دعاة ولايةِ الفقيهِ ...

2016-12-12

قبل أعوامٍ، آنَ كنتُ أزور الصينَ، بدعوةٍ من صديقٍ صينيّ كريمٍ، هو إدوارد نِي، التقَيتُ في شانغهاي بمثقفٍ يابانيّ يزورُ الصينَ .
ورغبةً مني في أن أفتحَ البابَ أوسعَ في الحديث مع الرجل ( اليابانيّ متحفِّظٌ طبعاً )، صرتُ أتحدث عن إعجابي بالرواية هناك وبالهايكو ... إلخ .
ومضَيتُ أبعدَ قليلاً، فأخبرتُه أنني نقلتُ إلى لغتي العربيةِ، روايةً يابانيّةً .
سألني الرجل : أيُّ روايةٍ ؟
أجبتُ : " الصرخة الصامتة " لكنزبورو أوي، الحائز على جائزة نوبل .
تغيّرتْ ملامحُ اليابانيّ .
ثم قال : كان خيراً لو لم تترجِم لكنزبورو أوي ...
استفسرتُ عن السبب .
قال : ألا تعرف أنه لم يوقِّعْ على بيانٍ يطالبُ بجلاء الإميركيّين عن قاعدتهم في أوكيناوا ؟
قلتُ : أتظنُّ هذا الموقفَ ذا علاقةٍ بمنحه جائزة نوبل ؟
*
في الأول من فبراير ( شباط ) 1979، هبطت في مطار طهران، طائرةُ بوينغ، ونزل منها مسافرٌ عجيبٌ اسمه الخُمَيني .
كانت إدارة الرئيس كارتر على عِلْمٍ تامٍّ بالأمر منذ أعوامٍ . كما أن الإدارة الأميركية كانت نصحتْ قيادة الجيش الإيراني بألاّ تدبِّرَ انقلاباً عسكريّاً، ونصحتْ شاه إيران بمغادرة البلاد .
لقد أقنعَ الخُمَيني، الماكرُ، الأميركيّين، قبل سنين، بأنه  خيرُ مَن يقف ضد الشيوعيّة والروس .
هكذا أقامت الإدارةُ الأميركيةُ نظامَ ولاية الفقيه في بلاد فارس .
*
قبل ثلاث عشرة سنةً، غزا الأميركيون، العراقَ، واحتلّوا بغداد .
وقبل ثلاث عشرة سنةً أيضاً، أقامت الإدارةُ الأميركيةُ، مع حزب الدعوة، نظامَ ولايةِ الفقيه، في بلاد ما بين النهرَين . 
*
المبدعون الإيرانيّون، من يساريّين وليبراليّين، كانوا ضدّ نظام الخمَيني، فتعرّضوا للبطشِ، وغادروا البلاد . 
*
لكنّ للمثقّفين العراقييّن، شأناً آخرَ .
إذا استثنَينا البعثيّين منهم، وحفنةً من اليساريّين، وجدنا أن الجسمَ الثقافيّ العراقيّ تصالَحَ  وتَكيَّفَ مع نظام ولاية الفقيه، بالرغم من سوءاتِ هذا النظام .
من هنا جاء تعبير " شعراء ولاية الفقيه " .
*
ألَمٌ ما مثله ألَمٌ، أن يشهدَ المرءُ كيفَ أخرسَ الشعراءُ أصواتَهم بأيديهم، وكيف أغمضَ الفنّانونَ عيونَهم، بأيديهم، حتى اليوم، عن أبشع مجزرةٍ تعرّضَ لها شعبٌ في هذا القَرن .
ضحايا الإحتلال، ونظام ولاية الفقيه، هم ثلاثة أضعاف ضحايا هيروشيما .
وما زال هذا الشعبُ ينزفُ دماً غزيراً، كأنّ لعنةً أبديّةً سُلِّطَتْ عليه .
هذه اللعنة هي نظام ولاية الفقيه الذي فرضَه المحتلّون بقوّة السيف .
أليس ثمّتَ، مَن يقول : لا ! ولو همساً ؟
إن كان من يعيشون داخل السجن يخشَونَ العقابَ، وأخفُّه القتل، فما بالُ مَن يعيشون خارج السجن، في أوربا أو الأميركيتَين أو في متاهات بلاد الله الواسعة ؟
لماذا يُصِرّونَ  ( أعني مَن ينْظِمونَ الكلِمَ ) على أنهم شعراءُ، وكأنّ شيئاً لم يكُنْ ؟
هم الآن مطرودون، خارج المائدةِ المقدّسةِ .
إنهم شعراءُ ولايةِ الفقيه !

لندن 18.06.2016

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved