بدأ يوم آخر، وصوتها في هدوء ونغمة ساحرة، كحفيف أوراق الخريف، كصوت ماء يجري، كمطر يعزف نغمات إيقاعه ثم يغيب ويهدأ، هكذا رآها أول مرة وهو يُراقب حركاتها وانفعالاتها، صوتها ولونها!.. حبات الألماس التي تتزين بها ورقصها المستمر...
كان الصباح يتمايل على أكتاف الجبال، والشمس تدغدغ بدفئها الأرض، فيتراقص العشب وتغرد الطيور في أحضان الكون...
كان يجلس على كرسيه الهزّاز في حديقة تمدُّ كفيها للأرض وهي أمامه كالريح التي تحرك الأشياء تحريكاً مزعجاً وهي الحرون التي تغيظه، وكأنها تشير بأصابعها الى نهاية حتمية لا بد منها... كلما أغمض عينيه رآها في مخيلته كريح ساكنة على يديه. غريدة كروح تتمايل قبل غروب شمس موحشة غامضة تجعله يدرك صباحه من مسائه...
لا زال يراقبها!.. يتأملها!... كما كان يفعل من سنين. كان يراها فاتنة بلونها الفضي، المُشع وهي تلاعب أصابعها بنشاط وحركة تثير فيه لذّة النظر اليها غير مُهتم للوقت، وغير مُهتم للزمان، وهو ينطلق لعمله بعد ان يودعها ومن ثم يعود فينام على صوتها الساحر لتغني له فجراً، فيستيقظ والنشاط يملؤه لينطلق الى عمله صباحاً. هكذا مضت السنين قبل ان يتقاعد ويُنهي خدمته العسكرية...
صوتها كان يُثير فيه لذة الحياة... أغمض عينيه بعد ان استرجع ذكرياته في تنهيدة متقطعة، وكُرسيه الهزاز، يهز ببطء كأنها كرسي عجوز في شيخوخة مخيفة وهي التي لم تعرف لذة الهدوء يوماً أبداً...
يا الله!.. صوتها بدأ يزعجني، شدَّها الى صدره لعلها تتوقف لكن عبثاً صوتها المُزعج في أذنيه يُطقطق... يُتكتك كأنه منشار خشب يئن كل لحظة من تقطيع لم يمل منه، ولم يشعر في ضجر يوماً، فقد كانت تتغلغل في روحه وجسده كلّما سحره صوتها، فيستفيق كي لا يقف قلبها عن الخفقان لأجله...
عبثاً حاول ان يجد الهدوء والسكون ليستريح من صوتها الذي يضمه مع ذكريات هاربة منه اليه، نظر اليها نظرة المتألم!.. تراءى له أنها تجمّدت، بعد ان بعثت في نفسه شعوراً بالموت المقترب منه.. ليتني لم أحلم بها يوماً.. ولم تكن بدء حياة جعلتني أشعر أنني أسير وسط خط عمر كأنه الصراط الذي أخاف الوقوع عنه... أصبحت كالمجنونة!.. كم أتمنى التخلص منها وهي ترتجف أمامي تارة، وتتجمد تارة أخرى ووجهها القبيح يجعلني لا أغمض عيوني في أمان، بل لا تجعلني أستريح هي دائماً تجعلني أتقلّب في سريري خوفاً منها... غمرتها الشيخوخة وباتت منهوكة القوى. أمسكها بيد ترتجف ورماها بعيداً ولم يلبث صوتها أن تلاشى تاركاً خلفه ذكريات..
أحس بالندم، مشى وشعاع الشمس عند المغيب بدا خجلاً. مشى نحوها هادئاً.. ساكناً.. حزيناً نظر الى عقاربها التي لم تهدأ طيلة سنين أمسكهم بقبضة يده ووضعهم في جيبه وعاد الى كرسيه بعد ان خيم السكون كأنه سكون المقابر لكنه سرعان ما ارتجف جسده النحيل، وصراخ زوجته في أذنيه يسري في جسده بعد قشعريرة خوف أصابته... أين هي أيها العجوز؟....
ضحك.. هههههه ضحكة خجولة وقال: هي في قبضة الريح...
بقلم ضحى عبدالرؤوف المل