأيضا في "جهاد النكاح" هذا المُصطلح الغريب حتى عن التشريع الإسلامي.
إذا فواقع المرأة في تونس ليس أفضل حالا من نظيراتها في المُجتمعات العربية رغم (تفوّقها) عليهن في الحقوق التي استندت إلى مجلة الأحوال الشخصيّة. لكن تظلّ هناك بعض التجاوزات والانتهاكات في حقّها. خاصة عند التأمل والبحث في واقع بعيد عن التشريعات، ليُحيلنا إلى العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي الذي تتعرّض له .
مستقبل المرأة العربية .. المكاسب والرهانات
لكن رغم كل هذا الاحباط تمسّكت المرأة العرببة وبقوّة بحقوقها الأساسيّة وانتزعت مكانتها المهمّة في تقدّم المجتمع وازدهاره الفكري والاقتصادي لتُسجل تطلّعاتها الباهظة، وتضع بصمتها على المدى القريب والبعيد لتُثبت وجودها، وقد سطع نجم أكثر من امرأة ولمع اسمها في عديد الدول العربية مثل مي زيادة وهدى شعراوي في الأدب والسياسة، وبولينا حسون في مجال الصحافة العراقية، ومناضلات مثل جميلة بوحيدر الجزائرية، ثم برزت أسماء أخرى في حقبة مختلفة بكافة المجالات، كالأدب والعلوم والتكنولوجيا والفنون، مثل نازك الملائكة وانعام كجة جي وأحلام مستغانمي .
وقد سعت المرأة إلى تعزيز مشاركتها في المجتمع العربي ورفع رهانات التنمية والازدهار، لما تملكه من طاقات وإمكانيات فاعلة وأساسية في التطور، بقطع النظر عن مكانتها كنصف للمجتمع باعتبارها ربة أسرة ومربيّة أجيال وأيضا شريكة حياة. فمعظم المُفكرّين والباحثين في قضايا المجتمع يؤكدون على أهمية دور المرأة وحتميّة مساهمتها في البناء وحتى تبنّي القضايا المفصلية للأمّة العربية ككل،ّ بدخولها هذا المعترك على مستويات عدّة ودحر مشروعات الهيمنة والتسلُط الذكوري.
والملاحظ إذن أن المرأة العربية وكما ذكرت د. ناهد محمد علي "أنها ليست مُلاحقة من قبل الرجل، لكنها مُلاحقة من قبل النظام الاجتماعي والسياسي العربي، وهو نفسه من يلاحق الرجل والمرأة و كلاهما سواء، فإما أن ينصهروا في بوتقته أو يطوفوا على السطح ناجين بأنفسهم" .
فتحرير المرأة لن يكون بمعزل عن تحرير عقلية شعب بأسره وبناء مجتمع قائم على المساواة، ولن تتحقق الحداثة خارج هذا البعد العربي الإنساني. فهل من مشاريع تقدُميّة تؤمن بقيمة المرأة كرهان للحداثة التي تصبو إليها سائر المجتمعات بعيدا عن الطرح الفردي وبرؤية إنسانية شاملة ؟