أمام هذا الزخم غير المحدود من ملايين الأغاني التي تنسب نفسها دوما لفن الراي، هل يستطيع أياً كان يا ترى أن يرسم لنا ملامح أغنية الراي ويضعها أمامنا على الطاولة، ليس فقط من أجل فرز الغث منها من السمين، ولكن كذلك من أجل تحديد مناطقها الجغرافية التي تنشط وتتحرك بها؟ أي تحديد إطارها الجغرافي الذي نشأت فيه وتحاول أن تكون منه ( الإطار الوحيد اليوم والمعلوم هو الملهى والكباريه ) . هل كان بالإمكان مباشرة عملية التشريح، وكيف ستكون النتيجة إذ حدث ووجد الباحث نفسه أمام جسم لا يمت بصلة لأي كائن، بل هو عبارة عن فوضى من المعدات والأسلاك الشائكة حتى لا نقول الأذواق الباعثة على التقزز والفزع ؟ هل يمكننا تصنيف كل ما يخرج إلى الوجود اليوم في خانة واحدة وإطار مضبوط والقول بأن هذا هو الراي؟ أكيد لا، لأنه بحكم التداخل الرهيب مات صراحة الموطن الأصلي لهذا الطابع الفني والذي كان يبشر بقفزة جديدة في مجال الفن الغنائي مع بداية ثمانينيات القرن العشرين . لأن الصعود والتوجه لمنابره يومها كان يتطلب شروطا ما . فلم تعد هناك أغنية وهرانية بالمعنى الصرف ولا حتى بلعباسية أو مستغانمية، ولكن، للأسف، صار من هب ودب يفتح لنفسه ورشة حرة يُفرغ بها ما يشاء من أفكاره البالية والمتهافتة . فلا هي مدرسة من مدارس الفن ولا هي من مدراس الجن، بل خليط من الهتهتات النفسية والتصورات المراهقة والعنيفة، الحكم والغلبة فيها للآلات الموسيقية ولا شيء غير ذلك .
لقد وصل الحال ببعض المناطق المعزولة وفي أقاصي الحدود أن تصدر بعض الأغاني وتنسبها إلى هذا الطابع الذي لم يعد كذلك بل صار هجيناً وعلى شكل تحفة مشوهة من كل الجهات . هل كل هذا يحدث باسم الحريات الفردية وفلسفات الذات التي تناشد الاعتلاء والتحرر بحجة أن العالم قرية صغيرة ؟ إن الكثير من الشباب أصبحوا الآن يستغلون ويستعملون التكنولوجيا استعمالا سيئا لا في صقل المواهب والدفع بها نحو التألق، بل اتخذوها وسيلة لفرض الذات كبضاعة تحاول إرغام الجميع على تقبّلها، وهو للأسف الشديد ما لم يكن لها . ورغم ذلك واصلت معركتها الشنيعة هذه لا لشيء سوى أنه لا أحد بقادر على رفض هذه الجعجعات التي هي بلا شك بدون طحين . ولأن هؤلاء الذين يدّعون أنفسهم بالفنانين والذين أغلبهم يتخفّون وراء التطور الشنيع لصناعة الآلات عاجزون حقا على الظهور للواجهات والإتيان بألحان جديدة تعتبر إضافة نوعية سواء للموسيقى العربية أو الجزائرية، بل هم يركبون ويفبركون جهود الآخرين بطريقة كيميائية ويمتهنون التمويه على خلفية أنهم يجتهدون في صناعة فن يليق بالذوق العصري، فصارت أعمالهم شبيهة بجرع التخدير والتضليل غير محترمين بعض المقاييس المتعارف عليها ولا الخطوات التي بإمكان أي فنان ( إن كان كذلك) أن يمشي حافي القدمين على جمرها؛ فراحوا يتبعون كل ما هو أسهل وما هو أسرع وكأن الفن بالنسبة إليهم هو ألا تتوقف، فقط يجب التواصل والإنتاج أكثر والسيطرة على الساحة .
هكذا بتعبير بسيط يبدو المشهد العام حتى لا نقول سوق الأغاني التي غالبا ما توصف بالهابطة لأنها لا تخدش الحياء فقط نظير كلماتها المبتذلة ونغمها النشاز، بل حتى أنها لا تمت بصلة لأي نوع من الفنون، بل غالبها تقليد أعمى لبعض الفرق الأوروبية الشاذة .. ونظن من كل هذا.. أنه أحد الأسباب الهامة التي جعلت الأعمدة والعمداء يسحبون حضورهم ويختفون دون سابق إنذار، وفي قلوبهم وخواطرهم ألف حسرة وشجن .
إن التدفق الديموغرافي في الجزائر هو أهم الأسباب الرئيسية التي أعلت من شأن التميّع، فلم تعد هناك نخبة أو فئة ما يُنسب إليها الفن كرسالة أو قضية، بيد أن القلة التي كانت تنتج الغناء سابقا كانت رزينة وثقيلة وليست متسارعة متهافتة . لأن أغنية اليوم هي صورة عاكسة بشكل مضبوط لتفكير أكبر الشرائح الاجتماعية بل تترجم اللب الحقيقي للمنظومة التفكيرية لديهم . وربما الظاهر لا تقتصر فقط على الجزائر بل حتى في مصر وتونس والمغرب إلى درجة أن الحابل اختلط بالنابل .
ومثلما تندهش من سلوكات وتصرفات الكثيرين داخل المجتمع، كذلك تصدمك الطرائق التي يتغنون بها وهم يعتقدون بأنه غناء، لكنه في الجوهر مجرد تقارير يومية جافة عن أحوالهم الشخصية، مسجلين ضدهم وصمة عار، وهي عدم الوعي بقضايا العامة .
المصدر: صحيفة الحوار الجزائرية