بالتزامن مع الثامن من آذار يوم المرأة العالمي
إذا كان ابن حزم الأندلسي قد تفهم شعرية التأنيث من خلال كتاب القيّم ( طوق الحمامة) وهو من الكتب المتداولة للآن، فأن التأنيث من خلال أبن عربي أمتلك القوس الأوسع من خلال تأنيث الأمكنة .
قبل ثلاث سنوات أطلعت على كتاب هنري كوربان (الخيال الخلاّق عند إبن عربي)، لا أقول أنني استوعبتُ الكتاب تماما ، بل أقول أنني قرأته بتمهل وتعلمت منه ما ينفعني فصار إبن عربي مرجعا أحتاج العودة إليه، كلما سنحت لي الفرصة ..
في منتصف شباط هذا العام 2021 عاودتُ قراءة (موت صغير) للروائي محمد حسن .. لأسباب خاصة عاودت القراءة، تتناول الرواية سيرة حياة الصوفي الأكبر إبن عربي .. ومع الصفحات الأولى تذكرت ُ مقولة ً مشهورة له
(المكان الذي لايؤنث لايعوّل عليه ) فصرتُ أتعقب الشخصيات النسوية اللواتي في الرواية، بالقلم والورقة تعقبت نساء الرواية :
أولهن : فاطمة بنت المثنى : القابلة التي على يديها جاء للدنيا المولود محي الدين بن عربي، وهي صاحبة كرامات وستكون بمنزلة (أمه الإلهية ) أما أمه الترابية فهي أمه التي كان في رحمها .. وسيكون إبن عربي وفياً لها وكيف لا.. وفاطمة بنت المثنى هي التي تبشره بأوتاده الأربعة .. في لحظة التفارق بينهما أثناء الرحيل عن المدينة، هي قررت التوجه الى قرطبة، وعائلة ابن عربي يممت صوب أشبيلية :
(في إشبيلية وتد من الأوتاد الأربعة ولاشك
- ومن هم الأوتاد ؟
- أربعة يحفظون الأرض من السوء
- كيف أعرفهم ؟
- هم يعرفونك
- وكيف أجدهم ؟
- هم يجدونك ../ ص42)..
الجملة الأقوى التي سترافقه من كلام فاطمة بنت المثني، وستكون نجم القطب له هي الجملة التالية
(طهّر قلبك ثم أتبعه )
................
المرأة الثانية (مريم بنت عبدون ) .. ما حدثته أخته أم سعد عنها، رفض: ( أتركيني أنا يا أم سعد، لازواج لي / ص163) وستزوره مريم في أحلامه وسيراها في أحلامه (تقرأ في كتاب وتبتسم ) وبنشغل فكره بها ويسأل أمه الإلهية فاطمة بنت المثنى عنها فتجيبه (مثلها مثل مريم بنت عمران....) سألها محي : (أو تعرفينها يا أماه ؟) تجيبه (لايابني، ولكني أعرف أنها ستكون زوجتك / ص164).. لكن بعد وفاة ابنتهما الوحيدة .
ويوم عودتها إلى المغرب كان وداعها لإبن عربي، باردا ( ودعت مريم بلا قبلات . صرفت خدّها عني واكتفت بمصافحتي وتقبيل يدي) ويعترف ابن عربي ( خرجت من قلبي وخرجت من قلبها دون وداع ../ 315)..
.................
المرأة التي ستكون ندا له وحسب قول ابن عربي (تلك نظام، عين الشمس، والبهاء / ص311) يكتب أشواقه لها شعراً على شكل ديوان شعر (ترجمان الأشواق ) وهي الأنثى المتفقهة على يد عمتها (فخر النساء) وكلاهما ابن عربي ونظام سيأخذ العلم منها ويختلسان العشق في الوقت نفسه، وحين عزم على خطبتها ووافق أبوها على ذلك : رفضته ؟ ! وأصبح تسلسله من المرفوضين : العاشر !! (أتظن أنك أول من تقدم لخطبتها ؟ أنت عاشرهم ../ ص365).. لماذا رفضته عين الشمس .. هذا ما ستخبره به ولكن بعد حين .
بعد اللغط الأخلاقي الذي سبب كتابه (ترجمان الأشواق ) في مكة فأضطرت عين الشمس وأباها الشيخ زاهر للهجرة والذهاب للعيش في بغداد، وستخبره بعد وفاة أبيها وبمصادفة معرفته بوفاته، وسيبحث عنها ويجدها معتكفة في بغداد في بيت العابدات .. ستخبره عن سبب رفضها له ..
(- لماذا ترفضين الزواج مني ؟
- لأني وتدك الثالث
- ..........
- والأوتاد يتزوجون الأرض يا حبيبي ../ ص429)
........................
ويهبه أحد تلا ميذه أبنته التي ترملت بسبب الحرب، وستكون فاطمة زوجته / 445ص وحين يقرر مغادرة حلب والذهاب إلى دمشق سيرسل زوجته إلى بيت أبيها في حلب ولن يذهب لدمشق، ستقوده الرؤيا إلى البقاع وحين يلتقيها ثانية يسأل نفسه .. (أحببتها .
ولا أدري هل أحبتني أم لا . شيء في عينيها يقول إنها مازالت شغوفة بشهيدها الذي قضى ../ ص475) ثم يقارن بين شيخوخته وبين سنها وهي على مشارف الثلاثين .
وحين تضع طفلها منه، بكل صدقه الصوفي الكبير يخاطبها (يا فاطمة . إني أستأذنك أن أسمّيه عماد الدين على اسم الشهيد الذي كنت ِ زوجته / ص486).. فإذا بفاطمة (لم تجب للحظات ثم سمعت ُ شهيقها وبكاءها بعد ذلك ).. وفاطمة امرأة عادية، لا علامة فارقة تميزها عن سواها.. ( إنها على صلاحها وطاعتها وخدمتها لا تكاد تقول شيئا . لا تكلّمني ولا تدللني ولا تقدم لي أكثر مما تقدّمه أي زوجة لأي زوج في أي صقيع من الأرض / ص502).. وكما يحدث في حروبنا يعود الشهيد من الحرب وسيتخذ ابن عربي أجمل ما فيه من الصوفية : موقفا .. متمنيا لهما العيش الرغيد .. لكن فاطمة ستفضل زوجها على ولدها (بدا لي أن فاطمة قررت أن تقطع صلتها بنا منذ رحلت ولم تترك أثراً ولا رسالة وكذبت على صفية بشأن كونها في ماردين . هكذا أرادت أن تتخلى عن عماد الدين إلى الأبد . كان الله في عونك يا بنيّ ../ ص551)
..................
مسك ختامه وصفو أيامه مع صفية زوجة صديقه الحميم المتوفي .. وعلى حد قول بن عربي : (استقر العيش مرة أخرى فاصطفاني الله لسلسلة من المعارج العقلية والمقامات الروحية والمراتب العليّة ../ ص526).. تحاول صفية محاكاته في بعض العبادات .. فتسأله وهو عائد من خلوته : (هل يحق للنساء أن يدخلن الخلوة أيضا ؟ / ص550) يجيبها ابن عربي (بالطبع يا صفية . حضرة الله لا تفرق بين ذكر وأنثى ).. مع هذه المرأة الصالحة الوفية ستكون نهاية حياتة ونهاية الرواية التي تستحق قراءآت متنوعة لخصوبتها .. بالنسبة لي كقارئة بحثت عما أحتاجه للتعرف أكثر على شخصية الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي . وبالطبع هذه السيرة روائية يمتزج الخيال فيها بالحقيقي ..
*محمد حسن علوان / موت صغير/ دار الساقي / الطبعة الرابعة / 2017/ بيروت