الزهاوي و(المكان والزمان) – 6 –

2021-12-01

ويقودُكَ الزهاوِيُّ في المُجْمَلِ ممّا رآهُ  - شئتَ أم أبيتَ - الى قصةِ المكانِ والزمانِ فيقولُ :  أمّا الأبعادُ عندي فهي بعدان لا غير،  بعدُ المكانِ الذي يلبسُهُ الجسمُ ويخلعُهُ ليلبسَ غيرَه على التمادي حين يكون مُتحرِّكًا، وبعدُ الزمانِ وهو السكونُ الذي يتخلَّلُ حركةَ الجسمِ ثابتًا كخطِّ الحديدِ الذي يجعلُ المراقبَ يظنُّ أنَّه يُسرِعُ حين يمرُّ عليه القطارُ، وهو في الحقيقة يكون بمعيةِ المكانِ لا ينفصلُ عنه في جميع الأحوالِ، اذ لا يُمكن أن توجَدَ المادَّةُ الواحدةُ في نقطتينِ منه .

 

واسْتِنادًا إلى ما تقدَّمَ يقول لك فإني لا أُقِرُّ أنِشْتايْن في تعريف الأبعادِ على أنَّها أربعة .  فالأبعادُ الثلاثةُ التي أخذها في الاعتبارِ من طولٍ وعرضٍ وعُمقٍ إنَّما هي امْتِداداتُ المكانِ وليست أبعادًا قائمةً بذاتِها .

 

 هنا تجدُرُ الْإشارةُ الى أنَّ أنِشْتايْن في النظرية النسبية الخاصة (The special theory of relativity) اقترح مفهومَ   الزَّمَكان spacetime)  ( كنموذجٍ رياضيٍّ (Mathematical Model)  يربط بين المكانِ بأبعادِهِ الثلاثةِ والزمانِ كبعدٍ رابع .

 

  والذي أراهُ أنْ ليس هناك من فرقٍ بين ما يقوله الزهاوي وذاك الذي يقوله أنِشْتايْن، وربما وقع الزهاويُّ في إيهامِ الكلماتِ، فأنِشْتايْن لم يقلْ أنَّ الابعادَ المكانيةَ منفصلةٌ عن الجسمِ او الكتلةِ، فوجودُ ايِّ كتلةٍ في الفضاءِ تخلقُ تحدُّبًا فيه، بناءً على هذه الابعادِ الثلاثة . والتحدُّبُ يتناسبُ طردِيّاً مع الكتلةِ، وهو لا يختلفُ عن اعتبارِ الزهاوي أنَّ هذه الابعادَ هي امتداداتُ الكتلةِ في المكانِ الذي تحِلُّ فيه .

هنا يجدرُ بنا ان نُشيرَ الى أنَّ استعمالَ ثلاثةِ ابعادٍ مكانيةٍ أساسُهُ ما نُحِسُّهُ ونلمسُهُ في الواقع اليومي، ولكن لا يُستبعَدُ ان تكونَ هناك ابعادٌ اكثر لتركيبةِ النسيج الكوني، كما يُنَظِّرُ بعضُ الفيزيائيين الآن، في وجودِ مثل هذه الأبعاد، وإنْ لم تُرَ ظاهرةً للعيانِ كالأبعادِ الثلاثةِ المألوفة . 

 ثم يقول الزهاوي أنَّه منذ (30) سنةً قد قال بوحدة القوى، وان جميع القوى تتولدُ من الاثير او الفضاء الذي هو أُمُّ الاثير .  وهنا اقول ان الزهاوي أنهى مخطوطتَهُ "المُجْمَل مما أرى" عام 1923، ولذا أسْتَنْتِجُ أنَّ الرجلَ كان يقول "بوحدة القوى" منذ 1893 وهذا يُحسَبُ له كمصطلح، إذ أنَّ أنِشْتايْن بدأ بنظرية المجالِ المُوَحَّد(Unified Field Theory)   في عام 1920 كمحاولة لوصفِ القوى الرئيسية في الكون بعلاقاتٍ رياضيةٍ موحدة، ولم تكن في ذلك الوقت كلُّ القوى معروفةً عدا قوتين هما القوةُ الكهرومغناطيسية وقوةُ الجاذبيةِ، بالاضافة الى ذلك لم يكن معروفًا غير البروتون والالكترون كجسيماتٍ أولية .


بقي أنْ نؤَكِّدَ أنَّ قولَ الزهاوي ان جميعَ القوى تتولَّدُ من الأثيرِ فيه خلطٌ ، كما قلنا في مقالات سابقة، ولا نريد التكرارَ بالاضافة الى أنه لم يقل ماهي القوى واكتفى بكلامٍ اقرب إلى فلسفةِ القدماءِ منه إلى لغةِ العلمِ الحديثة على أنَّ المادةَ هي القوةُ مركبةً، والقوةَ هي الاثيرُ مركباً تركُّبًا اخف، والاثيرَهو المكانُ الممتدُّ، والمكانَ هو الزمانُ المستمر .

 بعد ذلك يقول كان القدماءُ يزعُمون أنَّ الزمانَ غيرُ مُستقِرِّ الذات ظانّينَ أنَّه هو الذي يجري علينا من المستقبل إلى الماضي مع أنَّ الحقيقةَ نحن سائرون من الماضي إلى المستقبل، وهذا مقبول .

