"فراشات طنجة

2008-06-16

يكشف النزر اليسير الذي سجله غيرنا بالصورة وبالرسم لموروثنا الحضاري والثقافي مدى فداحة ما أضعناه من معلومات ومعطيات جد هامة من ذلكم الموروث الذي نُسيَ أو انقرض أو غُيبَ، بما فيه من أحداث تاريخية خطيرة طمست، لأننا لم نكن نوظف الصورة أو الرسم في التسجيل إلى جانب التدوين، وهو ما انعكس سلبا على المكانة المرجعية والمعرفية لهذا الموروث في صناعة مستقبلنا وتطوير وصقل هويتنا...

                                                                                             حميد السملالي

 

طنجة في أحد أيام مارس 1976

شعرت «الحاجة ارحيمو» برعشة برد خفيفة هذا الصباح وهي التي بلغت الثمانين من عمرها، ولا زالت تتمتع بصحة جيدة، فلفت نفسها في معطفها السميك، واتجهت صوب النافذة المطلة على شاطئ البحر، الموجودة بالمطبخ. لتتعرف على أحوال الجوخارج منزلها، لكن ما أن رفعت الستارة الشفافة عن زجاج النافذة حتى انتفضت من فرط مفاجأة ما رأته أمامها !! ..مجموعة من الشابات والشبان، يلعبون بكم هائل من الطائرات الورقية المختلفة الأحجام والألوان، حولت سماء المنطقة الرمادية الملبدة، إلى مهرجان عجيب وخلاب من الألوان والأشكال الأخاذة الساحرة، تتراقص بكل اتجاه، تارة في فوضى وتارة أخرى بنظام وترتيب، مما جعل كل من مر بهذا المكان من الشاطئ، من صيادين، أو مارة عاديين، في هذا الوقت المبكر البارد، يأخذه سحر المنظر، ويتوقف مشدوها، وتتوقف به عجلة الزمان، ومكرهاته فتنتعش روحه، إلى أن ينتشي، ثم يتابع طريقه، أو يقبع على رمال الشاطئ مستسلما. وهو الأمر عينه أو أكثر الذي حدث مع «الحاجة ارحيمو» إذ تسمرت فاغرةً فاها، تنظر من خلف زجاج النافذة... لكن وبعد لحظة... اغرورقت عيناها، وأخذت تتمتم بأنشوذة أطفال تعلمتها منذ زمن بعيد! ..
طيـري يا طيـارة فاسمـا طيـري
أوغزْلِيلِي صوفي بالحرير والصقلـي
وعلي يـا طيـارة فاسحـاب علـي
وعدْ ليلـي قْميصِي والسعد المعلـي
وأخذت ترددها لمرات، وقد اختلطت بصوتها نبرة النشوة والحزن! .. لكن ما أن استسلمت للمنظر متكئة على حافة الدولاب الملاصق للنافذة، حتى انتصبت، وكأن شيئا ما قد مسها، قائلة:
- فكرتيــنــي! ..
ثم أخذت تمسح الغرفة بعينيها باحثة عن شيء ما فقدته! .. وما هي إلا لحظات حتى فتشت كل ركن فيها، ثم انتقلت للحجرة المجاورة حيث تنام، وأفرغت كل ما في دواليبها، أو الحقائب الموجودة بها، ولم تجد ما تبحث عنه، وبعد تأملها للحظة، انتقلت لحجرة ابنتها«ثريا» التي كانت نائمة هناك فأيقضتها بالجلبة التي أحدثتها بحركاتها القلقة المتوترة، وهي تبحث بكل أرجاء الحجرة، فسألتها «ثريا» 'متثائبة:
- عما تبحثين؟
- عن شنطتي البنية الصغيرة
- ابحثي بالمخزن تحت الأدراج المؤدية للسطوح...
انطلقت «الحاجة» مسرعة إلى المخزن، وما أن أدخلت جسمها بذلك المكان الضيق حتى أخرجت شنطة قديمة مترهلة ... فعلا الإرتياح محياها، وعلى الفور فتحتها وأخذت تبحث بداخلها، وأخرجت إطارا قديما بزجاج مكسور، وتأملته باهتمام شديد، ثم قلبته من كل جانب، وكان يحتوي صورة باهتة قديمة صفراء، وبعد حين أخذت تبحث ثانية محتويات الشنطة، وأخرجت طوقا صغيرا به «حرز» - تعويدة قديمة- وتمعنته ثم ضمته لصدرها، وأغمضت عيناها إلى أن سالت منها دمعتين ! .. عندها نهضت وعادت لغرفة المطبخ، واتجهت صوب النافذة وتأملت الصورة للحظة ثم وضعتها على الدولاب بعد أن مسحتها جيدا بتلابيبها، وعلقت بطرفها «الحرز» وهي تنظر تارة لخارج النافذة وأخرى للصورة التي أضحت تحت الضوء، إنها صورة قديمة لنساء يغزلن الصوف على سطوح المنازل، مستعملين الطيارات الورقية!!!.
ثم اتكأت على حافة الدولاب وأخذت تتأمل الصورة بإمعان زائد هامسه بترنيمة أنشودة الأطفال التي تعلمتها منذ زمن بعيد... وما هي إلا لحظات حتى نبهتها يد ابنتها «ثريا» التي حطت برفق على كتفها فاستدارت مبتسمة نحوها وقالت:
- صباح الخير ابنتي.
- صباح الخير «العزيزة».
ثم أخذت «ثريا» يد أمها وقبلتها، وانحنت على خذها وقبلته أيضا وألقت نظرة سريعة على الصورة، ثم لخارج النافذة.وقالت بصوت خافت:
- سمعتك تترنمين بأغنية لم أسمعها من قبل... أية أغنية هذه؟.
- أنشودة جميلة كنت أرددها وأطفال الحارة أيام زمان...
- ولماذا أخرجت هذه الصورة، وهذا «الحرز» ؟... ألم تكن هذه الصورة معلقة بمدخل بيتنا القديم، والحرز مربوط بها.
- نعم ... إنها هي... وهي ذكرى عن خالك «سيدي عزوز» رحمه الله...
- أعرف... ولكن من ذكرك بكل هذا، هذا الصباح. وقلبت البيت رأسا على عاقب بحثا عنها؟! ...
- هؤلاءالشباب على الشاطئ...
فنظرت ثريا ثانية من النافذة وقالت مبتسمة:
- هؤلاء، وطائراتهم الورقية؟! فما علاقة خالي بالطائرات الورقية؟...
- إنها سبب وفاته، يا ابنتي...رحمه الله ! ...
- ألم يقتله الإسبان غدرا كما حكيت لي عن ذلك؟...
- نعم، ولكن كانت أيضا الطائرات الورقية سببا في ذلك...
- كيف؟! ما أعرفه أنه كان إذاك في سن المراهقة في الخامسة أو السادسة عشرة من عمره، منهمك في مساعدة -جدتي- بسطح المنزل حينما رماه من طائرته أحد الإسبان وكنت بقربه، ولولا الألطاف الإلاهية لأصبت أنت أيضا...
- وهل أثنائها كنتما تلعبان بالطائرات الورقية؟...
- لا ..كنا نشتغل بها! ...
- شغل؟!
- الناس في تلك الحقبة كانوا يشتغلون بالطائرات الورقية، ولا يلهون بها فقط، كهؤلاء على الشاطئ... وطائراتنا كانت أجمل بكثير من هذه وأروع ! ... والصورة تبين ذلك.
وبتلقائية قامت «الحاجة ارحيموا» وانتصبت- أمام النافذة حتى كادت تلصق وجهها بزجاجها. وأخذت تنشد بصوت طفولي ناعم رتيب:
طيـري يا طيـارة فاسمـا طيـري
أوغزْلِيلِي صوفي بالحرير والصقلـي
وعلي يـا طيـارة فاسحـاب علـي
وعدْ ليلـي قْميصِي والسعد المعلـي
وما كان من ابنتها «ثريا» إلا أن ضمتها بقوة ووضعت رأسها خلف رأس أمها، وانسجمت معها في رتابة الأنشودة... إلى أن توقفت «الحاجة» فجأة وقالت بحزن عميق:
- هكذا كنت أنشد وأخي عزوز على سطح منزلنا،وهو يغزل بطائرة «الفراشة» الورقية التي صنعتها أمي للتو له...إلى... أن أسكتته للأبد رصاصة الإسباني الغادر...
- لم تخبريني قط بهذه الأمور «العزيزة»... أتعرفين...أقترح عليك أن أعد لك الفطور بما فيه شربتك المفضلة، وأنت تجلسين قرب هذه النافذة تحدثيني بتفصيل عما حدث بالضبط لخالي رحمه الله...
فجذبت بسرعة أقرب كرسي كان بجانبها لتجلس عليه «الحاجة» قرب النافذة... ثم انسحبت قليلا لتعد وجبة الفطور... فعم الصمت لفترة لم تسمع فيها إلى قرقعة الأواني التي بدأت «ثريا» تستعملها... أما «الحاجة» فكان جسمها قد تجمد ساهمة تنظر عبر النافذة... ثم قالت:
- أنت تعلمين طبعا أن جدتك رحمها الله كانت خياطة ، وخياطة ماهرة ومشهورة بحينا «بالسوق الداخل» حيث كنا نسكن. وقد امتهنت هذه المهنة مضطرة بعد وفاة والدي الذي تركني وأخي عزوز وإياها نواجه مصيرنا دون سند، إذ كان رحمه الله متواضع الحال يشتغل بحارا...فكانت تشتغل ليل نهار دون كلل أو ملل لتوفر قوت يومنا تحيك كل أنواع الملابس تقريبا... وكان لها باع في فن الطرز، تعدت شهرتها طنجة إلى أصيلا وتطوان... ومن جملة ما كانت تستعمله ككل الخياطات، بل وكل النساء على العموم آنذاك الغزل ، أو لف وتشديد الخيوط المستخدمة للحياكة أو الطرز... الطائرات الورقية...
فبحكم أن النساء على العموم كن في ذلك الوقت يمارسن أعمالهن بالبيوت، وليس خارجها.وكذا كون المساكن بالمدينة كانت متراصة وملتصقة مع بعضها، مما جعل الأزقة ضيقة وقصيرة، وكل هذا لا يسمح بعملية النسج أو للف الخيوط بأطوال كافية ومعقولة... ابتكرت نساء طنجة طريقة جميلة وعملية، هي استخدام الطائرات الورقية لإنجاز هذه المهمة بسهولة ويسر. فكن يربطن الخيوط المراد غزلها أو لفها تباعا بالطائرات الورقية بعد أن يصعدن لأسطح منازلهن، ويطلقن من هناك طائراتهن بالفضاء الواسع... وبذلك يتمكن من لف أو غزل أطول ما يمكن من الخيوط، متجنبين كل ما يعوق ذلك...
فقاطعتها «ثريا»:
- والخياطون الرجال، هل كانوا يشاركون النساء في ذلك؟
- لا... كان بإمكان الرجال الذهاب إلى الأماكن الفسيحة ليمارسوا ذلك، ومنها أماكن معروفة خارج أسوار المدينة..
ثم تتابع...
- وكانت أيام الأربعاء والخميس التي تسبق يوم الجمعة الذي هو يوم عطلة - يتوجب فيها ان تكون الملابس جاهزة، وهي أيام الذروة التي تطلق فيها الطائرات الورقية بكثرة لمشاركة غير الخياطات المحترفات من النساء فتعج سماء المدينة بالطائرات الورقية الجميلة الأخاذة في مهرجان بديع جميل ورائع، لأن المشتركات من النساء الغير المحترفات للخياطة، كن يعتمدن أن تكون طائراتهن الورقية متميزة تدل عن ذوقهن الرفيع، ومكانتهن الاجتماعية، فيتفنن في تزينها ورسمها وتلوينها، متخذة أشكالا عدة، كالطيور والحيوانات، أو أشكال هندسية مدهشة ومثيرة.تختلف في حجمها وتلوينها وشكلها... فكان سكان المدينة يتركون أشغالهم إلى حين، ليتجادلوا وأعناقهم مشرئبة نحو السماء، عن أجمل طائرة ورقية أو أغربها.ممن يعرفون أو لا يعرفون أسماء صاحباتها أو أسمائهن... فهذه « حمامة للا عشوشة» «مراة الحاج الدليرو» وهذه طيارة « الحاجة شمس الضحى»، وتلك «غراب المعلمة فطومة» - تضحك- وغالبا ما تكون هذه الأسماء قد سربت عمدا للجمهور إما عن طريق الأطفال، أو عن طريق الخدم لتتم معرفة وتقديم مبدعات هذا العمل الجميل...
- لكن كنا أنا وأخي عزوز، الذي كان يكبرني بحوالي خمس أو ست سنوات، إذ كنت في حوالي التاسعة من عمرى الوحيدين الذين يشعران بالتعاسة من بين خلق الله جميعا بالمدينة عند حلول كل يوم أربعاء وخميس أو بالتحديد كل يوم خميس.حينما يقام هذا المهرجان العفوي البهيج! ... كنت أعاني الأمرين أكره الطائرات الورقية، بل وحتى سماع الحديث عنها.لأني كنت فعلا "أعيش أزمة حقيقية"...
فقاطعتها «ثريا»:
- الم تكن جدتي ككل الخياطات تطلق طيارتاها الورقية؟...
- بلا ... كانت تطلقها، ولكني كنت أتمنى لولم تفعل! ... ولو على الأقل يومي الأربعاء والخميس، حتى لا يشمت فينا أهل الحي! ... لأن طائراتها كانت أبشع طائرات على الإطلاق! ...كانت من كثرة استعمالها خرقة مترهلة، صفراء، مبرقعة.فرغم أن هناك بعض الطائرات الورقية الوسخة أو العادية - على أي حال- لكثرة استعمالها من طرف الخياطات الأخريات، فإن طائرة أمي كانت الأفضع ! ... كأن لم تغيرها منذ أن استعملتها لأول مرة منذ سنين. أما الأولاد بحينا فكانوا يسمونها «الدربالة» تعبيرا حقيقيا عن حالها، ثم أخذ أقران أخي "بالمسيد" - الكتاب- يسمونه" ببودربالة- فيصيحون في وجهه ومن خلفه، وأينما كان بهذا الإسم البشع القاسي الذي كان يحطم قلبه، ويجعله دائم العراك مع الكل، حتى مع من كانوا أكبر منه سنا، أو أقوى منه جسديا... حتى عامة الناس كانوا يتصايحون محتجين حينما تدفع الريح طائرة أمي لتقترب من إحدى الطائرات الجميلات البارزات مطالبين طائرة أمي بالابتعاد أو أن تجهز عليها الطائرات الجميلات لتسقطها! ...
وبسبب هذا كله كنا، أنا وأخي، دائمي الصدام والشجار مع أمي. وكانت المسكينة تحاول بكل ما تملك من لباقة وحيلة أن تشرح لنا وضعنا الخاص، وأننا ملزمون بترك طائرتنا الورقية كما هي، لأنها تشتغل بها بشكل دائم ويومي، ليس كالمترفين لا يستعملون طائراتهم إلا من وقت لآخر، أو من أجل البهرجة والتفاخر.
ولما اشتد الضغط على أخي عزوز رحمه الله، وتفاقمت معاناته، قرر أن يحبس نفسه أيام الأربعاء والخميس بالبيت ولا يخرج... ثم صار يتجنب مرافقة أصدقائه. وحينما يغادر البيت يذهب إلى شاطئ البحر أو خارج أسوار المدينة حيث لن يجد أحدا يعرفه! ..
وذات مساء وأنا عائدة صحبة أخي عزوز للبيت محملين ببعض طلبيات زبائن أمي، سمعت "السعدية" بنت جارتنا «لالة مليكة» تنادي أخي عزوز، فالتفت واتت مسرعة... وكانت فتاة جميلة تقترب من سنه تجمع بين الشعر الأسود الكستنائي، والعينين الزرقاوين! ... ومن دون أن تعر لي أي اهتمام، توجهت له بالكلام وعيناها الواسعتين مركزتين عليه، وهو مصغ لها باهتمام شديد- اكتشفت في ما بعد أن بينهما علاقة حب صادقة
- لماذا يا أخي «عزوز» لم تغيروا طائرتكم الورقية؟ إنها في حالة جد سيئة، وقد سمعت من صديقاتي كلاما سيئا جدا يقال عنك بسببها...
وما أن سمع أخي كلمات «السعدية»حتى امتقع وجهه، واضطرب وكادت الأغراض تسقط من يده لكنه تمالك نفسه بصعوبة وأجابها باقتضاب:
- لا.. لا.. إن امي بصدد صنع غيرها. ستكون أحسن من كل ما رأيت حتى الآن...
وانطلق وكأنه يفر منها، فتبعته إلى أن وصل باب منزلنا وركله ركلة قوية انفتح على إثرها، وألقى بما في يده أرضا وانهار على ركبتيه، ثم أطلق صرخة مدوية هزت كل كيان قائلا:
- أعباد الله... قلت لك هذه الطيارة زولها... أعباد الله. قلت لك هاد الطيارة زولها.. زولها... زولها... زولها! ...
- أتت أمي مهرولة، مذعورة لا تدري ماذا تفعل، تسأله عما أصابه فأزاحها بعنف وانطلق يصعد الأدراج للسطح وهو يقول:
- فين هي... فين هي... فين هي... فين هي...-
ولحقنا به وكان في حالة هياج يلقي ويكسر كل ما صادفت يده... وأمي تحاول بكل ما تملك من قوة الإمساك به لتهدئته دون جدوى ثم نزع جلبابه، ثم قميصه، ثم باقي ملابسه إلى أن صار عاريا تماما! ...وأثنائها تعثر وسقط. وانطرح جسمه على الأرض! ...عندها بلغ الرعب مداه بي وبأمي، وأخذت المسكينة تصيح بأعلى صوتها وتولول، وتلطم وجهها... أما أخي فقد تجمد كميت! ...
- أويلي ويلي ولدي حماق... أويلي ويلي ولدي مات! ...
وأخذت ترددها ...ثم انتبهت وأمرتني بإبلاغ جارنا السي عبد السلام لإنقاذنا من هذه المصيبة، وهو ما فعلت، فحضر السيد عبد السلام، ورجل آخر كان ضيفا عنده. وحملا أخي إلى أن وضعاه بالسرير، وأمي لا تكف عن العويل والبكاء، وكنت أقرأ كل ما حفظته من آيات قرآنية علّها تخفف من مصيبتنا...
فسأل «السي عبد السلام» أمي:
- ماذا حدث له حتى وصل لهذه الحالة؟
- وأجبته على الفور بما حدث بالتفصيل قبل دخولنا المنزل وقاطعتني أمي:
- إنها «سحارة» - وتعني «السعدية»- مثل أمها "السحارة" التي قتلت زوجها بالسحور.
ورد عليها «عبد السلام» نافيا:
- بالعكس إنها فتاة ذات أخلاق عالية، وأمها امرأة فاضلة، أعرفها، كما أعرف زوجها المرحوم «السي التهامي» الذي كان يعاني من جملة من أمراض قبل اقترانه بها، لذلك لم ينجب غير«السعدية». وكان عما تعلمين متزوج بامرأة أخرى، له أبناء معها.. وما حكته «ارحيمو» عما قالته «السعدية» «لعزوز» حقيقي تماما، فقط بالأمس رأيت ولدي وبعض أصدقائه يصيحون في «عزوز» بـ «بودربالة» وأنبته عن ذلك وإن ضننت أنهما كانا يمزحان...
وما أقترحه عليك، أن تقومي فورا بصنع طائرة ورقية -محترمة- تزيل هذا الغم عن أبنائك ، وسأتطوع بتقديم قماش عجيب اقتنيته من سبتة -أكد لي بائعه أنه آت من الصين! ... كنت أنوي تزين دكاني به...
* * * * * *
ما أن سلم «السي عبد السلام» القماش المعلوم لأمي، وكذلك صورة فراشة ملونة، مقترحا ان تستوحي شكل الطائرة منها، حتى انهمكت في إعداد الطائرة، وتطوير شكلها، من دون أن تبتعد عن السريرالذي يرقد فيه أخي، إذ كانت تراقبه بين الفينة والأخرى. والدموع لا تفارق عينيها... وكنت أساعدها بقلب مفجوع وأقوم بكل ما تأمرني به... فلم ندري بحالنا إلى أن أدركنا آنذاك الفجر، ونحن على ذلك الحال، وكانت الطائرة على وشك الإنجاز، فتحرك أخي في سريره ثم فتح عينيه. ووجدنا بجانبه نصنع الطائرة، فاعتدل وقال:
- ماذا تفعلان
فأجابته أمي وهي فرحة لاستيقاضه معافا:
- نصنع لك يا سيدي طائرة لم يرى أحد مثلها... إنها طائرة «الفراشة» ألم تكن تريد هذا؟...
- كيف؟! صحيح؟..
فنط من على السرير، وأخذ ينظر إلينا وللطائرة مبهورا..
- غريب.. حلمت وأنا نائم بأني أطير على طائرة ورقية، في شكل فراشة، بين مئات الفراشات واستيقظت وهاأناذا أجد حلمي يتحقق.. فهل أنا مستيقظ أم لا زلت أحلم؟!

فأخذ يدي وقال لي:
- رجاء «ارحيمو» إضربيني حتى أتأكد من أني في يقضة!
فقلت مازحة:
- آه كم أريد ذلك، بعدما أحدثته لنا من قلق وخوف.. ونهضت وضربته بالوسادة، فرد عليها بأخرى، ثم تحول الموقف بيننا نحن الثلاثة إلى مزاح ولهو، كل واحد منا يضرب الآخر بالأيدي والوسائد وغيرها، وتعالى الضحك، وتغير حالنا لسرور وفرح بما أنجزناه وزوال الغم عنا..
* * * * * *
أخذت أمي الطائرة «الفراشة» وصعدت بها إلى السطح، وصعدنا في أثرها مسرعين، وقرص الشمس لم يظهر بعد، وفي أشعة الشفق. أطلقت «الفراشة» في الفضاء، فظهرت فراشة عظيمة رائعة بكبد السماء، تنعكس عليها أنوار هذا الصباح. مبرزة رونق ألوانها، وزخرفها... فوقفنا مبهورين أمام هذا المنظر الخلاب الرائع.. ولم تقم أمي بربط أي خيط حرير أو صوف بها لتلفه أو لتغزله، فقط بغرض التمتع بمنظرها.
ومكثنا على هذا الحال لزمن لا نعرف مداه، فقد نسينا تماما ما حدث لنا بالأمس بل وهل تناولنا شيئا نسد به رمقنا!..غير مراقبة هاته التحفة التي تسبح بالفضاء أمامنا..
- انطلقت وأخي نخبر من نعرف ومن لا نعرف بالحي عن «الفراشة»، وعرجنا على مسكن «السعدية» وأخبرتها بالبناء، فكادت تطير فرحا، فخرجت ورافقتنا في جولتنا، وهكذا لم ينتصف النهار حتى علم كل سكان الحي بالخبر، وحتى خارجه. وصار حديث القاصي والداتي.. وفي اليوم الموالي- الخميس- عندما امتلأت سماء المدينة بالطائرات الورقية.ظهرت «الفراشة» وكأنها ملكتهم المبجلة،.. أكبرهم وأجملهم جميعا..
وهكذا، تدفق الناس من كل حدب وصوب على دارنا، إما مهنئين، أو طالبين خدمات أمي، معبرين لها عن إعجابهم الفائق بطائرتها الورقية، بل هناك من أشاع أنها ذهبت إلى اسبانيا واقتنتها من هناك! ...واستغلت «السعدية» الفرصة وأتت لدارنا، وهنأت أمي، ثم صارت بعد ذلك تأتي وتى ما تشاء...فكان أخي «عزوز» في قمة سعادته بل تحول الأمر إلى إثارة خطبة «االسعدية» لأخي مستقبلا، كون أمها كذلك صارت تزورنا بانتظام...
تيسر حالنا وزادت الطلبيات، فاضطرت أمي أن تستعين بخياطين وخياطات أخريات وتوسعت علاقتها وتنوع زبائنها وصار بعضهم من عليه القوم أو من أصحاب «الوظائف الحكزمية».. ثم قررت أمي إطلاق «فراشة» أخرى يتكفل بها أخي عزوز، ثم «فراشة» ثالثة تحمل إسمي تساعدني «السعدية» في استعمالها، فكانت أجمل أوقات يومنا تلك التي نطلق فيها طائراتنا، ونصدح بأنشودة الطيارة، تباعا، كل واحد منا يحاول أدائها بلحن مختلف عن الآخر، في جو من الهزل والضحك والسعادة التامة...
واستمر بنا الحال هكذا إلى ما يقارب السنة والنصف، نعيش في شبه حلم سعيد، إلى أن بدأت ذات يوم تظهر أسراب من الطائرات الحربية وغير الحربية بكثافة في سماء طنجة بعدما كان ظهورها نادرا جدا.. لأن المخزن أنشأ مطارا لتحط وتقلع منه خارج طنجة.وكان ذلك بمثابة نذير شؤم، شعرت بحدوثه أمي من أول وهلة. ولم يمر وقت طويل حتى اتصل الشيوخ والمقدمين بالخياطات لمنعهن من إطلاق طائراتهن الورقية كل يوم ويقتصرن على يوم الأربعاء لإطلاقها.. فأبطلت أمي استعمال الطائرة التي كنت والسعدية مكلفين بها، فامتثل البعض لأوامر المخزن، ولم يمتثل البعض الآخر ، واستمر في إطلاق طائراته كل يوم. إلى أن حدث أن اقتربت طائرة من حينا واستصطدمت بمجموعة من الطائرات الورقية، وكادت أن تسقط على المنازل، وتعطل أحد محركيها واضطرت للنزول بالشاطئ ... بعدها انطلق «البراح» -منادي- ينادي في الناس بالمنع التام لإطلاق الطائرات الورقية لأي سبب وستطال عقوبة السجن والدعيرة "الدية" كل من خالف .. فانتاب القلق البالغ أمي عن مصير مصدر عيشنا.. فالتجأت بعض الخياطات ومن ضمنهن أمي إلى إطلاق طائراتهن أثناء الليل أو بآخر أوقات المساء أو عند الفجر قبل إشراقة الشمس. وكل هذا تجنبا لكل مكروه قد يأتي من المخزن.

 أما أخي عزوز فقد كان في حالة عالية من الغضب والاحتقان واقتسم أن لا يتوقف عن استعمال طائرته وإطلاقها رغم رجاء أمي والسعدية واستعطافهما، وحثهما أن يقوم بعملية الغزل أو اللف خارج أسوار المدينة أو بالأماكن الفسيحة كباقي الخياطين. لكنه رفض نظرا لتعلقه العاطفي بطائرته الورقية، وإن لم يظهر لهم عناده صراحة. وسايرهم بإطلاقها بالمساء أو أثناء الليل حسب الضرورة... إلى أن حل اليوم الذي يليه يوم عيد الأضحى، فاضطرت أمي للخروج إلى ضاحية المدينة لشراء أضحية العيد. وكانت تلك المرة الثانية التي تقوم فيها بذلك منذ وفاة والدي رحمه الله. فصعد عزوز للسطح بطائرته الورقية، ولحقت به في الحال أحاول منعه وتذكيره بخطورة عاقبة ما يفعل. لكنه أطلقها وأخذ يغزل بها.. لكن وبعد حين إنسجمت معه من دون أن أدري في إنشاد أغنية الطيارة، وطائرته «الفراشة» تسبح بالفضاء الواسع لوحدها كملكة تزهو في ملكها.. إلى أن ظهرت من بعيد طائرة قادمة نحونا. وما هي إلا لحظات حتى عرجت صوب طائرة أخي وأخذت تطلق عليها زخات من الرصاص، فانفرط قلبي فزعا، فصحت في أخي أن يترك «الفراشة» وننزل إنقادا لأرواحنا. لكنه رفض وأخذ يسب ويلوح بيده على الطائرة المغيرة. وفي نفس الوقت يجر الخيط لينقدها كي لا تسقط.. واستمرت الطائرة المغيرة في إطلاق الرصاص على «الفراشة» ... ثم سمعت أخي يصرخ، ثم سقط ولم أتمالك نفسي واندفعت نحوه مسرعة .. لكن ما أن لمست رأسه حتى وجدته ينزف.. ثم تمتم بشيء لم أفهمه.. وأسلم الروح.. رحمه الله.

                                                                                       القنيطرة  30/01/2006

مشـروع إنتـاج فيـلم وثائقـي
تلفزيوني في حلقتين يحمل عنـوان:
فراشات طنجة

 يهدف هذا العمل أساسا إلى إبراز مدى ضرورة عامل الصورة أو الرسم في حفظ الثرات التقافي الحضاري، بما في ذلك نقل و تسجيل الأحداث التاريخية بكيفية دقيقة، وما احدث انعدام هذا العمل أو نقصها اللفادح في الحفاظ على الرصيد الحضاري لثراتنا العربي الاسلامي..
إذ بالصدفة عثرت على صورة وضعها أحد - ضباط الاستطلاع- الانجليز، أو كما يسمونهم بالأنتروبولوجيين- الذين زاروا المغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث كانت الظاهرة الاستعمارية في أوج ازدهارها، والدول الاستعمارية ، مثل فرنسا، وانجلترا وألمانيا واسبانيا، في أوج هجومها ترسل الجواسيس أو "الأنتروبولوجيين" من عسكريين أو مدنيين، ليعدوا التقارير والبحوث مشفوعة بالرسومات ثم في مرحلة لاحقة بالصور الفوتغرافية، لاستطلاع أوضاع البلد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومعرفة تقافته وحضارته، تمهيدا للاستيلاء عليه.وهذا ما كان يحدث بأغلب البلاد العربية..
 والصورة المعينة، عبارة عن رسم لنساء بمدينة طنجة، يغزلن الصوف أو الحرير على أسطح منازلهن، مستعملين الطائرات الورقية ! ... وهذا أمر لم يدونه أحد من المؤرخين المغاربة او الأجانب، قديما أو حديثا، على الاطلاق: ماعدى هذه الصورة التي أبرزته بشكل واضح وصريح... مما أدى لغور هذه الظاهرة في مجاهل النسيان، رغم ما كان لها من انتشار بالأقاليم الشمالية للمغرب، وكذا ما لها من ثقل ثقافي وجمالي انعدم بتوقفها لأسباب قاهرة، اكتشفتها بعد بحث مضني قمت به بداية الثمانينات من القرن الماضي.أنجزت علـى إثـره قصـة - فراشات طنجة- التي أرفقها بهذا التقرير، بهدف تحويلها إلى فيلم..
 ومن المعلوم أن صناعة الطائرات الورقية واستعمالها من ثرات شعوب كثيرة، كالصين، واليابان، وكوريا، والهند، وإسبانيا وإيطاليا وروسيا وغيرها بأوربا.. حيث يحتفى بهذه الصناعة التي لم تقطع أبدا. وتقام لها مهرجانات ومسابقات ضخمة. وتغنى بها جمعيات أو مؤسسات حكومية وغير حكوميةعلى اعتبار أنها فعل جمالي وثقافي وحضاري يميز هوية الشعب ويبرز عطائه... مع التنويه إلى أن كل هذه الشعوب حافظت على ثراتها لاستعانتها المستمرة بالرسم أو التصوير في تسجيله وتوثيقه...
 والفيلم يهدف إبراز حجم ما ضاع من إسهام حضاري وثقافي وعلمي لشعوبنا نتيجة عدم توظيف الرسم والتصوير إلى جانب التدوين إلا ما ندر، أو بمجالات جد ضيقة كالطب أو الهندسة. مما أحدث بهذا الثرات انقطاعات شاذة وثقوب سوداء.. كما أن الفيلم يدعو لإعادة قراءة ما سجله ضباط الاستطلاع أو"الأنتربولوجيين" من رسومات وصور لحضارتنا وثقافتنا علَنا نُُُدرك ما يمكن إدراكه.. كما يُلقي الضوء على الجانب الإديولوجي أو المذهبي الذي منع من استعمال الرسم والتصوير إلى جانب التدوين، والذي استمر إلى يومنا هذا في نواحي أخرى مثال ما يحدث عندنا بالمغرب، حيث تُمنع إقامة الثماثيل بالحدائق والميادين العامة..
 ونظرا لسعة الموضوع وثرائه وأهميته أقترح أن ينجز في حلقتين على الأقل، الأولى تُعرض فيها نماذج من المؤلفات والأبحاث المشفوعة بالرسوم والصور التي أنجزها ضباط الاستطلاع وغيرهم من الأوربيين والاجانب عن الحضارة والثقافة العربية الاسلامية. مع طرح السؤال عن السبب الذي حال دون اعتماد الرسم والتصوير في توثيقها لدى مؤرخينا وكتابنا القدماء... وهل من الضروري إعادة قراءة ما انجزه الأجانب موثقا بالرسوم والصور- مع عرض فيلم "فراشات طنجة" - كمثال على ما نريد بيانه، وهي قصة خيالية تعتمد وقائع حقيقية تاريخية أنجزتها أوائل الثمانينات، وكان مقررا أن أنشرها ضمن مجموعتي القصصية "قصص واقعية" التي صدرت عن دار الثقافة بالدار البيضاء. أما الجزء الثاني من الفيلم فيكون عبارة عن مناقشة الموضوع مع عدد من المفكرين والكتاب ورجال الدين بالبلاد العربية ضمن إخراج سمعي بصري محكم..

 

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved