الشاعرُ العراقيُّ، الكرديُّ المخزوميُّ العربيُّ، جميل صدقي الزهاوي والمدُّ والجَزْر -11-

2022-02-14

وللزهاوي كلامٌ في المدِّ والجزر، وكالعادة هو يرفض علاقتهما بمسألة الجاذبية، فليس ثمةَ في عرفه جذبٌ بل هو الدفعُ رضي الراضون أم أبى الآبون، ويقول ان الفلاسفة قد علّلوا المدَّ والجزرَ على أنه جذبُ كلٍّ من القمر والشمس، كلاهما أو على انْفراد، لمياه الأرض بسبب مقابلتها لها، حيث يدور المدُّ على وجه البحر تبعًا لهذه المقابلة، أما الجزرُ فيكون حيث تزول المقابلة .

يمضي فيقول :  لمّا كان كل مدٍّ مزدوجًا في وقت واحد، فإنَّ أحد هذين المدَّيْن يكون في الطرف المواجه للقمر أو الشمس، أما الثاني  فيكون في الطرف المخالف، لذا فإن تعليلَ الفلاسفة لهذا الإزدواج، هو أن القمر بمواجهته لماء البحر، يجذبه إليه فينفصل الماء عن قعر البحر، ويجذب الأرض تحت الماء بدرجة أقلَّ، فينفصل عن الماء في وجهها المخالف، فيحصل مدّان في وقتٍ واحد، وهذا خطأ للوجوه الآتية :

أولًا:  إنَّ القمر لو استطاع أن يجذب الماء من وجه الارض، لما انْفصل الماء عن قعر البحر، لأنَّ جذبَ الأرض لهذا الماء أشد من جذب القمر لاتِّصالها به، ولكبرها بالنسبة إلى القمر .

ثانيًا : إن القمر لو كان يجذب الأرض تحت الماء إليه بحيث تنفصل عن الماء فوقها في الطرف المقابل لطرف القمر، لاقْتضى الأمر أن تسقط الأرض على القمر بعد زمان غير طويل، لأن القمر في كل آنٍ يُحدث مدًّا في قسم من أقسام الأرض، فاذا جذبها في كل لحظة قدمين*، وجب أن تجذبَ الأرضُ القمرَ أضعاف ذلك، لِعِظَمِها بالنسبة إليه، فكان المنتظر أن يتصادما، على أنَّ مثلَ هذه المصادمةِ لم تحدثْ منذ مئات الألوف من السنين لحسن الحظ .

ثالثًا : إن الأرض لو صحَّ أنها تنجذب إلى القمر، لما جاز أن تفارقَ الماء فوق وجهها الثاني، لأن هذا الماءَ مجذوبٌ من الأرض نفسها ومن القمر، فلم يكن مد مقابل، مع أنه موجود وهو مساوٍ للمد المواجه .

رابعاً : إن المدَّ يكون عند الإقْتران أو الإستقبال أكبرَ من المد المنفرد، وهما في الواقع متساويان، وهذا لا يتعلَّلُ بالنظر إلى الإستقبال، فإن مد القمر ضعفا مد الشمس تقريبا، فلو كان القمر يجذب الأرض تحت الماء إلى جهته، فان الشمس في الطرف الثاني تجذبها نصف جذب القمر، فكان الواجب أن يكون المد المواجه للقمر، نصف المد المنفرد مع أنه ضعفاه . ثم ينهي رأيه وكأن لديه اعتراضات أُخرى فيقول (إلى ما هنالك من الاعتراضات) .


بعد ذلك يقدم تفسيرهُ للمد والجزر مستندًا على مبدأ الدفع، حيث يقف الزهاوي بالضدِّ من الجذب في تفسير الظواهر الطبيعية التي تعرض لها، فلا جذبَ في الكون بل هو الدفع، ولا يستثني المدَّ والجزرَ عن هذه القاعدة فيقول بعد أن فند أقوال الفلاسفة بما تقدم :
والتعليلُ الحقُّ للمدِّ هو أن القمر يرسل قسمًا كبيرًا من كهربائيتِه عند محاذاتِه لنقطةٍ من الأرض، كما أن الأرض تفعل مثل ذلك فيه، وهذه الكهربائية لا تؤثر في الماء، لأنه موصلٌ جيدٌ لها، بل تؤثر في الأرض تحت الماء، فتدفعها فيتراكم الماء في المكان الهابط منها آتيًا من الأطراف، لسدِّ الفراغ الحاصل من اندفاع ذلك القسم من الأرض، فيكون في المكان الهابط مدٌّ وفي الأماكن المجاورة جزر.  واذ أنَّ هذه الكهربائيةَ تخالف كهربائيةَ الوجه الثاني من الأرض فهي تجذبه، فيحصل هناك أبضًا هبوطٌ مثل الأول، فيجري الماء من الأطراف إليه طلبًا للموازنة وهو المدُّ المقابل، وعندما يكون القمر مستقبِلًا الشمسَ، يجتمع تأثير النيرين، فيحدث المدُّ الأعظمُ كما في الاقتران، على أني أعترف بأن تعليل المد المقابل هذا ضعيف .


