فن الشعر في ملحمة كلكامش

2007-12-04


 عن دار المدى للثقافة والنشر والتوزيع في سوريا صدر قبل أيام كتاب جديد للشاعر العراقي صلاح نيازي تحت عنوان (فن الشعر في ملحمة گلگامش) وقد تم تخصيصه بالكامل (183 صفحةمن القطع المتوسط) لمناقشة جانب واحد فقط من الجوانب المتعددة التي تزخر بها هذه الملحمة الانسانية الخالدة، ألا وهو تقنيات وأساليب الانشاء الشعري التي اعتمدها مؤلف (أو ربما مؤلفو) هذا النشيد الشعري العظيم. ملحمة گلگامش هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على أحد عشر رقيما طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى شمال العراق ويحتفظ بالالواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الرقم الطينية مكتوبة باللغة الأكدية وتحمل في نهايتها توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان. في رسالة له عام 1916 قال الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه ان ملحمة گلگامش مذهلة وانها من أهم ما يمكن أن يصادفه الانسان في حياته.. (لقد اغرقت نفسي فيها فرأيت في تلك القطع الهائلة من الألواح المفخورة انظمة واشكالا تنتسب الى الاعمال المتقنة التي انتجتها الكلمة الساحرة على طول تاريخها).وهنا يتساءل مؤلف الكتاب الشاعر صلاح نيازي عن السر في عظمة هذه الملحمة، أهو في تأريخيتها؟ وهي أي الملحمة، ليست تاريخية؟ أم يا ترى في خيالاتها الخرافية، وهي ليست خرافية؟ أم ترى يكون السر في أسئلتها الفلسفية، وهي ليست كتابا فلسفيا؟ أم في هذا المزيج العجيب من التاريخ والخرافة والفلسفة؟ ليكن الأمر كذلك.. غير ان التاريخ والخرافة والفلسفة، كما يقول صلاح نيازي، لاتكون مؤثرة فنيا إن لم تمر بتقنيات مختلفة مبتكرة ومتطورة.ويؤكد نيازي في هذا الصدد ان مؤلف ملحمة گلگامش لابد ان يكون شاعرا حاذقا، فتقنياته في صناعة الشعر لا تقل دقة عن تقنيات أي شاعر معاصر، عربيا كان أم أجنبيا. ربما بهذه التقنيات قد انسحر الألماني (ريلكه) كما انسحر وانبهرالشاعر الانكليزي المعاصر (ديفيد ميتشيل) الذي ترجم مؤخرا ملحمة گلگامش الى اللغة الانكليزية شعرا. لكن ما من أحد، على حد علمنا المتواضع وعلم المؤلف أيضا، خصص دراسة خاصة لهذه التقنيات وأساليب الانشاء الشعري التي اعتمدها مؤلف (أو ربما مؤلفو) هذا النشيد الانساني العظيم. فصلاح نيازي، الرائد في هذا المجال، يقر بأن ملحمة گلگامش لا تبشر بفكرة أو فلسفة أو دين، انما يعزو انتشارها الواسع وتاثيرها العميق حتى في الاداب العالمية المعاصرة، الى ما يسميه (ملكة التأليف وبلاغة التوقيت) والمقصود بالتوقيت هنا التكنيك الفني، مع ذلك، لم يفطن الا القليل من النقاد، كما يقول نيازي، الى التقنيات المدهشة التي استعملها شاعر ملحمة گلگامش بحيث اصبحت هذه القصيدة وكأنها نص عصري. وبالفعل، كان صلاح نيازي حريصا منذ البداية ان يجيب على كيفية القول لا عن دوافعه، عن تاثيره لا عن شرعيته. بكلمات أخرى، كان العم الاول والاخير لمؤلف هذا الكتاب ان يكشف عن موهبة الشاعر الرافديني الاول في التاليف قدر المستطاع: كيف كتب مثلا رثاء گلگامش لصديقه انكيدو؟ كيف صور الطوفان، وما هي الادوات والاجهزة التي استعملها؟ كيف صور الخوف؟ كيف صور خيبة الانسان التامة؟ كنت أسعى، يوضح لنا صلاح نيازي، مؤلف كتاب (فن الشعر في ملحمة گلگامش) الى اكتشاف تقنيات هذا الشاعر الخصيب. عبر فصول الكتاب الاثنتي عشر، يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة بحق، الى تلمس ما سبق له وأن قدمه تنظيرا عن أساليب الانشاء الشعري لملحمة گلگامش، تلمسا يكاد يكون تطبيقيا بشكل مدرسي، وذلك من خلال الاستشهادات الكثيرة والامثلة المضروبة هنا وهناك، والعودة الدائمة الى متن النص الاصلي للملحمة بالترجمة العربية الخالدة للعلامة العراقي الدكتور طه باقر، مع تعديلات وتصويبات قام بها صلاح نيازي بعد ان أجاز ذلك لنفسه حيث أصلح بعض الارتخاءات الاسلوبية دون الاخلال بالمعنى اذ كان المرحوم طه باقر عالما وليس بشاعر أو أديب، كما يقول في الصفحة 28 من الكتاب. ان المعرفة والصداقة ومواجهة الموت هي الاركان الثلاثة التي تنتظم ملحمة گلگامش بنيويا، متوسلة في ذلك اسلوبا حواريا بوجهة نظر أخلاقية غائية، مبثوثة في نسيج نص مفعم بالالغاز والطقوس المثيرة. انها في غالبيتها مكتوبة بطريقة الشيفرات او الاكواد، كما يقول (روبرت تامبل) احد أهم شراح ملحمة گلگامش في الانكليزية، فهي من ناحية تشبه قصة دنيوية زاخرة بالاحداث، ومن ناحية اخرى تفسح المجال للكهنة والعلماء ان يخفوا معانيها الاعمق بواسطة استعمال التورية والترميز. وتشكل صيغة الاسئلة الاستنكارية، واستعمال الحوار الخارجي أي الديالوغ كرد فعل على الحوار الداخلي أي المونولوغ، والبكاء على الاطلال، وتقديس الاشجار والتشاؤم من الطيور، والمساجلات بين وجهات نظر متباينة، والمنافرة وهي أن يفتخر رجلان كل على صاحبه ثم يحكمان بينهما رجلا آخر، واعتماد صيغة التكرار، وكثرة التشبيهات، ودلالة النور والظلام والأبواب، وتكنيك الوزن الشعري، ونقل الحدث من الماضي الى الحاضر، وجعل الخرافة واقعا ملموسا، تشكل بمجملها مجموعة من الحيل الأدبية واللمح الفنية التي تجعل من نص ما نصا أدبيا وليس شيئا آخر. وقبل أن نتابع نجاح الشاعر صلاح نيازي في تبيان عناصر شعرية وشاعرية ملحمة گلگامش عبر ما تقدم من اشارات تجدون مزيد تفصيلاتها بين دفتي الكتاب الذي نعرض له اليوم، لابد من اعطاء القارئ الكريم نبذة متيسرة عن ملحمة گلگامش وبطلها ملك أوروك وعموم العراق القديم. تبدأ الملحمة بالحديث عن گلگامش ملك أوروك الذي كانت والدته إلهة خالدة ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بان ثلثاه إله والثلث الباقى بشر وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بادراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة گلگامش ملكا غير محبوب من قبل شعب أوروك حيث تنسب له ممارسات سيئة منها تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أوروك.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved