الشاعر العراقيّ الوحيد  سركون بولص ( 1944-2007 ) يرحل في برلين...

2020-10-28

.في تمّوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيّ، في مهرجان لودَيف تحديداً، ألتقي سركون لقاءً غريباً .
كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولى . انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوى . أنا أعرفُ أنه مريضٌ، وأنه بحاجةٍ إلى انتباه واهتمامٍ ... لم " أعثرْ " عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً حتى لنفسها ...
سألتُ عنه أصدقاء، فلم يجيبوا .
عجباً !
وفي صباحٍ باكرٍ . عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ . رأيتُ سركون جالساً على الرصيف . كنتُ مع أندريا . قبّــلتُه : أين أنت ؟
كان شاحباً، مرتجفاً من الوهَن، محتفظاً بدعابته : في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود .
La Roseraie
كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً على أريكةٍ في البهو . سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان . هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما . لا مجال لي للعودة إلى الغابة . قلتُ أنام قليلاً هنا حتى انبلاج الصبح . لكنّ السيدة جاءت ...
سألتُه : عن أيّ غابةٍ تتحدّث ؟ ( ظننتُه يهذي ) . قال بطريقته : إي ... الغابة التي اختاروا مسكني فيها . ليس في المسكن فراشٌ مجهّز . المكان مقطوع  . هناك سيارة تصل إلى المكان مرةً واحدةً في اليوم !
أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها .
قال إنه ليس في المدينة !
جلسنا معه على الرصيف .
فجأةً لمحتُ إحدى المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها .
ابتدرتُها بالفرنسية : Il va mourir dans la rue …
سوف يموت في الشارع !
عواهرُ المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتٍ عالية ...
*
قلقي عليه ظلّ يلازمني .
حقاً، اشتركتُ معه، في جلسة حديثٍ مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الإحتلال، على خلاف معظم المثقفين العراقيين . أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلى العافية، لم تخفِّفْ من قلقي عليه .
رأيتُه آخر مرةٍ، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما . قالا إنه سوف ينزل هنا ( المهرجان أوشك ينتهي ) . ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ
ثم أخذاه فجأةً إلى خارج منزل الوردِ . سألتُهما : أين تمضيان به ؟ إنه مريض .
أجابا : هناك إجراءٌ رسميّ ( توقيع أو ما إلى ذلك ) ينبغي أن يستكمَل !
قلتُ لهما : إنه لا يستطيع السير . دعاه يستريح . نحن نعتني به .
قالا : لدينا سيارة !
انطلقت السيارةُ به، مبتعدةً عن منزل الورد .
في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلى غير رجعةٍ .
*
قلقي عليه ظلّ يلازمني .
اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين . ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون .
سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي .
ثم اتصلتُ ثانيةً . قلت له إن سركون في المستشفى .
طمْأنني فاضل عليه .
لكني لم أطمَئِنّ .
*
هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفى البرليني، ليجده ميتاً ...
( التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن ... )
*
ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد ...
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً .
لكن الأمر، واضحٌ، لديّ .
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق .
بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن .
لم يكن لديه ذلك النزق ( الضروريّ أحياناً ) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة .
سركون بولص لم يقتحم الساحة . لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ .
كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء .
لم يكن ليباهي بثقافته ، وإن حُقّتْ له المباهاة .
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ .
سركون بولص يكره الإدّعاء !
*
وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ ...
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ .
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ ...
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر !
وقف ضدّ الإحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً .
وقفَ ضد الإحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الإحتلال .
سُــمُوُّ موقفِه
هو من سُــمُوّ قصيدته .
*
لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص . مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً . إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلى النصّ الـمُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ :
رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة ...
مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ . مجدُ النصّ المتّصل .
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة ، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة .
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى ...
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا ...
*
قصيدتُه عن " السيد الأميركيّ " نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ !
*
سركون بولص ...
شاعر العراق الوحيد !



لندن 22.10.2007

+

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved