انا وجَدّي وغطاءُ العجلةِ المفقود

2022-01-16

في بدايةِ عامِ 2015، كنتُ قد أنْهيتُ يومَ عملٍ مُتْعِبٍ، وغادرتُ مُيمِّماً وجهي شطرَ بيتي في إحدى ضواحي بوستن في ولاية ماستشوستس الأمريكية .  كان الوقتُ ليلاً وكانت السماءُ تجودُ بمطرٍ لم أعهدْ له مثيلاً من قبلُ في هذه المدينة، وخِلْتُ أنها تنوي إفراغَ كلِّ ما فيها من غيومٍ فلن تَمْطُرَ بعدُ أبداً .

 وأنا أقودُ سَيّارتي، كانت تحتلُّني أشياء كثيرة، وتتزاحمُ في مُخيِّلتي صورٌ لا رابطَ بينها . فَجْأةً ولا أدري مالذي جعلني أذكر جَدّي في ذلك الوقت . نعم تذكرتُ جَدّي الذي سُمّيتُ باسْمهِ في ديارِ سامٍ عمِّهم، منذ حَطَطْتُ رِحالي عندهم . فهم يستعملون اسْمَ الجَدِّ او كما يُسمّونه اسم العائلة، أو الْإسمَ الاخيرَ في مخاطباتهم والمعاملات .

 كذا فاسْمي لم يعُدْ اسْمي، كما كنت أُنادى، حتى كدْتُ لا اذكرُ اسمي إلاّ اذا كان هناك ما يوجِبُ، وبلغ الأمرُ أنّي كنت إذا سمعتُ منادياً يناديني باسْميَ الأول، أحسَبُه قريباً انْشقَّتْ عنه الارضُ، أو صديقاً قديماً يعرفني، أو أنّه مسؤولٌ يعرف اسْمي كاملاً ويريد ان يُحبِّب اليّ نفسَه او يتقرَّب ! وها أنَذا اسمي هو اسمُ جَدّي رضيتُ أم أبيْت .

كنت، وأنا أشُقُّ طريقي الى البيت، أكلِّم النفسَ : أنا هنا تفصِلُني عن مواطن طفولتي اۤلافُ الأميال، لكني أتذكر كيف كنت مُشاكساً كأيِّ طفلٍ في سِنيِّهِ الاولى، بَيْدَ أنَّ أقصى مشاكسةٍ لي مع جَدّي رحمَهُ اللهُ، أني عبثتُ بأصابعِه مستعملاً يَدَيَّ الغضَّتيْن، حين أتى ذاتَ مرةٍ يزورنا قادمًا من بغدادَ، وأنا في غاية الاطْمئْنان ألاّ ألقى منه أذىً جراء ذلك العبثِ البريء، فلقد كان يحبني كثيراً، فأنا حفيدُه الاولُ حيّاً آنذاك !

 كنت أسترجع ذلك وأنا اقودُ السيارةَ مُسْتمتِعاً وأضحك مع نفسي، وبينما كنت كذلك وعلى حين غِرَّةٍ، انْقطعت أفكاري إذِ ارْتطمَتْ سيارتي برصيفٍ وسطَ الطريق، خِلْتُ أنَّ عجلةَ السيارةِ قد تمزقت لشدة الارتطام . عجباً لم يحصل الَّذي توقعت أنْ يحصل ! واصلتُ السياقةَ وأنا أحدِّثُ نفسي، أني كنت أعيش فكراً براءةَ الطفولةِ مع جَدّيَ الطيِّبِ وإن عفا عليها الزَّمنُ، ولذا لم يحصلْ شيْء، فسَلِمَتْ وسَلِمْت .

 توقفتُ بعد مسافةٍ قصيرةٍ لكي أتفحَّصَ السيارة . لم يكن في السيارة أذى إلاّ أنَّ غطاءَ العجلةِ التي ارْتطمت بالرصيف قد فُقِد . وبدلًا من أن أُواصلَ السياقةَ إلى البيتِ، قرَّرتُ أنْ أعودَ القَهْقَرى، علّيَّ أن أجدُ الغطاء . كنت أعرف أنَّ فرصةَ العثور عليه من الصعوبة بمكان، أما أن يكون سليماً معافى، فذلك ضربٌ من ضُروب الخيال . كيف لا والطريقُ يزدحم بكَمٍّ هائلٍ من السيارات التي تمرُّ بسرعةٍ مذهلةٍ في ظلامٍ دامسٍ ويومٍ ممطرٍ كهذا .

 حين وجدت أثر الارتطامِ ليس ذا بال، قلت في نفسي إنما هي شهادةُ صلاحٍ لجَدّي، بل ذهبت أبعدَ من ذلك فقلت، إن كان جَدّي كما يقول عنه الاخرون، وكما في مآثرهِ كتبوا، فسأجدُ الغطاءَ صالحاً، وكانت محضَ تهويمات .

 أوقفتُ السيارةَ في مكانٍ آمِنٍ يقعُ على جانبِ الطريق، ثم أخذت أمشي تحت ذلك المطرِ الشديدِ اُحوِّلُ عينيَّ من مكانٍ الى آخرَ جيئةً وذهاباً، ولم أفلحْ إلّا بعد حين، إذ وجدتُ الغطاءَ وقد قُذِفَ بقدرةِ قادرٍ الى الرَّصيفِ سليماً مُعافى كما ولدته أمُّه اليابانيَّةُ مستقراً على بقعةٍ مُغطّاةٍ بالحشيش الأخضر، فقلت حقًّا إنَّه جَدّي كان صالحاً، وكان حقًّا ما رُويَ عنه من حِلم ودماثةِ خُلْقٍ، ولذلك ذكره بالخير الذاكرون .

 رحمك الله يا جَدّي، واسْمح لمن لا تعرفُهم ولايعرفوك، أن يمنحوني اسْمك، فإنْ بلغتُ معشارَ ما كنتَ تحملُ من فطرةٍ نقيَّةٍ ونفسٍ سويَّةٍ، كنتُ من الفائزين، وعساني أن أكون (لافي)، لا في شيْءٍ واحدٍ بل في كل شيْءٍ، وإنْ فقدنا البساطةَ ولوَّثتْنا صروفُ الدهرِ وقهرتْنا نوائبُه .

 مُتعَبون يا جَدّي ونحن نرى الذئابَ وقد كَشَرَت عن أنيابها، والدَّمُ الأحمرُ يَتَرَقْرَقُ بينها . مذهولون ونحن نرى كيف أنَّ الأغرابَ هتكوا عذريَّةَ مُدُنِنا وسرقوا البراءةَ والابتسامة من وجوه اطفالنا . سرقوا يا جَدّي أموالَنا، وهجَّروا أهلينا، وعاثوا في الارض الفسادَ، فقل معي : (قاتلهم الله أنّى يُؤْفَكون) .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved