جسر بين العوالم

2016-07-07
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/df3d1f51-bf5f-4200-85e3-470c6af2b5f7.jpeg

" لا ننسى شيئا، لا شيء على الإطـلاق
نتعود فقط
لا تلك الرحلات ولا تلك الســفن
ولا تلك الأسفار التي من مشهد إلى مشهد
ومن وجوه إلى وجوه
كل هذا وكل شيء
لا يعرف كيف ينسينا
بل لا يمكنه أن ينسينا. ...."
جاك بريل
أين  أنا ؟؟.. 
في المغرب
 في بلجيكا
 في 
" بروج " حيث حياة ثانية  
 
كم يروقني الهروب، من حي لحي، من مدينة لمدينة، من مجتمع لمجتمع، هو العد العمري، أراوح بين حدي معادل لجسد يرفض أن ينكسر، وقوة تولد في الصعب مني . أستعيض بها عن أزمنة افتقدتها هناك، أبحث عنها  في أمكنة أخرى من العالم .
ساقني القدر لبروج 
 
في مدخل المدينة تستقبلك العربات " الكوتشي "  ولعل كلمة كوتشي موجودة في جميع اللغات اللاتينية، وتعني باللغة الإسبانية " العربة " اللفظ الذي يحيلك على تساكن الحضارات العربية والغربية " الأندلس "، تترحل بك العربات في معابر المدينة وتعيدك لتاريخ مضى، تعيدك لألف ليلة وليلة، يعيدك جوها لروميو وجولييت لعاشقين خلد عشقهما وأوغل بالسفر فينا بعيدا . عبرها نتنقل من زمان لزمان، ومن مكان لمكان، تحيلنا العربة، أو الكوتشي على الأعراس والحفلات للنزهة في معابر المدينة، فنتقمص دور الكونتيسات والنبلاء، على شوارع فيينا وروما وتونس ومراكش وغيرها من المدن العالمية .
تكشبيلة تولولا،  كنّا نغنيها في أفراحنا ولهونا وأعراسنا صغارا وكبارا، نساء ورجالا،  لازال لحنها يسكن آذاننا الى يومنا هذا، وكلماتها العجيبة التي لم نكلّف أنفسنا عناء فهمها، كلّ ما كانت تعنيه بالنسبة لنا كان الفرح واللهو وسهرات الأفراح والأعراس ، بعضنا كان يظن أنها خرجت من الملاهي الليلية كالكثير من الأغاني الشعبية الأخرى والتي تضطر اللجوء للرمزية هربا من الرقابة الاجتماعية .

تكشبيلة توليولها، ما قتلوني ما حياوني، ذاك الكاس اللي عطاوني، الحرامي ما يموتشي، جات خبارو في الكوتشي 
ما هو سر أغنية الكوتشي التي أحالتني عليه بروج ؟؟..
الأغنية تتحدث عن مأساة المورسكييين عن تاريخ مضت عليه أكثر من خمسة قرون، أحكي لبروج تاريخي:
أحكي لها  فصلا من حياتي، فصل مر عليه أكثر من عشرين عاما . 
أقف ما بين ضفتي بحرين، الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، من هنا عبر عبد الرحمان الداخل، أشدو قصيدته :
تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلةٌ .... تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلدِ النّخلِ 
فقلتُ شبيهي بالتّغربِ والنّوى .... وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتٍ فيها غريبةٌ .... فمثلكِ في الإقصاء والمنتأى مثلي 
 
أترك طنجة متجهة لتطوان تهدر السيارة، تاركين خلفنا مدينة تطوان متجهين نحو "مرينا اسمير" الحي المشتهى، ونحن نعبر البوابة التي يقف على مشارفها تمثال برونزي لبطل لم ينسه التاريخ، إنه طارق بن زياد سأرى هذه الليلة حياة أخرى، غير ما رأيت في حياتي؛ حياة سرية لأناس خصوصيين . 
  وأنا أعبر المدخل، استوقفت نظري العوامات المتراصة، واليخوت الباذخة، تتلألأ مصابيحها، وتنعكس أضواؤها على صفحة الماء، فتبدو الموجات الهادئة للبحر المتوسط، في هذه الجهة منه، وقد تداخلت معها في رقصة مصحوبة بإيقاع خافت ومـغر. 
"اتريلير" مايكل جاكسون ــ على الحاكي تمزق بكارة  المكان الصناعية، وصاحب اليخت يراقص زوجته على هذا الإيقاع،   تلتفت زوجته إلى أصدقائها وتبتسم كأنها لا تطمئن لنظراتهم، تنفلت من بين يديه متذرعة بالإشراف على  بيفيه  اليخت الذي سيمد بعد قليل، يقبلها ويتركها تنفلت من بين يديه، يعب صاحب اليخت بضع جرعات من خمرته، ثم يرفع قنينته عاليا مرددا : 

أبحر في  تواشي الميازين، في توشية:
«ياساكنا قلبي المعنى/ وليس فيه سواك ثان » 
لابن العفيف التلمساني.
هؤلاء في قلوبهم غير ما في قلبي 
ثم ابتسم.
تتابع قوارب النهر يباغتني  موريس متيرلنك 
يسألني  : عم تبحثين ؟؟..
فابتسمت له ابتسامة الألم
هل يمكن يا موريس أن نتساكن معا أنت عبر مسرحية العميان
و أنا عبر اللوحة 
لقد رسمتها منذ عام .
 ذاك هو العالم الذي جسدته الفرشاة، حرب كونية قادمة .
حيث تعرض أمواج البحر أوجها بشرية لنساء وأطفال ورجال ذات ألوان وردية باردة بها لطخات من أصفر فوسفوري، أوجه  تفيض بها أمواج البحر الباهتة الزرقة، هنا تعكس الموجة جسد امرأة يميل بنصف دائرة، وينتصب جذعها إلى أقصى ما يمكن أن تمده الموجة، انفراج الساقين يتسع، ويدها اليمنى تجذف . تبدو لطخة من الضوء على مشد الشعر الأصفر الباهت، ترتسم على ملامحها بسمة خفيفة برغم الموجة العاتية . وموجة أخرى تحمل صورة لشاب تبدو على وجهه مسحة من الذعر. بينما  موجة أخرى تحمل وجها لشاب يبتسم، يرتدي بدلة بيضاء تكسر زرقة الموجة . 
دعاني موريس  لوليمته : " مسرحية العميان " 
فابتسمت له ابتسامة الألم، ودخلت مسرحه
يقول أحد العميان :
أتصور أنه الليل . وحين تشرق الشمسُ، أرى خطًّا أزرقَ تحت جفنيّ؛ مرّةً رأيتُ خطًّا منذ زمن بعيد. أما الآن فلا شيء سوى العتمة”.
ويجيب أعمى آخر: «أما أنا، فأدركُ أن الساعةَ قد تأخرت عندما أجوع، وأنا الآن جائع”.
يقول أحد الكمه: «انظروا إلى السماء ربما تبصرون شيئًا !”.
يبدو أن هذا الحبس أو القيد، إن جاز التعبير، يمتد إلى اللغة نفسها، التي لم تعد تلعب دورا قياديا مثلما في باقي النصوص المسرحية، وصار الغرض الوحيد منها هو الوصف، والشعر. وإن الكلمة فيها، تنبع من أعماق الإنسان بشكل مجازي وقوي للغاية، وتسعى لتعريف هذا الذي لا يعرّف:
شعرت أنه كان يبتسم بكل جدية، سمعت أنه قد أغمض عينيه، وإنه يريد أن يبقى صامتا، أردت أن أرى، وأن أسمعك”.

تهتفُ العمياءُ الشابّة: «أشعرُ بالقمر فوق يدي”.
فيقول الأعمى الأكبرُ سنًّا: «أتصور أن هناك نجومًا، فأنا أسمعُها”.
فيجيبُ آخر: «لا أسمعُ إلا صوتَ تنفسنا!» ثم تهبطُ طيورُ الليل على أوراق الشجر فيقول أحدهم: «أنصتوا! أنصتوا! ما الذي يتحرك فوقنا؟ ماذا تسمعون؟.
يستمرون في حيرتهم، حتى يقودهم الكلبُ إلى جثمان الكاهن، فيتملكهم الرعب من المجهول، ثم يحاولون الاستدلال بالطفل الوحيد الذي يرى، لكنه لا يقدر أن يحكي عما يرى . وتنتهي المسرحيةُ بأن تهتفُ العمياء العجوز: "الرحمةَ!" ثم سكون مخيف، ويجهشُ الطفلُ بالبكاء .
فيجيب آخر: «حدث شيء بيننا وبين السماء”.
يعيدني مرشد القارب لجو الرحلة، يطلب منا أن ننزل لزيارة المتحف .
يقول الدليل :
هنا (مقطع فيديو) اسمه جسر المحبة، اعتاد كل من يتزوج في هذه المدينة اخذ صورة تذكارية على الجسر، لموقعه المميز. ومنظره الجميل
http://www.keek.com/!azz6cab

 
بروج تفتح أبوابها ثقافةً وفناً ومعماراً 
 
هي منطقة تتكون من ممرات مائية وتسمي بفنيسا الصغيرة، أجمل الرحلات فيها هى القوارب النهرية فى معابر نهر اسخيلد 
يقال أن اسم المدينة مشتق من Hand Werfen  وتعني إرم اليد، حيث تقول الأسطورة إن عملاقا كان  يقف بمدخل المدينة و يقطع أيد البحارة الذين يرفضون دفع الضرائب إلى أن جاء بطل شجاع قطع يد العملاق ورماها في البحر .
يتابع المرشد : أفلح الفن الفلامنكي  في أن ينتصر على الحدود الجغرافية فتم العناق بينه وبين بلدان من العالم فلوحة الأقنعة العجيبة للفنان جيمس أنسور البلجيكي (James Ensor) وقصيدة الشاعر السويسري كريس تانسبرج (Kris Tanzberg  ) هي عناق بين بلدين انتصرا على الحدود الجغرافية وجعلاها تتساقط، حيث إن مقطوعات القصيدة تعكس تفاصيل اللوحة وتحولها إلى مرايا تنعكس عليها أمراض المجتمعات في الماضي والحاضر وما تشهده العصور من تحولات فيها للقيم .

  
لنتأمل الأقنعة ونقف عند كلمات القصيدة، ندلف هذا التساكن الصباغي الشعري لنتأكد مما تطرحه اللوحة عبر الأوجه المقنعة و القصيدة عبر التظفير الشعري الذي أفلح في أن يتماهى مع الصباغي، نقرأ هذا المقطع من القصيدة : 
من أين أيتها الأقنعة الفاقعة اللون، يامن تؤمنون إيماءات عاجزة ؟
إلى أين يا نواطير الحقول، يامن تنقصكم الآذان والأنوف؟
لا مراء
أنت قادم من مجلس التعليم، وأنت من الأسقفية العامة
وأنت من وزارة الإرشاد القومي وعلم الفحش
لا مراء
انتم مشغولون بالدعوة والتوعية للإنقاذ، للحضارة
أصابعكم تشير للمحنة المائلة على الجدار
لكنكم بلا عمود فقري
جباهكم تتلبد بتجعيدات المفكرين، لكنكم بلا مخاخ
ارفعوا مصابيحكم البائسة كما تشاؤون، لقد انطفأت ناركم
الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلم”، هذا ما قاله المؤرخ الإغريقي بلوتارخ، إنه  تساكن أعلنه الإثنان، فالقصيدة تسكن لوحة، واللوحة تسكن قصيدة، وهذا ما اشتغل عليه الفكر الفلامانكي . 
تأخذني من عالم الذكريات لوحة الفنان بيتر بروجل الهولاندي والتي رسمها عام 1568 إنها العالم الساخر من الحياة الاجتماعية . الفكر الفلامانكي يقودنا لنستعيد لوحة العميان الذين يقودهم أعمى، نستعيد معها ديوان " الليل يسطع كالنهار" إنه التساكن بين القصيدة واللوحة، فهو نفسه الموضوع الذي اشتغل عليه الكاتب والشاعر إريش لوتس الذي فقد بصره في الحرب العالمية الأولى ونشرت هذه القصيدة عن عميان برجيل في ديوانه  : والليل يسطع كالنهار 
الجرس يجلجل في أرجاء البيت
والرعب يرج فؤاد الليل الساكن
وعلى مضض يجفو النوم جفوني 
في الحلم رأيت الصورة 
آخر صور الرسام بروجيل 
نحو الموت الداهم تتعثر أقدام رجال ستة 
الكريات بتجويف الأعين جوفاء 
بغير بريق
وشعاع الحي كذالك مطفأ
والكل تشبث بقضيب وتحسس وجهة دربه
 
أنهى الزورق الرحلة  بنا عبر معابر مدينة بروج فتذكرت نصيحة الشيخ أبي نواس للحسن البصري عندما سأله هل تسمح لي يا شيخي أن أقول الشعر ؟؟ قال الشيخ : تبد ــــ  اخرج إلى البوادي ـــ لأنها كانت يومها حاضنة الشعر، واحفظ كذا مئة بيت شعري .
نعم يا شيخ أبي نواس، يا شيخنا عبر العصور لا تكبر فينا المعارف إلا بالسفر في الكوني العام، أن نؤسس العالم الداخلي، و أن  نفتح كوة في جدار وعينا الداخلي، وأن  نعاين منها العديد من التأويلات المختلفة، ونعطي لأنفسنا حرية إعادة  إنتاج العلاقات الداخلية بين مفردات الواقع، لخلق مساحة أكبر من الانفتاح الكوني . فنرى نفس الأوضاع الحياتية تعاد عبر أطراف الأرض بشكل من الأشكال .
ذلك قدرنا المشترك 
زهرة زيراوي كاتبة وفنانة تشكيلية  بروكسيل   

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved