هي المدينة التي روضت الطين منذ العصور الغابرة وجعلت منه لغة شعرية أو لوحة تشكيلية تمتزج فيها الألوان بتناسق بديع، كما أفلحت في تحدي أمواج البحار فاشتهر فيها الربابنة والرياس الكبار حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين ..
تقع مدينة آسفي على المحيط الأطلسي بين مدينتي الجديدة والصويرة وتبعد عن مدينة الدارالبيضاء بحوالي 200 كلم، وعن مدينة مراكش بحوالي 160 كلم. وتعد من بين أعرق المدن المغربية التي تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق
حظيت أسفي منذ القديم بأهمية بالغة لذا فأن اسم المدينة ورد ضمن أمهات المعاجم التاريخية، كمعجم البلدان لياقوت الحموي، وكذلك ذكرها الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. ومن المهم القول أن أسفي شكلت وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية من تطوان وفاس والرباط وسلا، حتى أن ذ.أحمد بن جلون وصف أسفي بأنها مدينة دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، مثل غيوم بيرار الذي مثل فرنسا هنري الثالث لدى المولى عبد الملك وقنصل الدانمارك جورج هورست وجون موكي صيدلاني الملك هنري الرابع، كما كان المبعوثون البريطانيون يفدون بأسفي قبل التوجه إلى مراكش حيث نزل بالمدينة البحار الإنجليزي هاريسن لتسليم رسالة من ملك إنجلترا تشارلز الأول إلى مولاي عبد الله.وهكذا تحولت أسفي إلى ميناء دبلوماسي ترسو به السفن الأوربية التي ترغب في ابرام الاتفاقيات الدولية بالعاصمة مراكش.
.
وكلمة آسفي أو "أسف"، البربرية تعني النهر أو منارة الضوء، وتجمع هذه المدينة بين الأصالة والمعاصرة، فالى جانب معالمها التاريخية التي تشهد على تاريخٍ عريق يعود الى العهد الفينيقي والى القرن الحادي عشر ميلادي، القرن الذي بدأت تذكر فيه مدينة آسفي في الكتابات العربية، نجد بها عددا كبيرا من معامل تصبير السمك ومن ورشات تصنيع الخزف اللذين يمثلان عصبها الاقتصادي.
أول ما يشد انتباه الزائر لمدينة آسفي هو مآثرها التاريخية التي توجد بالمدينة القديمة ومشارف البحر وبضواحيها، والتي يعود أغلبها الى الاستعمار البرتغالي. فقصر البحر الذي يوجد في مواجهة المحيط الأطلسي الذي يطل على البحر وعلى ميناء الصيد البحري أسس من طرف البرتغال في القرن 16 من أجل حماية المدخل الشمالي للميناء ومقر اقامة عامل المدينة، وهو ما يفسر وجود العديد من المدافع الحربية به وعلى أبراجه. وقد أعيد ترميم هذا القصر في عام .1963 وقلعة "القشلة" التي تطل على المدينة القديمة وقصر البحر أسست من طرف البرتغال من أجل حماية المدينة.
أما المدينة القديمة، التي تعود الى العهد القديم، فإنها تتميز بأزقتها الضيقة وتزخر بالصناعات التقليدية وبالخصوص صناعة الخزف، إنها مدينة ساحرة وغامضة جعلت العديد من الفنانين والسياسيين والرسامين يتخذونها مستقرا لهم ليستمتعوا بسوقها وبحركتها الدؤوبة التي لا تخمد إلا بشكل متأخر في المساء
ومن بين المآثر المهمة والتي تزخر بها مدينة آسفي هناك المتحف الوطني للخزف الذي أسس عام 1990 ويضم مجموعة من القطع الخزفية المهمة التقليدية والحديثة والتي تتميز بأشكالها الهندسية المتميزة وبألوانها المتناسقة. وصومعة الجامع الكبير التي تعود الى العهد الموحدي، وطاجين المدينة الكبير الذي يوجد في قلب المدينة والذي مكن جمعية الفاعلين الاقتصاديين بمدينة آسفي من دخول كتاب الأرقام القياسية "جينيس" في 10 يوليو من عام 1999 من خلال انجاز أكبر طاجين لكويرات سمك السردين الذي ساهمت في اعداده 200 امرأة، وقدم للمحتاجين صحبة 3 أطنان من السردين المشوي.
ومن أهم القطاعات بآسفي، قطاع الصيد البحري فهو قطاع حيوي بالنسبة لسكان آسفي لأنه يقدم العمل لما يناهز 21 ألف بحار. ويرجع الفضل في تطوير هذا القطاع وبالخصوص صيد السردين للرايس الحاج محمد عابد الذي عمل على استقدام أحدث التقنيات في صيده. وعلى الرغم من أن صناعة تصبير السمك قديمة جدا في المنطقة وتعود الى عام 1930 فإنها لم تعرف تطورا مهما إلا في عام 1990 حيث أنشأت العديد من شركات تصبير السمك التي وصل عددها الآن الى 28 شركة. وهي تقوم بتصدير السمك المغربي المصبر الى أوروبا والى آسيا وغيرها من الدول العربية.
وتعتبر الصناعة التقليدية أحدى القطاعات الحيوية التي تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، حيث يمثل الخزف أهم الحرف التقليدية بالمدينة وتراثا ثقافيا وسياحيا لها، يشغل حوالي 2000 شخص بشكل مستمر وعددا كبيرا من العمال الموسميين.
وتتمركز صناعة الخزف في حي الشعبة الذي أسس من أجل احتضان العدد المتزايد من حرفيي الخزف، حيث يوجد بها حوالي 100 خزفي يمارسون عملهم في 74 ورشة مجهزة بـ130 فرنا تقليديا. ثم هضبة الخزف وهي أقدم حي في المدينة يعمل فيه أكثر من 800 حرفي في 37 ورشة مجهزة بـ70 فرنا تقليديا.
وبالاضافة الى هذين الحيين توجد بالقرب من آسفي قرية نموذجية لصناعة الخزف هي قرية سيدي عبد الرحمان التي تتوفر على 30 ورشة موزعة على القرية.
وتتكون المادة الأولية للخزف من الطين والماء وبعض المواد الكيمياوية والخشب الذي يتفنن الحرفيون في توليفها واعطائها أشكالا هندسية رائعة، وهو ما جعل خزف آسفي يحتل مكانة عالمية، وجعل آسفي تعتبر مدينة الخزف بامتياز في المغرب.
وعبر التاريخ كانت أسفي من أهم الموانئ المغربية، مما جعلها تشهد رحلات علمية شهيرة (راع 69-70-الطوف74). وقديما اتخذها المرابطون مركزا لتجميع قوافل الذهب الأفريقي الذي ينقل عبر السفن إلى الأندلس لسك النقود، وبالتالي أصبحت أسفي مرسى الإمبراطورية المرابطية.والبرتغاليون جعلوها ميناء رئيسيا لتصدير الحبوب والسكر والصوف. ومع توافد جالية إنجليزية كبيرة على المدينة، أقام بها الإنجليز مركزا تجاريا ثم أنشؤوا في القرن19 مخزنا لتجميع كل ما يصدر من أسفي إلى إنجلترا، غير أن معاول الهدم طالتهما ليتم تحويل مكانهما إلى ساحة مولاي يوسف.
وعن أهمية أسفي لابد من الإشارة إلى المحطة البارزة التي ظهرت فيها دبلوماسية السكر على حد تعبير المؤرخين الأوربيين، حيث كان السكر القادم من شيشاوة في مقدمة المواد التي تسوقها المدينة لانجلترا، لأن المملكة لم تكن تقبل في مطبخها - على ما يقوله هنري روبيرتس - الا السكر المغربي، ثم إن أسفي كانت منطلقا لملح البارود المغربي الذي لم يكن يوازيه أي ملح في العالم والذي كان الدفاع الحربي الإنجليزي يعتمده، فضلا عن كون المدينة كانت تزود أوروبا بأجود الصقور المغربية التي ساهمت في تطوير هواية القنص بالصقر، وكذلك تصدر اسفي الشمع حيث كان المستهلكون يقبلون عليه لقوة نوره وصفائه وللرائحة التي يستنشقونها عند احتراقه وكأنه مزج بمادة العطر ..
ومع الدولة العلوية حضي بعض أبناء أسفي بمكانة رفيعة، حيث ضم المخزن الإسماعيلي سنة 1721هيئة من القواد، يرأسهم أحمد بن حدو العطار وهو من أكبر حجاب المولى إسماعيل، بعث به السلطان سفيرا إلى إنجلترا، كما منحته الحكومة الإنجليزية وساما بعد أن تكلف بعقد اتفاق للسلام والتجارة سنة 1682م.
وازداد اهتمام السلاطين بأسفي فأقاموا بها دارا للسكة ما بين سنة 1716 و1830م، حيث يوجد حاليا ضريح سيدي بوذهب حسب ما أورده الكانوني الذي يقول:" دار السكة كانت تعالج الذهب والفضة فكانت تعرف بدار الذهب ".
ولعل أهم حدث عرفته أسفي على الإطلاق، هو وصول القائد الإسلامي عقبة بن نافع سنة681 م بعد أن ترك صاحبه شاكر لتعليم البربر اللغة العربية والتعاليم الإسلامية، هذا التابعي له رباط مشهور يعرف إلى اليوم برباط سيدي شيكر، وهو من أقدم الرباطات بالمغرب، كان يحضره العلماء ويقام به موسم سنوي حضره بن الزيات وسجل أخباره.