الجذب بين الكهربائيتين المتخالفتين

ولا تحسبنَّ أني قد ناقضت  نفسي بنفسي، لأني بعد أن أنكرت وجود الجذب، عدت فقلت بجذب كهربائية القمر للوجه الثاني من الأرض، فإني لا أقول بالجذب الحقيقي كما يقول به العلماء، بل أن جذب الكهربائية لمخالفتها، هو أن الكهربائيتين إذا تخالفتا تتحدان عند تلاقيهما فتطردان الأثير من بينهما، فيجري الأثير من ورائهما طلبًا للموازنة، ويدفع كلًّا من الجسمين إلى الآخر.  وأما اذا اتفقتا، فانهما لا تتحدان عند الملتقى، بل يدفع كل منهما الجسم الآخر، ومثلها المغناطيسية والإلتصاق والإتحاد الكيماوي، وتعلم من كل ذلك أن مبدأ الدفع تتوجه به اقسام الجاذبية جمعاء، وذلك دليل على صحته. 


وكما كررنا في مرات سابقة أن غايتنا في هذه السلسلة من المقالات هو إبراز تميز  الشاعر بين الشعراء في الإهتمام  بمسائل علمية وفكرية، إلى جانب تميزه الأدبي الرصين . هذا لا يمنعنا من التعليق حسبما يبلغ علمنا المتواضع وكذلك ما  يتوفر من معلومات حديثة توافق الزهاويَّ او تخالفه . 


العوامل اللاعبة في ظاهرتي المد والجزر

في البدء يمكن القول إن المدَّ هو ارتفاعُ مستوى سطح المياه في البحار والبحيرات والمحيطات بصورةٍ تدريجيَّةٍ ولمدةٍ  زمنيَّةٍ معينة، على شكل انتفاخ أو بروزعند مواجهتها للقمر، ثم انخفاضها تدريجيًّا لمدةٍ زمنيةٍّ معينةٍّ عند الجَزْر، حينما تنتفي تلك المواجهة . هاتان الظاهرتان اللتان يمكن اعتبارهما ظاهرةً واحدةً لارْتباطهما معًا، تتكرر بشكل يوميٍّ مرَّتين .


ولعل جاذبيةَ القمر، لما يتمتع به من قربٍ بالنسبة إلى تلك السطوح، أو إن شئت إلى الأرض تكون اللاعبَ الأكبرَ في خلقِ هذه الظاهرة، على ألا نهمل لاعبِيْنِ آخَرين هما جاذبيةُ الشمسِ لدرجةٍ أقلَّ بسبب بعدِها عن الأرض على الرغم من عِظَمِ حجمها بالنسبة للقمر.  أما العاملُ الآخرُ فهو عاملَ الحركةِ الدورانيَّةِ للأرض حول نفسها، بما تولِّدُه من قوةِ طردٍ مركزيٍّ متزامنة مع دوران القمر حول الأرض، تكون وراءَ المدِّ (الإنتفاخ  أو البروز) بالاتجاه المعاكس للقمر .  لذا يكون المدُّ مدَّيْن باتِّجاهين مختلفين من الأرض، مدٌّ باتجاه القمرِ، ومدٌّ عكسَه، ويصحبُ كلَّ مدٍّ جزر .


وحين  تكون الأرضُ والقمرُ والشمسُ على خطٍّ  واحدٍ، يكون المدُّ على أشدِّه، حيث أن جاذبيةَ القمر تُضاف اليها جاذبيةُ الشمس، وأن كانت أضعف، تقود إلى مدٍّ أشدَّ، كما يحصل عندما يكون القمر محاقًا أو بدرًا.  وتبلغ الجاذبية أقصاها، حين تنكسف الشمس . 
مما يجدر ذكره هنا، أن قوةَ الطردِ المركزيِّ للأرض، هي قوةٌ وهميةٌ تعاكس وتساوي تلك القوةَ المتولدةَ عن جذب مركز الأرض بفعل كتلتها،  فيكون كلُّ شيئٍ موجودًا على سطحها محفوظًا، ويدور بدورانها .


إدراكُ العلماء المسلمين تاثيرَ القمر في حدوث المد

ولقد ادرك العلماء المسلمون تاثير القمر في حدوث المدِّ قبل أن يتحدث نيوتن في الجاذبية بقرون . وكان من هؤلاء العلماء ابو معشر جعفر بن محمد الذي ربط الظاهرة بحركة القمر، بعد طول مشاهدة .  لقد استقطبت بغداد هذا الرجلَ وهو من بلخ بإفغانستان حينما كانت بغداد، ولهفي على بغداد،  قبلةَ الارض في العلوم . لقد وجد هذا العالم البلخيُّ الموسوعيُّ ضالَّتَه في بغداد أيام الخليفة العباسي، أحمد المستعين بالله ابن الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد فأبدع أيَّما إبداع . 


أما عن استغلال العربِ لظاهرةِ المد والجزر، فقد سبق أوروبا بثلاثةِ قرونٍ أو أكثر، فلقد ذكر المؤرخون قبل أكثرَ من ألف سنة، أن أهل البصرة كانوا قد استغلوا المد والجزر في إدارة سواقيهم وطواحينهم .

 

*  لا أدري من أين جاء الزهاويُّ بهذا الرقم، فإنَّ قربَ القمر من الأرض يجعله قادرًا على سحب بعض اليابسة، ولكن  ليس بالمقدار الذي يمكن ملاحظته، إلّا إذا اسْتُخْدِمت أدواتٌ جدُّ دقيقة .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved