جميل صدقي الزهاوي والحياة على الأرض  – 12 –

2022-02-27

يقولُ شاعرُنا الزهاويُّ في وجود الحياة على الارض :

"وأعتقد أنَّ وجودَ الحياةِ على الارض، هو من طبيعة موادِّ الارض، فلم يأتِ إليها محمولًا على ظهر الرُّجُم من عوالمَ أُخَر كما قال احدهم .

 والارض كما علمتَ من بعض نظرياتي، لم تكن قد انفصلت عن الشمس، وهي جذوةُ نارٍ حاميةٍ، بل هي في أصلها حجارةٌ باردةٌ كانت تطوف كغيرها حول الشمس منذ ربوات الملايين من السنين، فنمت في كنفها على تعاقب الدهور نموًّا كبيرًا، وأخذ الاثير يجري إلى بواطنها ويرتد في شكل حرارة، كما ألْمَعْنا اليه فيما تقدم، ولم تزلْ هذه الحرارة تزداد بازْدياد نموها لازْدياد جريان الأثير ألى جواهرها .

 

الحياة على الأرض، هي أقدم مما يقدِّرُه العلماء بل يلوح لي أنَّ ما نعدُّهُ جامدًا من المادة فوق الأرض هو حيٌّ في شكل بسيط جدًّا جدًّا.  الحيوان إذا مات يرجع إلى الجماد، وذلك فيما يخال لي رجوعٌ إلى الحياة الأكثر بساطة .

 

وما العناصر المختلفة غير تلك الأشكال، ولا جواهرها غير خلايا بسيطةٍ لها  (بساطتها بالنسبة إلى ما فوقها)، فإذا انهدمت هذه الجواهر، رجعت إلى الكترونات هي أبسط من أشكال الجواهر التي أخالها أحياء أولية، فهي للجواهر كالبروتبلاسما للخلايا في جسد الحيوان .

 

وكلما ترقّى الحيوان، كثُر فيه الإنقسام في الأعمال .  وما الامم إلّا حيوانات ضخمة خلايا أجسادها الأفراد، غير أن انقسام الأعمال في أعضاء هذه الحيوانات لم يزل في بداءته فهو لم يبلغْ بعدُ دقةَ الإنقسام في جسد الحيوان الراقي .

 

والحياة صفةٌ لازمةٌ للمادةِ لا تفارقها إلّا أنَّها تكون في قسم منها بسيطةً وفي آخر مركبة، والمركبة تنحل إلى البسيطة، والبسيطة تتركب، وكل ذلك من مفعولات المحيط ." انتهى ما قاله الزهاوي في مخطوطته (المجمل مما أرى) .

 

في هذا الطرح يقودنا الرجل إلى موضوع  شائكٍ تحدث فيه العلماء والفلاسفة منذ القديم ولا أجوبةَ قاطعة .

 

إن الجزمَ بأنَّ وجودَ الحياة على الأرض يتعلق بطبيعة الأرض، وأنَّ عناصرَ الحياة لم تأتِ محمولةً على ظهر الرُّجُمِ أو الشُّهُبِ الساقطةِ من الفضاء الخارجي، فيه ما يخالف ما شاهده الباحثون في هذا المجال .  فلقد عثر العلماء على مكونات أساسية مسؤولة وداخلة في بناء الحمض النووي، كانت تحتويها بعض قطع الشُّهُبِ الساقطةِ على الأرض مما جعلهم يخلصون إلى أنَّ ما تتطلبه الحياة العضوية من مركبات كيميائية بنائية أصله الفضاء الخارجي .

 

ومن خلال دراسة مستفيضة للشهب الساقطة في بلدان مختلفة، وجدت مكوناتٌ تدخل في أشكال الحياة المتعددة على الأرض، لا بل أن هناك مكوناتٍ تدخل في وحداتٍ بنائيةٍ لا توجد على الأرض، مما يجعلنا نعتقد أن هناك حياةً بشكلٍ معيَّنٍ في الفضاء الخارجي، ولسنا الوحيدين في هذا الكون . أذكر هذا اعتمادًا على الإستنباط العلميِّ المدعومِ بالفهم المستنير لمناظير الدين، والفهم اللغوي لبعض الصيغ القرآنية المتعلقة بمفهوم الخلق . لقد أشرت إلى هذا التوقعِ إشارةً خفيفةً في مقالتين لي نشرتا سابقًا 1،2 .

 

إن قول الزهاوي : إن الارضَ لم تنفصلْ عن الشمس قولٌ صحيحٌ لكنه يحتاج إلى إيضاح لا أظن أنَّ الزهاويَّ كان محيطًا به أو كان قد اطلع عليه، ولو كان كذلك لأشار اليه، ولا بأس أن نتعرض له هنا إكمالًا وإيضاحًا .

 

نقول أن هناك نظرياتٍ تحدثت عن نشأة الكواكب بما فيها الأرض بعد زمن يقدر بملايين السنين من تكون النظام الشمسي، لكن الباحثين يعتمدون على نموذجين يعتبران الأشهر، أحدهما يتعلق بنشاة الكواكب الصخرية ومنها الأرض يسمى نموذج التراكم المركزي (The Core Accretion Model)، أما الثاني فيتعلق بنشاة الكواكب الغازية ويسمى نموذج عدم  استقرارية القرص (The Disk Instability Model). 

 

نموذج التراكم المركزي، وهو الذي يهمنا في هذا المقال لتعلقه بنشأة الأرض يقول أنه بعد أن تكوَّن النظام الشمسي وبدأ بالدوران، عانت المواد الداخلة في تركيبه انهيارًا على بعضها البعض تحت تأثير الجاذبية، لتتكون الشمسُ مصحوبةً برياحٍ شمسيةٍ هائلةٍ إزاحت العناصر الخفيفة كالهليوم والهيدروجين بعيداً عنها، مخلِّفةً الموادَّ الصخريَّةَ الثقيلةَ في المناطق القريبة من الشمس حيث تجمعت بمرور الزمن فنشات الكواكب الصخرية ومنها الأرض .

 

وحين يقول أنَّ الحياةَ صفةُ للموجودات، جميع الموجودات، ولكن بدرجات متفاوتة فإن ذلك يعتمد على مفهوم الحياة، فاذا كانت تعني الحركة في جميع أشكالها، فكلُّ موجودٍ هو كما وصفه الزهاوي فلا سكونَ مطلق . إن ما ورد في القرآن من تسبيح الأشياء، كل الأشياء ما يدعم ذلك "(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) .

 

لكنا نقول إذا كانت هناك مشترَكاتٌ بين المادة الجامدة والمادة الحية، فإنه ليس كلُّ ما تتمتع به المادة الحية، تتمتع به المادة الجامدة وإن وجدت عناصر تشابه بينهما، لكن عناصر الإختلاف تكاد تكون هي الغالبة . 

 

فالمادة الجامدة يمكن اخضاعها للتجربة بحرية من حيث التلاعب بها وتحويلها وتحضيرها تبعًا لما تتطلبه التجربة، أما المادة الحية ففيها عنصر الحياة الذي يكون مرتبطًا ببقية الأجزاء في الجسم ككل، فلا تعطي الحرية للتصرف دون قيود، فإذا خضعت لتجربة ما، أُخِذَ في الإعتبار أنها جزء من كل، ولا يمكن تجزئة الكل الحي عمومًا على عكس الجامد الميت الذي لا حباة فيه .

قولنا هذا لا يجعلنا نقول ألّا تشابهَ بين الجامد والحي، فكلاهما يشكلان موجودَيْن من موجودات العالم الملموس، وكلاهما يشغلان حيزًا فيه، وربما يتأثران بالمحيط بل أن بعض ما يحصل في الجسم الحي من عمليات، يمكن إعادة إنتاجه مع المادة الجامدة . نخلص إلى القول كم من جامد دخل لكي يصبح عنصرًا في بقاء الحي، لكن يبقى الجامد جامدًا، والحيُّ جامدًا تسري فيه الروح (رمز الحياة)، فإذا ما فقد الروح، عاد جامدًا بعد أن كان مادةً وروحًا، وصار مثله مثل بقية الجوامد .

 

يشبه الزهاوي العناصر الموجودة في الطبيعة وهي جامدة بخلايا حية، ولكن حياتَها بسيطةٌ، إما جواهر هذه العناصر فهي أبسط  فإذا انْهدمت، ولم يقل كيف تنهدم، فانها تؤول إلى الكترونات، وهذه الإلكترونات هي خلايا حية أولية كالبروتبلاسيميا للخلايا الحية . هنا ننبه إلّا أن البروتبلاسيميا (protoplasm) هي الجزء الحي من الخلية الذي يحتوي على مواد عضوية وأُخرى غير عضوية ويكون مسؤولًا عن عمليات حيوية متعددة . يبدو  أن الزهاوي لم يعرف أن للذرة نواةً فلم يذكرها ولم يصنفها كما صنف الذرة والكتروناتها ولم يعرج إلى مصيرها بعد إنهدام  الذرة !

 

يستخدم الزهاوي فيما كتبه تعبير الجوهر، وكما قلنا في حلقات سابقة، أنه يعني الذرة وهو مصطلح استخدمه  ديمقريطس (Democritus)  أحد فلاسفة  القرن الخامس قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني حينما اعتبر الذرة جوهر كل موجود وبنيته الأساسية . 

 

فكرة الذرة فكرة فلسفية استخدمها فلاسفة اليونان، واعتبروها البنية الأساسية لعناصر الحقيقة، لكن نظن أنَّ مفهومهم العام لها ليس بالدقيق من الناحية العلمية . ربما كان الزهاوي قد  قرأ للفلاسفة اليونان ممن تعاطى مفهوم الذرة فلسفياً .

 

  1. (هكذا قالَتْها لأهلِ الأرضِ خَلائِقُ المريخ)
  2. (مناجاةٌ في هَدْأَةِ الليل)

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved