خلال سنين حياة جياكوميتي، حتى رحيله عام 1966 كنا نستطيع أن نلتقيه في الشوارع الباريسية، تميزه قامتُهٌ الطويلة النحيلة، ورأسُهُ المنحني، لقد عاش مقاهي وبارات مونتبانما، على الاخص ليلاً، وفي كل مكان، وأينما ذهب، كان يرسم على أغطية الطاولات الورقية، حيث يتركها ليلق بها عمال المقاهي والبارات في سلة المهملات، جاهلين أن ما يودعونه سلة المهملات إنما هو إنتاج فنان من القلة المتميزين بالعمل وفلسفة الحياة .
لقد عانى جياكوميتي في بداية حياته من إهمالٍ مأساوي لا يوصف، قبل أن يُعرف وتشاع شهرتَه، حيث أُعتبر من أكبر أساطير القرن العشرين ، ولا يقل عن الفنان بيكاسو .
عرف جياكوميتي، وعلى الأخص بأشكالِهِ البرونزية المتطاولة، وشخصياتِهِ الملتوية، وبروفيلاتِهِ النحيلة الهزيلة، وانجز أيضاً العديد من أعمال البورتريت وعلى الأخص في المرحلة الأخيرة من حياته .
* * * *
لقد عرفناه فناناً من بين الندرة من الفنانين الحديثين الذي عُرِفَ بالتجديد بفن البورتريت، في عصرٍ عانى فيه فن البورتريت من إهمال كبير من قبل الجميع، وبالإضافة إلى أعمال البرونز، فله العديد من التخطيطات والرسوم بالفحم، وكذلك اللوحات .
ولد البيرتو جياكوميتي في العاشر من اكتوبر للعام 19001 في مدينة ستامبا السويسرية، وكان ابناً لرسام، وفي وقتٍ مبكرٍ اكتشف نداءاً باطنياً يدعوه للفن، وفي عامِهِ الواحد والعشرين ، بين الحربين العالميتين، استقر به المقام في باريس، العاصمة الفرنسية التي كانت تغلي بالأفكار والموجات الجديدة، بيكاسو، سترافنسكي، بيكت، جويس، كل العباقرة كان لهم موعد في باريس، واستطاع جياكومتي أن يلفت حينئذ انتباه السورياليين نحوه، وكان السورياليون مجموعة من الفنانين الثوريين المجتمعين حول الشاعر اندريه بريتون .
كانت السريالية تعتمد في جزء كبير منها على العقل الباطن، وكانت تماثيل جياكوميتي تخون مشاعره أمام الحب والحياة الزوجية، كانت له أعمال تجريدية تناولت غالباً مواضيع المراة أو كلا الجنسين، لكن باختصار كان يجتاز أعماله نوعاً من الصمت حيث نجد في أكثر الأحيان أن المرأة في أعماله تصغر وتأخذ مواقع شهوانية، وبتعبير أكثر بساطة أن المرأة كما يطرحها في أعماله، لا تتعدى أن تكون جسد، بل أكثر من ذلك أنها في أعماله تنزل إلى أبسط تعبيراتها الجسدية .
* * * *
في بداية الثلاثينيات ذاعت شهرة جياكوميتي، لكنه مع هذا لم يكن مقتنعاً بأعمالِهِ، حيث قررأان يلجأ إلى النموذج الحي ( الموديل ) في أعماله النحتية، لكن بين صفوف السرياليين كان الموديل يعني الإستهجان ، لذا كان اتجاه جياكوميتي هذا محكوم عليه بالرفض والجفاء، وبين يوم وليلة أصبح منبوذاً في باريس التي كانت تعبدَهُ، ولقد أدار الكثير من المقربين له ضهورَهم وجفوه، في هذه المرحلة بدأ عبوره الحقيقي في صحراء قاحلة، حيث لم يكن خلالها يُسمعْ عنه ابداً، لكنه مع هذا قرر أن يمضي في ترجمة ما تراه عيناه، وبقي عشرين عاماً مستبسلاً في هذا الإتجاه، غير أن مشروعَهُ لم يكن غير إخفاق يدعو للرثاء، في هذه المرحلة اللانهائية من الشك المتواصل كانت منحوتاته لم تتوقف عن أن تصغر، إلى حد أن بعضها لم يكن يتعدى البوصة أو البوصتين .
بعد تلك الفترة يشرح جياكوميتي أهمية الإخفاق بالنسبة له مترجماً ذلك بقوله أن الإنسان يكتمل بالأخفاق وليس بالنجاح . وجياكوميتي اكتمل بطريقةٍ فائقة العظمة، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، حين انبثق لديه طراز النضج في شخصيات عمله النحتي، وهذا يُتَرْجَمْ في حصادٍ من الرؤوس، الأيدي، السيقان، الأُنوف، وجمهرة من الشخصيات الهزيلة الجسم، قدمها من أعلى هامة الرأس حتى أخمص القدمين، وفي كثير من الأحيان وهم سائرون، وبهذه الأجسام المتطاولة المعبرة عن الحالة الإنسانية كان يريد أن يعبر عمّا يحسُهُ وما يراه، لكنه أبداً لم يتوصل إلى ما يريد، من بين الأشخاص الذين جعلهم نماذج لأعمالِهِ كان اخوه دييكو، الذي ظل المرافق المخلص، قرينه وضله والذي بقيت اقامتُهُ في باريس، إلى ما بعد الخامسة والتسعين، كان ساعده الأيمن، هو الذي يصهر له مادة البرونز وهو الذي يضع البتينة على منحوتاته البرونزية، وهو الذي ينظّم معارضَه، كان خلال تلك السنين يرافقُهُ لدرجة نسيان مصيره الفني الشخصي هو الذي كان ينحت الموائد والمصابيح والكثير من الحيوانات، تلك الأعمال التي أصبحت فيما بعد ذات شهرة وصيت . أما الملهم الآخر لأعمال جياكوميتي فهو زوجتُه آنيت، التي كانت موضوع للعديد من دراساتِهِ للتمثال النصفي واللوحات .
لقد كانت علاقة جياكوميتي مع المرأة علاقة بالغة التعقيد، والمرأة الوحيدة التي كان يكن لها شديد الحب هي أُمه، لقد بقي فترة طويلة من حياته مضرباً عن الزواج قبل أن يتزوج من آنيت، كان تلذُّ له مصاحبة العاهرات، وكانت شهرته تجتذب الكثير من المعجبات من بينهن الممثلة الفرنسية المشهورة مارلين دتريش، التي رغبت التعرف عليه بعدأان رأت عملَهُ الذي يمثل كلب، لكن علاقتها به لم تتطور وتذهب بعيداً لأنه كان في نفس الوقت على علاقة بشابة غامضة اسمها كارولين، تبلغ الثلاثين من عمرها، والتي كثيراً ما ظهرت في أعماله البرونزية ولوحاته، ووجود هذه العشيقة لم يعطِِ كذلك الفرصة لتطوير علاقته مع زوجتِهِ، وكانت الإثنتان تمقتان بعضهما أشد المقت وعندما توفي جياكومتي لم يترك أي شئ لهن في وصيته .
* * * *
كان البيرتو جياكوميتي على حذر من إفرازات الشهرة وتأثيراتها السلبية، لذا فانه لم ينعم بمادياتها، فحين كان بيكاسو يعيش عيشتَه المميزة في الكوت دازور ، وبراك، ويقود سيارته الروز رايز، وصديقه بالثوس يسكن قصراً فخماً، كان جياكوميتي رافضاً لكل وسائل الراحة البرجوازية .. إنه وحتى قبل شهور من وفاته كان يسكن مشغلَهُ المتواضع، في شارعٍ مظلمٍ رطب، يتدفأ على موقدٍ قديم، ومرافقه الصحية في باحة خارجية، إنه لم يقدم لنفسه يوماً شيئاً من الحياة الناعمة التي تستطيع أن توفرها له شهرته وماله ..
لم يعرف السفر ولم يمتلك سيارة طوال حياته، كان يتنقل على دراجته القديمة، إنه يؤمن بان عيشه البسيط يجعله مالكاً للحرية الروحية، لقد كان دائم البحث عن النقاء الروحي الذي يلهمه الإبداع، وكان يكرر دائماً : إنه موجود في الحياة ليفعل ما فعل، في كل يوم من حياته، بكل الأحوال وكل الظروف لم يفارقه إيوماً، وكانت لديه طاقة للعمل داخل مشغله كل يوم، دون توقف، وقلة من الفنانين من يمتلك مثابرة جياكوميتي ودأبه رغم الصعوبات .
* * * *
لقد بقي جياكوميتي على تواضعه وبساطة عيشه رغم رفعة المكانة، ورغم العبقرية التي حظى بها، وبقي على شفافية وحب لكل ما هو نابض بالحياة ، وكان يلخص أحاسيسَه وحبه هذا بقوله : إنني لو رأيت بيتاً تلتهمُهُ النيران، فانني ساقتحم نيرانَهُ لأنقذ قطة قد تتعرض للحريق بدل أن انقذ لوحة للفنان رامبرنت، إنه بذلك يعبر عن ما يكنه من احترام عميق للحياة وعدم اهتمامه بمادياتها، وهذا ما يبرر حب الناس العميق لأعمالَه لأن الإبداع الذي تكلله فلسفة كهذه لا بد أن يهب المتعة والتفاعل