المحرر
الموسيقى هي الإيقاع الذي تقف عليه الحياة . كل مخلوق يتميز بصوت شجي يحمل إيقاعاً خاصاً به . لذلك كان بحث الإنسان عن آلات صناعية يمكن لها أن توحد هذه الأصوات التي تغتني بها الطبيعة لتقديم هذا السجل المموسق حتى يكون في متناول الإنسان في أي وقت شاء، وأي مكان يتواجد فيه . فالموسيقى تلعب دوراً كبيراً في تغيير مشاعر الإنسان سلباً أو إيجاباً، لذلك نرى الإنسان يعتمد على ألوان معينة من الموسيقى لأوقات محددة، أو لمشاعر معينة قد تجتاحه .
تتمتع الموسيقى بمنزلة مرموقة في مختلف مناسبات الناس، ولدى مختلف الشرائح . الموسيقى هي أنيسة السائق في سفره الطويل، وأنيسة الشخص الوحيد في دجى الليل، رفيقة العاشق، صاحبة الراعي، وهي سيدة حفلات الأعراس، كما هي سيدة مآتم العزاء، سيدة الإنتصارات الكبرى في الحروب، وسيدة الهزائم الكبرى فيها .
ثمة موسيقى تهدئ الأعصاب وتعين على النوم، وثمة موسيقى تشد العزائم، وتنشط اليقظة والأعصاب . إنها موجودة لدى فئات الناس كافة، وفي معظم الأوقات، كما أن الإنسان المعاصر بات يعتمد على الموسيقى من خلال جرس الباب ورنين الهاتف ومنبه السيارة .
ولقد اكتشف العربي في البيئة الصحراوية أن الغناء يبدد وحشة الليل، واكتشف في أسفاره أن الجمال التي هي "سفن الصحراء" أيضاً تطرب إلى الحداء، وكأن الخلاء والتأمل في النجوم يجعلانها تربط بين نظام إيقاعي تحسّه من حولها .
وكان لا بد للحداء أن يتألف من إيقاعات وكلمات بسيطة تقترن بالحركة . من هنا، ولد عروض الشعر الذي ينبني على الموسيقى، ومن هنا أيضاً ظهر سحر "الخبب"، والخبب مشية للجواد تقوم على ضربتين، يضع فيها الجواد زوج القوائم القطرية على الأرض في وقت واحد، وبعد لحظة من التوقف يقفز على القوائم القطرية الأخرى .
يُعتبر بحر الخببُ أشهرَ الأوزان العربية المستدركة على إيقاعات الشعر العربي وأعذبها، وذلك على الرغم من خروجِه عليها، وشذوذِه عن جميع قوانينها، حيث استقبله الكثير من الشعراء، قدماءَ ومحدثين، بالرضى والقبول، وجذبهم إيقاعُه الجميل، فكتبوا عليه أرقَّ القصائد وأجملها .
لبحر الخبب إيقاع راقص، في حركته خفة وسرعة يدل عليها اسمه، الذي أطلق عليه تشبيهًا له بجري الخيل. وقد أشار أبو الحسن العروضي (342 هـ) إلى عذوبته في السمع، وصحّته في الذوق، وأن "الشعراء قد أكثرت من ركوب هذا الوزن".
كما ازداد اهتمامُ المحْدَثين بهذا البحر حتى أصبح "من أكثر الأوزان انتشاراً في الشعر الجديد" وفيه يقول المعرّي "وقد تأمّلت عدو الخيل، فوجدت هذا الوزن يشابه التقْريب الأعلى والتقريب الأدنى، على حسب عجلة المنشد وتراسله، وهما تقريبان: أحدهما الثعلبية، والآخر هو الذي يسمى الإرخاء، وكلاهما إذا سمعته أدى إلى سمعك هذا الوزن بعينه، وذلك أنّ الفَرَسَ يضربُ بحوافرِه الأرضَ ثلاث ضرباتٍ متوالياتٍ ثم يثب، فيكون ضرب الأرض موازياً لثلاثة أحرف متحركات، ويكون وثبه موازيا للسكون".