 

وعن وجود المكان يقول إنه مؤمنٌ بأنَّ المكانَ موجودٌ، ويعارض من يقول أنهُ غيرُ موجودٍ او معدوم .  لا بد لي من الإشارة إلى أن غالبَ الفلسفات القديمة تؤمن بأن المكانَ والزمانَ موجودان، إلاّ أنَّ بعضَها يقول بعدم وحودِهما بصورةٍ مستقلةٍ عن بعضِهِما، ولربَّما قصدَ الزهاوي الفلاسفةَ المثاليين في اعتبارهم أن الزمان والمكان ليسا إلّا وهمٌ، ولا وجودَ لهما إلّا بعقولنا .


ثم يمضي قائلًا إن المكانَ موجودٌ لأننا وإن كنا لا نحسهُ بمشاعرِنا لكنه يُقاسُ، فالمسافةُ بين الأرض والشمس هي  أقلُّ من تلك التي بين الأرض والشعرى اليمانية كمثال . فاذا لم يكن للجسم امتدادٌ ذاتيٌّ فإنه  يلبسُه من المكانِ الذي يحِلُّ فيه ولا يمكن أن يكون هناك امتدادان لكل من الحسم والمكان في آنٍ واحد . أما الزمانَ فهو امتدادٌ مستقِرٌّ، وهو السكونُ يتخلَّلُ الحركاتِ، ولما كان كلُّ جسمٍ وجوهر وألِكرتون متحركًا، فكلٌّ من هذه ذو حصَّةٍ من الزمان . أني أُصِرُّ على أنَّ الزمانَ سكونٌ، ولا حركةَ الا يتخلَّلُها السكونُ سواء كانت بطيئةً او سريعة، غيرَ أن السريعةَ  تكون أقلَّ سكونًاًمن البطيئة .  إنَّ السكونَ هو خاصِّيَّةٌ للمكانِ وهو الذي يقاوم الحركةَ فيؤدّي بالمادةِ المتحركةِ إلى توقُّفاتٍأاثناءَ الحركةِ سواء كانت طويلةً أو قصيرةً تبعاً لما للحركةِ من شدَّةٍ او ضَعْفٍ، يقول لك الزهاوي .

 

 ثم يضرب لك مثالًا أن الجسمَ إذا تحرك في مسافةٍ طولها 60 متراً وفرضنا أنه يقطع متراً واحداً في كل ثانية، فيكون هذا الجسم قاطعاً هذه المسافة في دقيقة . وأن السببَ في قطعه هذه المسافة بدقيقةٍ هو حركةُ ذلك الجسمِ لاغير . فاذا ما ضاعفنا سرعتَه فجعلناهُ يتحركُ مترين في كل ثانية، فإنه سيقطعها في 30 ثانية، وهذا مقبولٌ فان الحركةَ التي تقطع مسافة 60 متراً في ستينَ ثانيةٍ في الحالة الأُولى، تقطعها في نصف الزمان الأول أي 30 ثانية في الحالة الثانية، والسببُ في اختصارِ الزمنِ هو السرعةُ لا غيرها، وكان المفترض أن يقطع الجسمُ المسافةَ عينها في لا شيئ  من الزمنِ أذا زيدتْ سرعتُه ضعفاً آخرغير الذي زدناه أولاً فجعلناه يتحرك في كل ثانية ثلاثةَ امتارٍ، اذ لا فرقَ بين الضعفين فاذا كان الضعف المزيد أولاً قد أكسبنا 30 ثانية فلا مانعَ أنْ يُكْسِبَنا الضعفُ المزيدُ ثانياً مثله، وهو ما يوجب كما اسلفنا أن يقطع الجسم المسافة من غير زمان، والمشاهد خلاف ذلك فانه بقطعها حسب السرعة الأخيرة في 20 ثانية لا أكثر.  ذلك لأن الحركة مهما اشتدت فلا تخلو من السكنات التي تتخلَّلُها وإذ قد شاهدنا أن الزمان يقل بالسرعة ويكثر بالبطء، فالزمان هو السكونُ والسكونُ هو الزمان .

 بقيَ أنْ أخْتِمَ هذه الحلقةَ، بأني كما قلت في الحلقاتِ السابقةِ، لا أبتغي إلاّ أن أُلْقِيَ الضوءَ على هذه الشخصيةِ العراقيةِ الفريدةِ، فَحَسْبُ الرجلِ دون دراسةٍ اكاديميةٍ، نَظَّرَ في مواضيعَ حساسةٍ ربما تطلبت فرقَ بحثٍ لتغطيتها، معتمداً على فكرهِ الثاقبِ، واطِّلاعِهِ في زمنٍ يصعُبُ على دوائرَ مختصةٍ الحصولُ على المعلومةِ بالسرعة المطلوبة، إنْ لم نقلْ أنَّ بعضَ المفاهيمِ كانت في بدايتها . ولاتقولَنَّ لي بعد ذلك أنّ الزمانَ والكتلةَ، بأبعادِها المكانيةِ، يتغيَّرانِ بتغيُّرِ السرعة، إذا كانت السرعة فائقة جدّاً أو تقرُبُ من سرعةِ الضوءِ، فإني أعرف ما جاءت به النسبية حين تعرَّضَتْ لذلك، ولا أريد أن أصَدِّعَ رأسَكَ ـ سَلِمَ رأسُكَ ـ  بمعادلاتِها، لكني حاولت ببساطةٍ أنْ أُميطَ الِّلثامَ عن الجانب العلميِّ والفلسفيِّ لهذا الشاعر، على تعدُّدِ نشاطاتِهِ المعروفةِ في الثقافةِ والسياسةِ والاجتماعِ طيلةَ حياتِه، فتحيةَ إكْبارٍ لك أيها الزاهي الزهاوي .

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved