الأميرة سالمة بنت سعيد "أميلي رويته" تنبش الماضي.
تنتهي من الكتاب لكنّه لا ينتهي منك، تتركه لكنّه يظل عالقاً فيك، يعيش في خلاياك، ينبض في دفق دمائك، يلفّك في سحره، تبقى مع الأسئلة التي يثيرها، تقلّبها يمنة ويسرة، تحاول الإجابة عليها ما أمكن، لكنّك لن تصل إلى قرار. ذلك هو الكتاب الجيد الذّي لا تندم على اقتنائه ولا تأسف على الوقت الذّي رافقته فيه.
جوهر الكتاب يتمثّل في كونه ذكريات طفولة وصبا وشباب مسرودة بطريقة سيّالة متدفّقة آخّاذة، في جملة سهلة سلسة واضحة، وكأن الكاتبة تعيش معنا، وتتكلّم بلغتنا، ويعنيها أن توصل لنا ما تريده، وكأنّها أيضاً ترى وتنقل وتصف كمراسلة صحفية معاصرة لنا لا كأنّها تكتب عن ذكرياتها في بلد بعيد، وقد مضت على الحوادث عشرات العقود من سنين بعيدة. تنسج الكاتبة خلايا شبكة سحر واسعة توقعنا فيها ضحايا ننتظر كلّ كلمة تنطق بها. وأخال أنّ تلك الذّكريات ما كانت لتؤثّر بنا لولا جهود المترجمة التي منحت الكتاب قدراتها وقابليتها على التّعبير كونها أفضل من كتب القصّة العراقيّة من أديباتنا إطلاقاً "في نظري في الأقلّ"
سالمة بنت سعيد إبنة سلطان عمان وزنجبار في القرن التاسع عشر، وهي واحدة من أربعين طفلاً وطفلة نمت في قصر السّلطان، وإحدى مزايا هذا الكتاب العظيم كونها كانت أوّل عين نسر حادّة ترصد حركات وسكنات وعادات وتقاليد مجتمع غارق في القدم، تنقله إلينا بصراحة وصدق وبساطة، لتفتح لنا صفحات نقرأ فيها تاريخاً وجغرافية وموقعاً ووقائع ما جرى في داخل قصر حاكم عظيم انتصر على دولة عظمى مجاورة "إيران"، وهزمها، وانتزع منها أهم ميناء لها "بندر عباس" مدة طويلة حتى أنها لم تسترجعه إلا بعد موته.
هذا الحاكم القوي لا يبدو في ثنايا كلمات ابنته الصّغرى غير إنسان ضعيف متواضع محبّ تجري دموعه حين يصاب أيّ طفل أو طفلة له بمرض، أو حين يغتصب الموت حبيباً له. نعيش مع هذا السّلطان على مائدته، ونرافقه في زياراته، ونكون معه حين يتوضأ ويصلي ويصوم، ويستقبل أولاده والغرباء، ومع زوجاته وبناته وأبنائه كأنّنا نرى فيلماً حديثاً لا ذكريات قديمة.
تمتع سالمة بنت سعيد منذ طفولتها بفراسة شديدة إلى جانب جمالها، وذكاء فوق المتوسط، وضمير حيّ، فعندما تصف أخاً تحبّه لا تغالي بل تطلق عليه الأوصاف التي يتمتّع بها من دون مبالغة، وحينما تتكّلم عن أخت لها تلتزم بوصفها موضوعياً "تطبق عادت البيت وتقاليده بصرامة تنفر منها الصّغار"، تصف سالمة كل ذلك من دون حقد أو كراهيّة، ولعلّ قوة شخصيّة سالمة تبدو من خلال مثابرتها وإصرارها على تعلم الكتابة التي كانت مقصورة على الذّكور، فلم تكتفِ بحفظ نصف المصحف كما يتوجب على البنات بل دأبت على تعليم نفسها بنفسها كيف تكتب حتى نجحت في ذلك.
الكتاب عالم غريب يصف متناقضات كثيرة، وعادات تناول الطّعام في بيت سلطان له زوجات عربيات وسراري شركسيّات وحبشيّات وفارسيّات وأطفال من الجميع وأولاد كبار يقاسمونه المسؤوليّات، وخدم لا حدّ لهم، وجنود مسلحون، وخصيان ذوو نفوذ عظيم، وملاحون لقوارب صغيرة ومتوسطة، شراعية وبخارية، وفلاحون ماهرون، ومديرو مزارع شاسعة، وإخوة طيّبون وآخرون خبيثون، ورهط من الإخوة يئتمر على آخر، وطيبة لا حدّ لها وحقد قاتل، إضافة إلى غيرة فتّاكة ورحمة شاسعة ووو. إن قرأت الكتاب تعيش مع كل هؤلاء في سكونهم، حركاتهم، يقظتهم، نومهم، نشاطهم، رغباتهم، حبّهم، قسوتهم، كما أنّك تسير معهم في نزهاتهم، مدنهم، أسواقهم لتطّلع على ما يجري هناك كما لو كنت واحداً منهم، ولعلّ أطرف ما يمكن أن تتخيّل كون هذا الخليط الكبير يضطر للكلام بوجود السّلطان بالعربيّة، لكن باختفائه يتحرّر الجميع من هذا الالتزام، فيرتفع في الجوّ لغط محبب للأطفال تسوده الفارسيّة والتركيّة والشّركسيّة والسّواحيليّة والنّوبيّة والحبشيّة في لهجات متعدّدة، يتبارى الأطفال فيها، وكان السّلطان يعرف ذلك لكنّه لا يأبه لذلك قط.
تنظر الذّكريات بموضوعية إلى الفروق بين الأوربييّن والاستوائييّن إذ كانت نظرة الأوربيين استعلائيّة عنصريّة مقيتة، تصف الاستوائييّن بالكسل وانعدام الطّموح ورفض العمل، تقول: "يميل الشّماليّون إلى الغرور وينظرون بفخر واستهانة إلى مناوئيهم، وهي صفات لا تستحق الثّناء، وفي هذا يغفل المرء هنا بسهولة كبيرة، كم أن الاجتهاد والنّشاط الشّمالييّن هما ضرورة لا غنى عنها، للحفاظ على حياة النّاس. على الشّمالي أن يعمل لكن لا ينبغي للمرء أن يجعل من ذلك فضيلة عظمى" فهو مضطر لحماية نفسه كي يوفر لاطفاله وعائلته ملابس ثخينة وجوٍ دافئ ووسيلة مريحة للسّفر، بينما لا يجد الاستوائي نفسه ملزماً لعمل ذلك فهو لا يحتاج إلى كلّ ذلك.
كما تناقش بالموضوعيّة نفسها القضاء والقدر ولومهم إذ يلوم الشماليون المسلمين والعرب لإيمانهم بالقدر لكنّهم يستبدلون القدر بالصّدف في نظرتهم، وكلا الأمرين سواء.
تبسط الكاتبة بأسلوب آخّاذ مشوق طقوس الصّلاة والصّوم في عائلة السّلطان والتزامهم بها، ولقاءاتهم ونقاش الكبار، واستعراض الحياة، واستقبال الضّيوف وتقديم الهدايا لهم، ووصف طقوس تناول الطّعام حتى لكأنك تتمنى لو كنت معهم، وكيفية تقديم القهوة. وعمليات التوليد والقابلات، وحلاقة الأطفال، وتعطير ملابس الوليد بالياسمين والمسك والعنبر وماء الورد، وتتعرّض للتّربية وتنفي أن يكون الطّفل مدلّلاً. أمّا بالنّسبة إلى المدارس فلم يكن هناك سوى معلّمة تدرّس القرآن وقليل من الرّياضيات، لكنّها تذكر أنّ هناك شيء واحد يشترك في أطفال المدارس من الشّرقييّن مع الأوربييّن: الحدس الطّبيعيّ في كسب ود المعلمة عن طريق الهدايا، ففي ألمانيا يقدّم الأطفال الزّهور للمعلّمة بينما يقدم أطفال السّلطان الحلوى لمعلّمتهم، ولم تدرِ أن تلك عادة قديمة فقد ذكرتها لوحات الطّين المفخورة التي تتكلّم عن الطّلاب وهداياهم إلى المعلمين زمن حمورابي. لكنّها تنتقد بقوّة المدارس الألمانيّة آنذاك "تحشر المخلوقات المسكينة كلّ يوم خمس ساعات أو أكثر في غرف تشبه الأقفاص، تسمى غرف الدّرس، حيث تسود حرارة وهواء فاسد لا يمكن وصفه. في مدرسة يتعلّم فيها أكثر من مئتي طفل لا توجد سوى أربعة أقداح لشرب الماء الخ. وتقارن ذلك بالمدرسة في زنجبار حيث الهواء الطّلق، والمنظر المفتوح على البحر. كما تنتقد عدم احترام المدرسين والكبار في ألمانيا، وتركيز دروس الدّين فيها على حفظ "تاريخ الكنيسة" عن ظهر قلب، من دون الالتفات إلى الورع والبرّ والاستقامة والقناعة، ولعل الكاتبة بهذا تشخص بداية التطرف العلماني الذّي قاد ألمانيا إلى النّازية بتجرده عن الرّوح والقلب، لكنّها مهما بدا من تطرف ملاحظتها تضع النّقاط على الحروف وتلمس المصيبة التي مازلنا نعيشها إلى حدّ الآن باستبصار عميق:"وعلى أيّ حال لا بدّ أن يبدو واضحاً أن السّؤال عما إذا كان الأوربيون على حق حين يشعرون بالأسف من أجل شعب "غير متنوّر" بعد، وعما إذ يجوز لهم أن يقوموا بتنوير مثل هذا الشّعب بالقوّة الخارجيّة؟ "لا يمكن فرض التحضّر بالقوّة، وعلى المرء أن يعترف للشعوب الأخرى بحق تطوير وجهات نظرها القوميّة الى أخره.
إنّ هذا الكتاب ممتع ورائع حتى في وصفه لأسى كاتبته والظّلم الذّي لحق لها من الإدارة البريطانية التي لم يكن يهمّها سوى مصالحها، والتي استغلّت الأميرة لتحقيق هدفها، ثم خذلتها، ولو تيسّر للشريف حسين قراءة هذا الكتاب وكان متوافراً باللغة الإنكليزية قبل أن تخدعه الوعود البريطانية، لو قرأه وفكّر في لعبة تلك الإدارة الخبيثة لربما استفاد منه، لكنّه مع الأسف وقع في الخطأ نفسه. فقد منعت الإدارة البريطانية الأميرة من لقاء أخيها عندما زار لندن، كي لا ترشده إلى نقاط الخلل في الاتفاقات التي وقعّها مع الإدارة، لأنها تعرف الإنكليزيّة وهو يجهلها. ولم تكتف بالابعاد بل ضيّعت عليها مورد رعاية أطفالها.
أعترف أنني لم احط بكتابتي عن الذّكريات بكل ما جاء فيها، ولم أذكر كل نقاط القوة فيها لضيق الوقت. لكنّي أحبّ أن أذكر نقطة حيّرتني كثيراً ولم استطع الوصول فيها إلى قرار.
كما يبدو في كتاب من 374ص يلمس القارئ في صفحاته احترام الكاتبة هائلاً للدّين، والتديّن المعتدل، والسّلوك القويم، ثم يُفاجأ بقوّة بأنها تعترف بحبّ شاب ألمانيّ، وأنها هربت معه وهذا شيء غريب لكنّه غير مستحيل. لكنّ المفاجأة الأكبر هي تحولّها إلى المسيحيّة قبل زواجها منه، الأمر الذّي يصيب القارئ بالدّهشة. فنشوءها في بيئة متديّنة ترغم القارئ على توقّع وجود صراع نفسيّ لديها قبل وأثناء تحولّها إلى المسيحيّة، لا أن يجري التّحول سهلاً، هل فرض حبيبها عليها التحوّل إلى المسيحيّة؟ تبدو في الكتاب شخصيّة قويّة، ومن العسير أن يفرض عليها شيء تستطيع تجنّبه، فلماذا حدث ذلك بشكل مفاجئ من دون تمهيدات وتطورات، إنّه أمر صادم غير مبرر، ما أظنّه هو أنّها كتبت عن هذه النقطة. أين الكتابة؟ لماذا لم نجدها؟ هل أرغمت على حذفها؟ نعم. هناك نقص. والسّؤوال هنا: ماذا ومتى يسدّ النّقص؟ لكن إثارتي لهذه النقطة لا يمكن أن تقلّل من قيمة الكتاب ولا من جهد المترجمة الهائل.