يحيل العنوان على دلالات متنوعة، منها دلالة الحضور الهامشي في العملية الإنتاجية التي تعقب الحصاد، فتتم التصفية للحصول على المنتوج، ويغنم الفلاح الحبوب ويبقى الهشيم حصادا لمن لم يشارك في دورة الإنتاج، ولم يتفاعل مع دورة الحياة، فيكون حضوره للمشاركة والتفاعل فقط، ولا يحصل في حضوره إلّا على الهشيم من كل الدورة الإنتاجية .
هذا هو واقع النقد العربي الحديث، فهو مشارك غير منتج داخل الدورة الإنتاجية للنظرية النقدية، ينقل، يترجم، يتابع، وفي كل هذه العمليات نحصل على نموذج مقارب أو مختلف عن النموذج الأصلي لأن عملية النقل والإستنساخ تخضع لثقافة الناقد واختياراته، فثقافته تفرض بداية تطويع النموذج لإعادة إنتاجه بما يتوافق مع مكوناتها ومحيطها وهو ما يجعل الإشتغال على الأصل مباشرة أمرا في غاية التعقيد إن لم نقل مستحيلا، لاختلاف المعطيات والتصورات والمنطلقات، واختلاف القضايا الأدبية والمشكلات المعرفية والاجتماعية المستهدفة منهجيا.. وحين تتم عملية النقل نحتاج إلى قناة خاصة لتكييف المنهج، ومعطياته حسب متطلبات واقعنا وقضايانا، وهذه نقطة مفصلية إذا لم يكن الناقد مستوعبا للإختلاف، وذكيا في تنزيل المعطيات ونادرا ما نجد هذا الصنف، وحتى إن وجد فسنكون أمام قراءآت متعددة ومتنوعة للمنهج، تربك المتلقي وتطرح إشكالاً أكبر من ذاك الذي نبحث عن حل له، فتصبح الأزمة مضاعفة تحتاج إلى فهم ومؤسسات تشتغل، أولا على فهم طبيعة ثقافتنا العربية التي تفرض نفسها على الناقد عبر معطيات تاريخية ولغوية وحتى اجتماعية.. وهذا ما يفسر القراءآت المتعددة للتراث بهدف تطويعه وإعادة صياغته من خلال تأويلات تخرجه من أرضه وتحرف أحيانا عن مساره بهدف تطويعه للمسارات النقدية الحديثة . والمشكلة هي أن الدورة الإنتاجية تتطور بسرعة تتجاوز القراءآت التي اعتمدت نظريات أصبحت متجاوزة، فينفلت التتبع ويصعب الإمساك بالمسار المتحول، مما يدفعنا إلى إعادة القراءة والتأويل ليصبح [الشِّرْب المُحتضَر] نوعاً من اللعبة الصعبة التي يمارسها الناقد الحداثي . فحضور الإرتواء يتحول إلى رحلة عذاب سيزيفي، لا تكتمل دورتها المعرفية ولا يرسو سفينها على شط، وتبقى ثقافة الناقد ومرجعياته صخرة منفلتة تسجل لعنة الشراح في محاولة إنتاج رؤية جديدة لتراث يستعصي على التأويل مع قابليته للتفاعل والإستمرار . تراث حين نهجره يسكننا وحين نقترب منه يبهرنا وبين الإمتلاك والإنبهار يصعب الإنفلات فنحاول إخضاعه - رغما عنه - لواقع انفصل عنه، ولمفاهيم نبتت خارجه، فلا يكاد يثمر حتى تذوي الغصون، ولا نحصل من حضورنا معه وفيه إلا على الهشيم .
هشيم المحتضَر نتيجة طبيعية لدورة إنتاجية تخضع للتلقي عن الآخر/المنتج، ثم التفسير الذي يدفعنا إلى فرض رؤية خارجية تتفاعل معها النصوص لحظة الإنبهار، فنروج لقراءآت (حداثية) سرعان ما تتجاوزها دورة إنتاجية جديدة تجعل من كل الجهود السابقة حصاد هشيم نظفر منه بقدر حضورنا ومتابعتنا .
هذه الدورة السيزيفية الملعونة تثير الكثير من النقاش حول طبيعة العلاقة بين النقد والتصور، الذي ينتج قضايا نظرية وتساؤلات منهجية، تنطلق من انشغالات الناقد وتصوراته للوجود والعالم ليبدع ويؤسس ويسهم في التحول والتغيير والنضج .
إن المشاركة الفاعلة تقتضي تصورا ورؤية واضحة لعلاقة الناقد بوجوده ومحيطه.. هذا التصور يثير أسئلة ويطرح إشكالات، فتنفتح – من خلال قوة السؤال ووضوح الإجابة – مساحات مجهولة، وآفاق جديدة، تصبح عبر مرور الزمن مستهلكة وتقليدية ثم تتجدد عبر مشاركة المجتمع وفاعليته في تنشيط دورة الحياة .
نخلص إلى أن العملية النقدية مرتبطة بدورة إنتاجية تنطلق من فاعلية المجتمع ونشاط المبدع ومساءلات الناقد، وأي خلل بين هذه المكونات يشكل انفصاماً وشرخاً معرفياً يجعل الإبداع معزولاً والنقد نقلاً واستنساخاً وتجربة متعالية بينما يعيش المجتمع انشغالاته وهمومه الخاصة . فبقدر حركية المجتمع وتطوره تنفتح آفاق الإبداع وتتوسع أسئلة النقد وتتجدد المعرفة... أما حين نحاول استجلاب نظريات أنتجتها أسئلة واقع آخر، بتصورات مختلفة وقضايا لا نعايشها ولا تعايشنا إلّا بقدر الحلم الذي نعيشه لحظة التلقي، فإننا نشارك الوهم ونبني قصورا من رمال .
إن الوعي بهذا الإشكال لا يعني أبداً ألّا أن نعيش الحلم وألّا نتفاعل مع القضايا النقدية العالمية، أو أن ننتظر فاعلية المجتمع وتطوره.. ولكنها دعوة أولاً للمشاركة بوعي ومسؤولية في إنتاج مقاربات نقدية فكرية تستفز الوعي الجمعي نحو الحرية والديمقراطية ضد كل أشكال القهر والعنف.. وتثير أسئلة وجودية قد تكون فاعلة في التحول والتغيير . وهي ثانيا دعوة للمشاركة في دورة الإنتاج ومراجعةً لانعزال الناقد في متخيلاته، ومشاركته بصفته مثقفا في تحمل المسؤولية تجاه المجتمع والإنسانية .