واذا كانت بعض المدن معروفة بما يوجد بها من كبار الصالحين، فكذلك الشأن بأسفي التي صارت مقرونة بذكر الولي الصالح أبي محمد صالح مؤسس ركب الحاج المغربي لأول مرة بالمغرب حيث أنشأ رباطه الشهير بأسفي، والواقع أن صيت رباط الشيخ أبي محمد صالح، وزواياه، حتى أن ملوك الدولة السعدية والعلوية كانوا يصدرون ظهائر التوقير والاحترام للشيخ ورباطه، بل ان أبناء عبد المومن عندما كانوا يضربون السكة يبعثون بالمسكوكات الأولى إلى رباط الشيخ أبي محمد صالح الذي بلغ اشعاعه بعد وفاته أكثر من ثلاثة قرون. وقد أورد البادسي في كتابه "المقصد الشريف والمنزع اللطيف "أنه "عندما رحل الشيخ عبد الملك الوجانسي نزيل سبته إلى الديار المصرية، أراد أن يأخذ على شيوخها، فقال له ذلك الشيخ: انما شيخك أبي محمد صالح بأسفي، وهو يروي كيفية دخوله على أبي محمد صالح وكيف بادره بالقول: يا عبد الملك، ما جئت حتى وجهت".
ولم يكن رباط الشيخ رباطا للمجاهدة فقط، بل كان ملتقى لأهل العلم وطلابه، حتى بلغت سمعة أسفي كل الافاق، فقصدها العلماء من كل حدب وصوب، وعلى رأسهم لسان الدين بن الخطيب وابن قنفد وغيرهم كثير.
والإمام البوصيري صاحب البردة والهمزيتين اللتين يحفظهما المغاربة، وهو من أصل مغربي، كان له حب في الشيخ، عبر عنه في قصيدة مشهورة مطلعها:
قفا على الجرعاء في الجانب الغربي
ففيها حبيب لي يهيم به قلبي
وبالرجوع لتاريخ أسفي الحافل بالبطولات، تستوقفنا مقاومة أهالي أسفي للغزاة البرتغاليين، وهو ما يفسر وجود أضرحة كثيرة على طول ساحل المدينة، تضم رفات العديد من المجاهدين، نذكر من بينهم المجاهد أبو محمد بن عبد الله بن ساسي وسيدي بوشتى الركراكي والشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الذي اختار الإقامة باسفي ليقود الجهاد ولايزال رباطه موجودا بأسفي قرب قصر البحر والفقيه عبد الكريم الرجراجي وبن الحسن علي بن أحمد بن حسن بنكرارة الرجراجي والمجاهد مول البركي وأخوه عزوز وسيدي الغازي وسيدي واصل..
وفي فترة الاستعمار الفرنسي، كانت أسفي سباقة إلى إعلان شرارة المقاومة، بعد أن امتدت أيادي المستعمر إلى رمز الأمة، حيث شهدت المدينة العديد من المنظمات المسلحة، نذكر منها منظمة الأحرار بمبادرة من عبد الله الناصري ومنظمة أسود التحرير بزعامة الطيب التقراشي ومنظمة المقاومة والتحرير برئاسة عبد الرحمان الكتاني ومنظمة المقاومة السرية بقيادة محمد بن هدى الرضاوي ومنظمة اليد المباركة وقائدها فايضي الحبيب.ولا غرابة في ذلك حيث يرقد بمقبرة أسفي ثلاثة من الموقعين على وثيقة الاستقلال وهم:الفقيه عبد السلام المستاري ومحمد البعمراني ومحمد بلخضير.
ونظرا لأهمية أسفي فقد ذكرها الكتاب والرحالة الأجانب في كتاباتهم، فهذا الطبيب الإنجليزي ارثر ليرد يقول" أسفي مدينة عريقة في القدم، وهي عاصمة عبدة..ولا تزال بها آثار قصور ومعاقل البرتغال.."أما الكاتبة فرنسيس مكنب والتي زارت أسفي سنة 1902م فقد خلدتها بكلام جميل.
"كانت أسفي في القرن ما قبل الماضي 19 مركزا تجاريا مهما تشرف عليه شركة دنمركية، وكان البرتغاليون من قبل يشجعون التجارة فيها وبلغت شهرتها في القرن 17 درجة عظيمة صدر معها الأمر إلى كل سفينة بريطانية تزور المغرب أن تبدأ بزيارة أسفي"، وتوالت الكتابات مع الرحالة الفرنسي أوبان أوجين وايتيان ريسيت فضلا عن أرمان أنطونا الذي استقر باسفي وكتب عن تاريخها وعاداتها كتابا أسماه "منطقة عبدة" ثم جاء الكاتب الإنجليزي سكون أوكنور وتحدث عن المدينة وهي تحت الحماية الفرنسية.
ومع الحماية الفرنسية ظهرت إلى الوجود دار فرنسية للنشر بمدينة البيضاء، أصدرت مجلة أطلق عليها اسم "مغربنا" يديرها بول بوري، خصصت أحد أعدادها لمدينة أسفي سنة 1949، ثم عادت لإصدار عدد ثان عن أسفي سنة 1953، وهو ما يؤكد بما لايدع مجالا للشك، مكانة أسفي عبر التاريخ.