"لو تركني النكد ما عرفني الناس".. الكثير من الرجال في الوطن العربي لديهم إيمان راسخ بأن هذه المقولة شديدة الارتباط بالنساء وأنه لا يكاد يخلو منزل من حضور امرأة تتحلى بهذه الصفة، حتى أن البعض ذهب إلى اعتبار أن هذه الصورة قفزت من الواقع إلى الشاشات لتطل عبر الكثير من الأعمال السينمائية .
ويلجأ صناع السينما عادة إلى جعل المرأة محورا أساسيا للأحداث، وذلك لاجتذاب جمهور عريض، ولكنهم في الآن ذاته لا يتوانون عن اعتماد صور مستوحاة من نظرة المجتمع لها والتي غالبا ما تحصرها في صفتين فإما أن تكون نكدية أو حمالة للضغائن والأحقاد أو جامعة بينهما .
ومع أن المرأة شكّلت العنصر الأهم الذي لازم كافة الحكايا السينمائية، وكانت الطرف الأبرز أيضا في منعطفات الحبكة ومجريات الحدث السينمائي، واحتلت موقعا بارزا وكادت تساوي الرجل من حيث الأدوار والحضور على الشاشات، فإن الظهور الكمي للنساء، يقابله سؤال مهم يطرح نفسه حول نوع هذا الحضور، وموقع المرأة وصورتها في تلك الأدوار والمشاهد .
فالصعود والانتشار الإيجابيان للفنانات والمبدعات رافقهما صعود صور شديدة السلبية كرست نمط المرأة السلعة، وكان النصيب الأكبر من القوالب النمطية والسائدة يتراوح بين امرأة لعوب متعددة العلاقات وأخرى خائنة أو فتاة ليل تلهو وتمرح. وهناك أيضا المرأة المتسلطة والنكدية التي تبحث عن المشاكل أو تسببها .
السينما مرآة المجتمع
هذا ما دفع بعض النقاد الذين يعتبرون السينما مرآة المجتمع إلى الإقرار بأن اللبنة الأولى للتغيير يجب أن تنطلق من عمق المجتمع حتى تتغير صورة المرأة في السينما، باعتبار أن وظيفة المرآة الأساسية هي عكس الصورة التي أمامها لا تزيينها .
وهناك من يعتبر أن الصورة النمطية للمرأة في السينما العربية ليست مسؤولية السينما فحسب، بل هي مسؤولية التنشئة الإجتماعية والعائلة والمدرسة والمجتمع بصفة عامة .
وقال د. عبدالناصر علي بن علي الفكي، أستاذ علم اجتماع بجامعة أفريقيا العالمية في السودان، إن “السينما لها رسالة تعمل على تنمية المجتمع على كافة الأصعدة وهذه وظيفة مطلوبة في حالة الوطن العربي، وبالتأكيد تناول الصورة الذهنية السلبية للمرأة يتم من باب التقويم الأسري والمجتمعي” .
وأضاف الفكي: “لكن أن ترسّخ السينما من تلك الوصمة، فذلك باعتقادي قصور ثقافي وفكري بنيوي للمنتج والكاتب ولا يدعم حركة التطور الاجتماعي واستقراره، كما أنه مركز إنتاج ذكوري لا يستوعب دور المرأة في المجتمع”.
ولفت إلى أن “الحركة النسوية نشطت في العقود الأخيرة في تحقيق حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية والقانونية والاقتصادية وغيرها، ولعل الاتفاقيات والقوانين الدولية والإقليمية والوطنية ساندت تلك الحقوق والسينما كمرآة تعكس في أحيان كثيرة ثقافة المجتمع كانت تعزز على الدوام حقوق المرأة وتترجم ذلك في قالب فني بسيط مقبول يتيح الانتشار التوعوي بين شريحة من النساء في المدن والأرياف وفهم مضمون العمل الفني السينمائي واستيعابه”.
وعلى الرغم من تعدد أشكال النساء وأنماطهن المختلفة التي قدمتها السينما العربية، والتي تغيّرت ملامحها وتبدّلت بمرور الوقت طبقا للقضايا المثارة، فإن عدسات كاميرا المخرجين والمخرجات تغرق في عوالم ضيقة تطرحها امرأة متمسكة بقيم المجتمع الأبوي.
وكان سينمائيون وكتاب مغاربة أشاروا على هامش مهرجان سلا في سبتمبر 2019 إلى أنه رغم ما طرأ من تطور على السينما العربية، تبقى صورة المرأة فيها نمطية تعكس الأفكار السائدة عنها في هذه المجتمعات حيث يراها البعض جنسا ضعيفا مغلوبا على أمره أو شريرة خائنة مثيرة للشهوة بل ويجب قتلها أحيانا حفاظا على الشرف.
ويرى الفكي أن “هذه المقاربة السينمائية لأوضاع النساء في السينما نتاج لعوامل أهمها الوعي المجتمعي العام بأدوار المرأة وكذلك القوى الاجتماعية الداعمة لحقوق النساء وبالذات الحركات النسوية”.
وتابع “هذا ما يمكن أن نطلق عليه التغير الثقافي والاجتماعي في الوطن العربي تجاه الحقوق العامة وبالذات النساء وأيضا ظهور كتاب ومخرجين وعاملين في مجال السينما كانت قضايا المرأة ضمن اهتماماتهم الفكرية والمهنية”.
وأشار في خاتمة حديثه إلى أن “السينما تظل تشكل الوعي المطلوب في إحداث التغيّر المرغوب السياسي والاجتماعي والثقافي بما يحدث المواءمة التي تراعي تماسك البناء الاجتماعي بين التقليدية والحداثة وإحداث النقلة نحو التنمية الاجتماعية والثقافية بين المكونات في الدولة والمجتمع”.
إلا أن هناك من يتهم صناع السينما بأنهم يعمدون إلى إظهار المرأة منشغلة بهموم سطحية، بعيدا عن كل ما هو سياسي أو وطني خارج حدود الأسرة، مطالبين بضرورة تغيير الصورة الذهنية للسينمائيين عن المرأة بوصفها حمالة للنكد والضغينة.
وعرف سعيد السكري، كوافير بالتلفزيون المصري، المرأة “النكدية” بأنها الزوجة التي تقلق راحة زوجها أو أبنائها أو المحيطين بها باستمرار، وأنها غيورة ودائمة اختلاق المشاكل، مشيرا إلى أنهم في السينما يعملون على إعطائها شكلا يوحي بالنقص مقارنة بغيرها من الشخصيات.
وأوضح السكري : أن “شخصية النكدية لا يتطلب تجهيزها الكثير من العمل، فهي غالبا تعكس صورة المرأة المهملة لمظهرها ولا تكون متابعة للموضة، وماكياجها تقليدي حتى تظهر صورتها مستفزة لتعكس ملامحها النكد”.
وأضاف أن “المخرجين يركزون في اختيارهم على أن يكون شكل من ستتقمص دور النكدية غير جميل بينما الطرف الذي ستعمل على التنكيد عليه يكون وسيما.. لكن هذا لا يعني أنه لم يتم اختيار شخصيات جميلة”، مثل نيللي كريم التي تلقب بـ”سيدة النكد”، لافتا إلى أن المخرج يتدخل في حصص الماكياج ويطلب التخفيف أو التغيير حتى تتكون أمامه الشخصية وفق رؤيته لها.
وقال إن “تجسيد أدوار المرأة النكدية في سينما زمان ظهر في شخص الحماة مثل فيلم “حماتي ملاك” لماري منيب التي كانت تعمل على إزعاج زوج ابنتها وتخلق مشاكل داخل الأسرة”.
أما المرأة الحاقدة التي تحمل في قلبها الكثير من الضغائن فهي حسب السكري السيدة التي تحزن لفرح غيرها وتفرح لحزنه، ولا تنظر إلى ما تملكه بعين الرضا لأنها منشغلة بما يملكه الآخرون، لذلك فإن تجهيزها يعتمد على تسريحة وماكياج صارخين، حيث يتم استخدام ألوان حادة وغامقة فوق عينها مع رسم حواجب عريضة حتى تبدو ملامحها فيها شراسة، وملابسها أنيقة.
وتابع أن “الماكياج والملابس وفكرة المخرج كلها تتكامل مع بعضها حتى تجسد الشخصية”. ووظف بعض المناصرين للمرأة كل هذه الجهود لتحرير النساء من المشاهد التقليدية، ومن اعتبارهن من الأقليات المضطهدة أو المهمّشة.
تحرير المرأة
شغلت قضايا المرأة بالسينما العربية في السنوات الأخيرة، بعض المثقفين العرب، فأنجزوا سيناريوهات وقصصا تركز على تحرير المرأة من المشاهد التقليدية لتغيير صورتها السطحية.
وألهب وقوف المرأة العربية في وجه التقاليد والعادات الذكورية ونواميس مجتمعها المقيد لحريتها، المنافسة بين مخرجات عربيات من بينهن المخرجة الجزائرية منية مدور بفيلم “بابيشا”، والسعودية شهد أمين من خلال “سيّدة البحر”، والتونسية هند بوجمعة بـ”نورا تحلم”.
وقالت جميلة عناب، مخرجة وأستاذة باحثة بالمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما بالمغرب، “كثيرة هي الأفلام التي تناولت المرأة كموضوع بشكل من الأشكال (زوجة، أم، إنسانة ضعيفة أو قوية…) من منظور الكاتبة أو المخرجة، إلا أن اللبس يكمن في أن أفلاما أخرجها مخرجون رجال كالجيلالي فرحاتي وعبدالرحمن التازي، هي منحدرة من مرجعية نسائية”.
وتتساءل عناب “كيف لهذا التمازج بين الحساسيتين الذكورية والأنثوية – إن صح القول – أن يجعلنا نفصل بين المرجعيتين داخل الفيلم الذي نشاهده؟ لاسيما وأن الفيلم، في مراحل صناعته، قد مر من مراحل تضافرت خلالها طاقات تقنية وفنية لتنتج الفيلم في شكله النهائي.. فهل هي أفلام تبنى فيها المخرج الرجل تعابير جمالية خاصة به؟ أي لغة سينمائية تنم عن روح ذكورية؟ وهل هذا أمر مقبول نظريا وتحليليا؟”.
وأشارت عناب: إلى أن “الإبداع الأنثوي يكون مؤطرا بالتحرر والهروب من القيود والطموح إلى الحرية، الأمر الذي نلمسه كذلك من خلال جل أعمال المخرجة فريدة بليزيد التي تعكس – بشكل من الأشكال – وضعية المرأة المغربية، وفيلمها ‘باب السما مفتوح’ مثال على ذلك”.
وأضافت “يسود عالم الحكاية في الفيلم حضور نسوي، يحيط بالشخصية المحورية، ولا يملك أيّ ملامح أو موقف واضح من العالم، بل إن هؤلاء النسوة يتمثلن الحضور الذكوري ويدافعن عن الثقافة السائدة”.
ووفقا لعناب، يبقى موضوع فيلم “باب السما مفتوح” قضية شغلت بليزيد، لكونها امرأة تبحث عن أناها من خلال التعبير سينمائيا عن انشغالاتها، أو لتمردها على واقع معيش أو كان سائداً؛ وأرادت بذلك طرح الأسئلة المتعلقة بموضوع يمس المرأة في بعدها الهوياتي وكذا الإنساني بكل هفواته وتناقضاته.
وتابعت “نجد في التجارب العربية أيضا أن موضوع المرأة في السينما محط سجال؛ فمثلا في فيلم “إسكندرية ليه” للمخرج المصري يوسف شاهين، كل الأماكن الثقافية من سينما ومسرح ذكورية، بينما تحضر المرأة باعتبارها مجرد ديكور مصاحب للفعل الدرامي (مسرح/حانة/ كباريه..) ويظل البطل يحيى سيّد الأمكنة حتى عندما استقبلته الأميرة شاهيناز، التي دأبت الكاميرا على تصويرها بحياء فخرجت الأميرة من الحقل البصري فيما ظل البطل يتحرك داخل فضاء القصر بكل حرية، الأمر الذي يعتبر اختيارا جماليا للمخرج، يعبر عن أناه وعن مواقفه”.
وأكدت أن “صورة المرأة في الفيلم تخضع لأنا المخرج إذ أنها لا تتطلع لبناء درامي فعال، فمثلا في بداية المحكي الفيلمي اقتصرت المرأة على مماثلة المغنية الراقصة والجسد المثير الذي يمارس الإغراء وقد كان تقطيع اللقطات الخاصة بالنساء سريعا لم يحترم القرب الصوتي، يعلو وينخفض دون تغيير زاوية النظر السردية. بل ويظل كلام مرتادي الكباريه أقوى سمعا.
صورة بين الواقعي والرمزي
وعلى عكس صورة الرجل، فالمرأة في فيلم “نساء ونساء” للمخرج وكاتب السيناريو المغربي سعد الشرايبي، متحررة من كل السلط، وهو أمر قد يدفعنا إلى القول إن “مخرج الفيلم ذا حساسية أنثوية لأنه ينصرها من خلال شخصياته بجعلها قوية بالرغم من جروحها وأعطابها النفسية التي تسبب فيها الرجل”، بحسب عناب.
وأوضحت أنه مع هذا الاختلاف في الطرح الفني، فإن المخرجين معا (الشرايبي وشاهين) يكشفان عن رؤية تعي الاختلاف بين المرأة الحقيقية والمرأة في بعدها الرمزي داخل سياق محدد. كما يؤكد ذلك أندري بازان الذي “لا يقابل بين المرأة الحقيقية والمرأة المُمَثلة على الشاشة، فهو يميز بينها وبين صورتها الرمزية”.
ولفتت أنه من هذا المنطلق، يطرح موضوع “سينما المرأة” مرة أخرى إشكالا كبيرا على مستوى الممارسة الإبداعية السينمائية، سواء تلك التي تقوم بها المرأة أو الرجل. ذلك أن الصراع مع النسق الثقافي يُطرح بقوة على مستوى كثير من الوجوه من منظورين مختلفين لا ينفي أحدهما الآخر، وخاصة على مستوى “حساسية” الفن، ففي السينما تغلب تلك الحساسية النابعة من صورة الأنثى عن نفسها، ومن تمثل الرجل لها ولقضاياها.
وبقطع النظر عمّا إذا كانت المخرجات حملن هموم بنات جنسهن إلى شاشات دور العرض أو إلى أيّ مدى انحاز المخرجون الرجال لمناقشة قضايا المرأة من وجهة نظرهم، فإن كثيرون يشككون في أن تكون الأفلام العربية قد نجحت في عكس صورة منصفة للنساء، حيث قدمت المرأة إما في صورة تاجرة مخدرات، أو فتاة ليل، وإن كانت عصرية فهي شكلية، تهتم بالمظهر، وإن كانت سياسية فهي سطحية، وإن كانت مثقفة، فهي عصبية ومعقدة. أما إن كانت كادحة، فهي فلاحة ومربية أولاد، في حين أن السينما العربية لم تتطرق بالشكل الكافي إلى مشاكل المرأة الحقيقية، أو إلى مستقبلها.
وترى المخرجة التونسية فضيلة بحروني أن هذا يعتمد على نوع السينما، مشيرة إلى أن “هناك سينما تجارية غير هادفة لا تركز على معالجة قضية محددة، وهناك سينما هادفة تكون حاملة لقضية”.
وقالت بحروني: إن بعض المخرجين عمل على مقاربة قضايا المرأة من زوايا مختلفة مثل ما فعل المخرج المصري يسري نصرالله في فيلمه “احكي يا شهرزاد”، وأيضا المخرج المغربي نبيل عيوش في فيلم “الزين اللي فيك”.
ومع ذلك، يتم اتهام صناع السينما بالاستمرار في تشويه صورة المرأة، على اعتبار أنه وإن اختلفت القصص المعروضة في مضمونها، فإنها تتشابه، حتى وإن عرضت في طياتها صور مختلفة لأزمات ومحن تواجه السيدات العربيات، حيث أنها لا تطرح حلولا جذرية، وتظل مثيرة للكثير من التساؤلات من مثل: هل اقتربت صورة المرأة من الواقع؟ أم أن أغلب الأفلام السينمائية وقعت في دائرة التنميط؟