ولا يُعلم بالضبط أول من أطلق على هذا الوزن اسم "الخبب"، ولكن ربما كان ابن رشيق (456 هـ) أوّلَ عَروضيٍّ معروفٍ سجّل هذا الاسم، بقوله عن المتدارك، وهو الذي يُسمّيه الناس اليوم الخبب". وقد ورد هذا الاسم أيضاً لدى معاصره، الحصري القيرواني (488هـ،)، أشهر شعراء الخبب، بقوله من ذات القصيدة المشهورة :
ما أجود شعري في خَبَبٍ = = والشعر قليل جيدهُ
الذي يشبه إيقاع حوافر الخيل، وغيره من الإيقاعات التي تلائم الأجواء العربية . وتفعيلة بحر الخبب تأتي على النحو التالي :
فاعِلُن فاعلن فاعلن فاعلن = = فاعِلُن فاعلن فاعلن فاعلن
ومن الحركة ظهر الإيقاع العربي ومن ثم ظهر الطرب . والإيقاع والطرب كلمتان عربيتان بجدارة، فكل من الإيقاع والطرب حاستان عربيتان أصيلتان، فالكلام العربي جله قد تعتق في ماء السماع، وتخمر في رحيق مرويات الشفاه حتى عذب سلساله، وتدفقت أسراره، وخصب خياله، وأقر كثير من الباحثين والمفكرين بأن اللغة العربية مغرقة في القدم، ومن ثم فهي لغة موسيقية وشعرية وإيقاعية في المقام الأول، فقد توالت أنهار الإيقاعات والتنغيم والتلوين الصوتي على جسد هذه اللغة التي تنسكت في صمت الصحراء العربية حتى أحدتها كلمحة الشعاع، وأرهفتها كالتماعة الندى .
والشعر العربي نفسه مشتق من هذه اللغة الإيقاعية المموسقة فهو يحتقب في طيات تراكيبه، وخفي صوره، جينات السماع الموغلة في ظلالها الرفيفة، وإيحاءاتها الظليلة، وأفيائها التعبيرية المنهلة عليه من كل حدب وصوب، فهي لغة معتقة بسرائر النغم، ممزوجة بنوازع الشجن والنشوة والألم .
والحقيقة أن علاقة الموسيقى بالشعر العربي أعمق من صور الكلام الظاهرية، فالشعر يعود بنا إلى إيقاعنا الإنساني البدائي البكر، إيقاعنا الأول، هذا الإيقاع هو الشجرة الكونية الغامضة الملتبسة التي تعرّش في النفس والعالم والكون من حولنا، حيث تترسب طبقات الإيقاع البكر، والمعنى الغامض البعيد، طبقات جيولوجية بعضها فوق بعض، فتنساخ هذه العوالم الغامضة الدفينة في النفس والعالم معربة عن وعى سمعي بصري موضوعي ولا موضوعي في نفس الوقت .
وبذلك، تكون المهمة الشعرية الأصيلة كامنة في هذا الجدل الجهيد المنتج الذي يبذله الشعر في تكثيف وخلق علاقته بالموسيقى، أي بين إيقاع الدلالة، ودلالة الإيقاع لتأسيس هذا الارتباط الوجودي الأصيل بين الصوت والمغني والموسيقى والعالم، ومن ثم يتخلق هذا التحول الإنساني والروحي والفكري والشعري عندما تتفجر لغة الشعر عن نواوير الوجود والحياة مترعة بماء الموسيقى، ونماء المعنى، ونثار ورد الروح، وتحدر كوثر المعاني الخوافي .
ولأمر ما، يقولون موسيقى الشعر على سبيل تعالق الوجود بين المضاف والمضاف إليه، فالأصوات بخصائصها، وأنواعها، وأوصافها، وتعدد صور تأليفها وأشكال أدائها، هي جنس يشمل، فيما يشمل من الأنواع، فنّيْ الشعر والموسيقى .
وفى بعض المصادر ترد الإشارة إلى فن الموسيقى بعبارة "علم الألحان" و"صناعة الألحان" وعبارة "صناعة الإيقاع" وعبارة "تأليف اللحون". وقد عرفوا الموسيقى بأنها: "صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاتها وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية". وعرفوا الإيقاع بأنه: "هو نظم أزمنه الانتقال على النغم في أجناس وطرائق موزونة تربط أجزاء اللحن، ويتعين بها مواضع الضغط واللين، في مقاطع الأصوات" .
وقد أوضح أبو نصر الفارابي الفيلسوف والموسيقي العربي الشهير أنه "مارس فنون الغناء، فقد كان وهو صبي يضرب على العود ويغني. وعندما كبر، ترك الغناء إلا أنه لم يترك الموسيقى بل استمر على دراستها والضرب على الآلات الموسيقية المختلفة".
وروى ابن خلكان "أن الفارابي عزف في بلاط سيف الدولة ثلاثة الحان مختلفة فأضحك الحاضرين ثم أبكاهم ثم تركهم نيامًا" .
ويقول المستشرق الإِنكليزي هنري فارمر (1882-1965) عن الفارابي: "أتقن علم الموسيقى وكان عوادا رائعا أغرت شهرته الموسيقية سيف الدولة الأمير الحمداني بدعوته للإقامة في حلب، وقد كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غايتها وإتقانها بما لا مزيد عليه" .
ويضيف فارمر: "الموسيقى والشعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن والمناسبة بين الحركة والسكون. فكلاهما صناعة تنطق بالجناس الموزونة. والفرق بينهما واضح في أن الشعر يختص بترتيب الكلام في معانيها على نظم موزون، مع مراعاة قواعد النحو واللغة، وأما الموسيقى فهي تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتاً على نسب مؤتلفة بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم في أسلوبها بالتلحين" .
وعلى هذا علم العرب أن الموسيقى رفيقة الأفراح، ورفيقة الأحزان، رفيقة البهجة، ورفيقة العزلة القاتمة، رفيقة الكتابة، ورفيقة التأمل، وكذلك رفيقة المطبخ وسرير النوم.
وللآلات الموسيقية في البلاد العربية والإسلامية أصول تختلف عن أصول الموسيقى في البلاد الأخرى وخاصة في الدول الغربية، فقد تميزت الآلات وصارت رمزاً لها. هذه الآلات لم تظهر فقط في الشرق الأوسط، بل ظهرت في معظم البلاد الإسلامية في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا. وامتد تأثير الموسيقى والآلات الموسيقية الإسلامية إلى مناطق بعيدة مثل الصين وأوروبا لما لها من خصائص مميزة .
وللصوت البشري المصاحب للآلات الموسيقية أهمية الآلات الموسيقية، فبينما يتخذ الغناء أساليب مختلفة اختلاف الآلات الموسيقية نفسها، فأغاني التراث الشعبي تكاد تشبه المقطوعات الموسيقية القائمة بذاتها، وحين يظهر مطرب ما ليغني مع فرقته الموسيقية، نلمس أن المقدمة التي نسمعها أولاً هي بمثابة تمهيد لغناء المطرب نفسه. وفي أكثر الأحيان تقوم المقدمة الموسيقية بدور مساعدة المطرب على الاندماج في أغنيته، مما يجعل للصوت البشري قيمة أساسية في هذه الموسيقى، ونادراً ما توجد موسيقى بلا لحن، فهو جزء هام لأي فرع من الموسيقى، وفي معظم أنحاء العالم يعتبر اللحن عنصراً أساسياً في الموسيقى، حيث يقوم عليه الغناء بحيث تكون وظيفة الآلات الأولى هي تسليم اللحن للمغني لينطلق في الغناء ثم يأتي التزين (التجميل) في المقام الثاني.
وتعود علاقة المجتمعات العربية بالغناء إلى زمن بعيد. فقد كان الشعر يحتل منزلة كبرى في نفس العربي والشاعر بطبعه موسيقي يعتمد الإيقاع في نظم الشعر، وقد استخدم الشعراء آلة تسمى القضيب، وهى من عصا يضرب بها الأرض لضبط وزن البحر الشعري الذي سينظم عليه قصيدته، كما اهتم الشاعر أيضاً بالإلقاء الشعري، تماما كاهتمامه باختيار ألفاظ قصيدته، فكانت طريقة الإلقاء وجمالية الصوت يلعبان دورا أساسيا في شهرة القصيدة وصاحبها، لهذا وجدنا بعض الشعراء الذين لم تتوافر لهم سبل الإلقاء الجيد، يسندون مهمة إلقاء قصائدهم لغيرهم من الشعراء حتى وإن كانوا أقل مرتبة منهم، وكان من الشعراء من يجمع بين النظم الجيد والإلقاء الجيد، ويقال إن عدي بن ربيعة قد لقب بالمهلهل لحسن صوته، ويمكننا اعتبار هذا (بقليل من التجاوز) غناء وموسيقى ذلك العصر، ومن ثم ظهر سريعاً، الحداء والنصب .
وانتقل الغناء من الترنيم البسيط الخاضع لتصرف المغني وكفاءته التي تتوقف على نبرة صوته وترجيعه وانتقالاته، والمشاعر التي تجعل الصوت يخرج مستقيما أو مرتجفاً، فغنوا الحداء في حداء إبلهم، وخلواتهم، ورجعوا الأصوات وترنموا وكانوا يسمون الترنيم إذا كان بالشعر غناء. ولكن رغم هذا التطور على مستوى الفهم والتذوق، فإن الغناء العربي في ذلك العصر ظل في أغلبه إلى ما قبل الإسلام أسيراً لتأثير إيقاعية التفاعل العروضية. لكن مع مرور الوقت، سرعان ما بدأت تتشكل معالم غناء جديد يدعى الغناء المُتقن.
أما في الإسلام فالكثير من الأدلة تشير إلى أن العرب المسلمين لم يعرفوا (في دينهم) ما يمكن أن يسمى بـ "الموسيقى الدينية" التي تدخل عندهم في عداد الشعائر الإسلامية الرئيسية المقدسة، على غرار ما كانت عليه الموسيقى في المعبد المصري القديم، ففي العصر الأول الإسلامي لم تكن هناك حاجة ماسة إلى الموسيقى ولا إلى أي مؤثرات خارجية عما هيأته تقاليد الإسلام من أجواء للتعبد والخشوع تمثلت في قراءة القرآن، والأذان، والتهليل، والتكبير، والتلبية، ونحوها.
ظهر الإنشاد الديني في الحضارة العربية الإسلامية لتكون وظيفته تهذيبية أخلاقية تطهيريه ودعوية، وقد ارتبطت الموسيقى العربية عامة بالجانب الديني. ويذكر أن أول إنشاد في الحضارة الإسلامية كان عند هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حيث استقبله نساء وصبيان قبيلة بني النجار وهم ينشدون على الدفوف :
طلع البدر علينا = = من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا = = ما سعي لله ساع
أيها المبعوث فينا = = جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة = = مرحبا يا خير داع
فلبسنا ثوب عز = = بعد تلفيق الرقاع
فعليك الله صلى = = ما دعا لله داع
والإنشاد الديني هو الفن الغنائي الذي يتناول موضوعات لها سمت ديني كمدح الرسول صلى الله عليه وسلم أو الوحدانية والملكوت الأعلى وغيرها. وكان الذين يتصدون لهذا الفن من ذوي الأصوات الجميلة الجذابة.
وقد عرف الإسلام فن الإنشاد الديني والمديح مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك بالإنشاد الجماعي: "طلع البدر علينا" وارتبط حتى بالغزوات، ففي غزوة الخندق انشد عبد الله بن رواحة وردد وراءه المسلمون:
الله لولا أنت ما اهتدينا = = ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا = = وثبت الأقدام إن لاقينا
وفي مناسبات أخرى كالإنشاد أثناء بناء مسجد قباء قال المنشدون:
لئن قعدنا والرسول يعملُ = = فذاك منا العمل المضللُ
وفي العصر الأموي أخذ الغناء العربي والموسيقى في الوضوح والارتقاء. وفي العصر العباسي ازدهرت الموسيقى العربية والغناء بفضل كبار أعلامها: إبراهيم الموصلي، وإسحاق ابنه، وإبراهيم بن المهدي، وزلزل، وعُلية، وبفضل آلاتها الموسيقية الرئيسية: العود، والقانون، والناي .
وأقدم ما وصل إلينا من كتب الغناء العربي والموسيقي هو كتاب النغم، ألفه يونس الكاتب الملحن المغني الذي شهد أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وسبق أبا الفرج الأصبهاني في مضمار التأليف عن الغناء العربي بمئتي عام أو أكثر. ثم ألف يونس الكاتب أيضاً عن الغناء والمغنيات الجواري في عصره كتاباً سماه كتاب القيان. وقد أتم يونس تأليف كتابيه هذين قبل أكثر من ألف ومئتي سنة .
وجاء الخليل بن أحمد الفراهيدي (718-791م) بعد يونس الكاتب فكتب في الغناء والإيقاع كتاب النغم، وكتاب الإيقاع، إلى جانب مؤلفاته الفذة الرائدة في العروض الشعري واللغة.
ولم يبلغ رتبة الخليل بن أحمد في التأليف الموسيقى إلاّ إسحاق الموصلي الذي جاء بعد الخليل بفترة قصيرة واستطاع على حد تعبير المستشرق هنري فارمر في كتابه عن الموسيقي العربي: "أن يخضع النظريات المتطاحنة في ممارسة الفن لنظام واضح".
وجاء في كتاب الفهرست لابن النديم أن لإسحاق الموصلي أربعين كتاباً في الغناء والتلحين والإيقاع وتاريخ الغناء والمغنين، منها كتاب يسمى كتاب الأغاني الكبير وكتاب أخبار عزة الميلاء وأغاني معبد وأخبار حنين الحيري وأخبار طويس وأخبار سعيد بن مسجح وأخبار محمد بن عائشة وقيان الحجاز، وكتب عن الغريض وابن سريج وطويس فضلاً عن كتاب في الإيقاع وكتاب في الرقص. منها أخذ أبو الفرج الأصبهاني غير قليل من مادة كتابه العظيم كتاب الأغاني .
ويمكن اعتبار الموسيقار الفيلسوف الكندي المتوفى 874م معاصراً لإسحاق الموصلي وقد ساهم بقسط كبير من التأليف الموسيقي، فتحدث عن الأصوات وأبعادها وأجناس المقامات وأنواع الألحان وأثبت أن الغناء العربي فن قائم بذاته. وقد كان الكندي غزير التأليف الموسيقي .
ولا يعرف التاريخ العربي بعد إسحاق الموصلي والفيلسوف الكندي من كبار المؤلفين في الغناء والموسيقي إلاّ الأصبهاني أو الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني الذي ما زال منذ أكثر من ألف عام أشهر الكتب في هذا الفن على الإطلاق. وكما كان الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي معاصراً لإسحاق وندًا له في التأليف عن الغناء والموسيقى فكذلك كان الفيلسوف أبو نصر محمد الفارابي معاصراً لأبي الفرج الأصفهاني وندًا له في التأليف عن الغناء والموسيقي .
وكان المؤرخ الكبير أبو الحسن علي المسعودي صاحب تاريخ مروج الذهب الشهير معاصراً أيضاً لأبي الفرج الأصبهاني وله ضمن كتابه التاريخي الكبير فصل كبير عن الغناء العربي وتاريخه .
ثم جاءت الفرقة الفلسفية المسماة إخوان الصفا ولها كتاب أو دراسة في الموسيقى، أما ابن سينا الفيلسوف فلم تكن الموسيقى على إجادته لها إلاّ جزءاً من مواهبه وأعماله ومؤلفاته. وتحتل كتابات بعض المتصوفة عن الغناء والموسيقى منزلة عالمية، وبخاصة ما كتبه الإمام الغزالي في كتابه آداب السماع والوجد وهو جزء من موسوعته الضخمة إحياء علوم الدين. ولصفي الدين عبد المؤمن الأرموي آخر الموسيقيين العظام في بغداد (توفي سنة 1294م) كتب كثيرة في الغناء والموسيقى .
ثم جاءت كتب المؤرخين المتأخرين في عصر الموسوعات بتخصيص سفر من تاريخهم لتاريخ الغناء والموسيقى كما فعل النويري في نهاية الأرب السفر الرابع .
وتدين موسيقى الغرب بالكثير للعرب والمسلمين، فقد أدخلوا الكثير من الآلات الموسيقية التي أضحت العمود الفقري لفن الموسيقى الغربية، ففي القرن الحادي عشر الميلادي أدخل العرب إلى أوروبا الربابة ثم تبعها آلتان وتريتان أخريان هما العود والقيثارة (الجيتار)، كما أدخلوا النقارة وهي من آلات الإيقاع، وعن طريق العرب أيضاً عرف الأوربيون الصنج التي حرفوا اسمها إلى سوناجا وعرفوا الدُف المربع الذي سموه "الدرف"، والتبدير المستدير الذي سموه "باندير"، وهذان الأخيران من الآلات الإيقاعية القديمة التي استعملت قبل الإسلام .
وعرفت أوروبا الطبل العربي وصار متداولاً بأسماء مختلفة مثل تَبَلْ، وانتقل إلى فرنسا الطبل المعروف باسم "القصعة" وعرف في الفرنسية باسم "كيس". وفيما يتعلق بآلات النفخ انتقلت إلى أوروبا آلة النفير وعرفت باسم أنافيل كما عرفت جوقة آلات النفير باسم فانفار وأصلها العربي أنفار أي جمع نفير. ومن بين الآلات التي أخذتها أوروبا أيضاً القانون الذي عرف باسم "كانون" وآلة المشقر أو الشقرة التي عرفت باسم إيشاكيل أو إيشاكير .
وعن العرب أخذ الأوربيون في القرن العاشر الميلادي أسلوب التدوين الموسيقى المعروف في الإنجليزية باسم "التدوين الجدولي" الذي كان شائعاً في بغداد والمدن العربية قبل انتقاله إلى الأندلس، وهو أسلوب يقوم على اتخاذ أوتار العود خطوطاً يوضح عليها مواضع أصابع العازف .
وقد ظل هذا الأسلوب مستخدما في أوروبا حتى القرن الثامن عشر الميلادي حين حل محله نظام التدوين الحديث .
وقبل أن تعرف أوروبا الموسيقى العربية كان الغناء الأوروبي والإنشاد الكنسي بسيطا وخالياً من التركيب النغمي، فتعلموا من العرب إدخال أنغام إضافية على النغم البسيط ليصنعوا منه ما يسمى بالحلية النغمية. وقد أشار ابن سينا في كتاب الموسيقى الكبير المترجم إلى اللاتينية، إلى فن تركيب الأصوات وسماه التضعيف تارة والتركيب تارة أخرى. وهذا هو أصل علم تركيب الأصوات وتآلفها المعروف الآن في أوروبا باسم الهارمونية والذي أضحى أساس الموسيقى الحديثة، وكان الطلاب الأوروبيون في الأندلس يدرسون أصول البيان والبديع في الموسيقى الذي يعرض لتركيب الأصوات وتآلفها، وقد عرف عندهم باسم الأرغنة .
يقول المؤرخ الإسباني فرجيل القرطبي (القرن الحادي عشر الميلادي) في إطار حديثه عن التعليم في جامع قرطبة: "يوجد ستة أساتذة من علماء النحو كل يوم في قرطبة، ويوجد خمسة من علماء المنطق يقرأون على الدوام، وهناك ثلاثة من علماء الطبيعيات يقرأون كذلك كل يوم، كما يوجد أستاذ واحد يقرأ في الهندسة، وثلاثة يقرأون في الفيزياء، وهناك اثنان من الأساتذة يقرآن في الموسيقى ذلك الفن الميمي بالأرغنة" .
ويقول جيمس بيرك الكاتب التلفزيوني البريطاني في كتابه "عندما تغير العالم" الصادر عام 1985م عن دور الموسيقى العربية وما قدمته للتراث الموسيقى في الغرب: "ويرجع الفضل للموسيقيين العرب في نقل الأسلوب العربي في الوزن الشعري والإيقاع الموسيقي عبر إقليم بروفانس بجنوب شرق فرنسا، من خلال أغاني الشعراء الجوالين (التروبادور) ليتغير أسلوب الشعر والموسيقى إلى أسلوب عصري. كما تغيرت أنماط الرقص أيضاً، فأصبحت أكثر تأثراً بالعرب وأكثر ارتباطا بالطقوس والعادات. وأخذت الأغاني الجريجورية (الكنائسية) تفسح الطريق للتوافق الموسيقي (الهارموني) وللخط العربي الذي كان محصوراً في طبقة التينور أو الصوت القائد. وعشية عام 1050م بقليل وضع جويدو دارينزو أسماء عربية للسلم الموسيقى .
ويقول الباحث الموسيقي الإسباني إدموند كورايا لوبيز: "الموسيقى العربية هي أم الموسيقى الإسبانية، والموسيقى الإسبانية هي أم الموسيقى الغربية" .
وتقول زيجريد هونكه في كتابها شمس الله تسطع على الغرب: "إن موسيقى الغناء القديمة كان مثلها مثل الشعر القديم لا تعرف الإيقاع، بل تعتمد على مجرد الأوزان التي تنحصر في مقاطع طويلة وقصيرة، وإن أقدم موسيقى كنسية ترجع إلى العصور الوسطى لا تعرف الإيقاع ولا الميزان، وإنما تعتمد عادة على وحدات من النغمات متصلة، على نمط تقسيم الجمل الكلامية.أما البناء الإيقاعي فهو شرقي أصيل. وقد يكون هذا أهم تراث موسيقي قدمه العرب لأوروبا التي أدت إلى إيجاد المازورة. أما المقاطع: دو ري مي فا صول، التي يقال عنها إنها من وضع جيدو الأريزو حوالي 1026م وإنها عبارة عن أوائل مقاطع سطور ترنيمة يوحنا، فإن الواقع أن هذه المقاطع الموسيقية إنما اقتبست من المقاطع النغمية للحروف العربية: د ر م ف ص ل (وتجمعها الكلمتان: در مفصل)، وكثيراً ما نجدها في مصنفات موسيقية لاتينية ترجع إلى القرن الحادي عشر. وقد عثر عليها في جبل كاسينو الذي كان يقيم فيه العرب" .
المراجع
إبراهيم عبد العزيز أبو زيد، أم كلثوم في الشعر العربي، كتابات نقدية 210 الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية 2013
جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة خليل أحمد خليل، دار عويدات بيروت 1993
جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية للكتاب، مكتبة الأسرة 2000
خليفة التليسي، التراث العلمي عند العرب، منشورات شركة افممكو إنترناشيونال قبرص 1992
خيري الملط، تاريخ وتذوق الموسيقى العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
زيجريد هونكه، شمس العرب تسطع على أوربا، ترجمة: فاروق بيضون، وكمال الدسوقي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401هـ
سمحة الخولي، من حياتي مع الموسيقى، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007
شهاب الدين النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب المصرية، السفر الرابع 1935
عبد المنعم عرفة، تاريخ أعلام الموسيقى الشرقية، مطبعة عنان، 1947
غسان علم الدين، الغناء عند العرب، مجلة العربي، العدد 655، يونيو 2013
كمال النجمي، تراث الغناء العربي، الهيئة العامة المصرية للكتاب 1998
محمد غريب جودة، عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب، مهرجان القراءة للجميع، الأعمال الفكرية، مكتبة الأسرة 2004
محمد قابيل، مدخل في الموسيقى، الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية 2009
محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام، الهيئة المصرية للكتاب، سلسلة العلوم الاجتماعية مكتبة الأسرة الطبعة الثانية 2008
محمود الوردانى، بعض ما يمكن قوله، أوراق ليست شخصية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2009
المصدر: عود الند – مجلة ثقافية فصلية