اضطربت، ارتجفت وارتعدت فرائصها دهشةً عندما رأتْهُ يقف حارساً للمعمل المقابل لبيتها.. هذا الذي لم يستطع أنْ يحرسَ يوماً حبّهما؛ كيف له أنْ يقف وقفتهُ هذه، وأن يطرق بمدقّات الماضي ذاكرةَ عمرٍ وعشقٍ لم تفلح الأيّام أبداً أنْ تخفي معالمها..
رمقها بنظراته الذابلة وابتسم، أراد اختصار مراتب الحبّ ومراحله التي عَبَرها وفكَّرَ أنْ يبدأ الآن معها حيث توقّفَ مرّةً..
أربكتها دهشتها، وناداها صريخ أولادها، فتنازلت عن الذكريات وهبّت لانجاز مهامها اليوميّة تشتعل حنيناً وتحترق صمتاً.
تراه عبر النافذة يراقب بيتها وتحرّكاتها.. يضحكُ مع أطفالها في الخارج ويداعبهم ويحادثهم. وقفته لا تتغيّر ونظرته وابتسامته محاولةٌ مكررّةٌ لبدايةٍ جديدةٍ لعلاقةٍ قُطعتْ عنوةً ولم تنتهِ، عندما زُوِّجَتْ لشِبْهِ الرّجل الذي لا يفقه منها إلاّ جسداً يئنّ تحت وطأة العَقد المكتوب والشّهود وما وراء السّماء وما أمام البشر.
أرواحهما لم تتجاذب مرّة.. كان يعجز لسانه عن تهجئةِ حرفٍ واحدٍ من أبجديّة الحبِّ، ظنّتْ نفسها أصيبت بالصّمم فلم تعد تسمع إلاّ بكاء الصغار وصراخ شِبه الرجل..
واليومَ نجحتْ ابتسامة "فيّاض" وتحيّته الصّباحيّة بمداواة أذنيها، تحيّةٌ سكبت فيضاناً من المشاعر المتجدّدة.. ورجعت "حليمة" إنساناً، لوجودها معنى، لها قلبٌ يخفق وجسدٌ يتعطّر ويتجمّل..
وشِبهُ الرّجل لم ينتبه يوماً لحُسنها، لهدوئها، لدفئها .. كان ينظر إليها من خلف عدستين غاضبتين تنظران دون أن تريا شيئاً.. شِبْه رَجُلٍ، شبه أخرس وشبه أعمى.
وهذا الواقف هناك، يخترقُ ببصرِهِ وببصيرته كينونتها...
لم تضع لها سلّم أولويّات، فهي منذ زمن لم تعد تُسَلّم بالمعطيات الترتيبيّة، لم تعد ترى الماورائيّات لأنّها أدارتْ ظهرها لحياةٍ عانَدَتْها قبل أربعةَ عشرَ عاماً.. لم تحاول أنْ تضع المبررات، ولم تفكّر أنْ تخسرَهُ ثانيةً..
و"فيّاض" نسي عائلته ووقفته، وأصبحت مهمّته الرّسميّة الجنون. فاض جنوناً فغمر روحها وعقلها وجسدها.. لم يوقفهُ سدٌّ ولم يعرقل سيرهُ لا نصيحةَ أحدٍ ولا استجداءَ زوجتهِ ولا ضحكات أطفالِهِ، فاضَ فأغرق الشّطين.. لا زرعاً جديداً سينبت، ولا محاصيلَ ستنتج على ضفاف الخطيئةِ.
وشِبه الرجل بقيَ شِبهاً، تركَ مهمّة الثّأر لعِرضِهِ لأخوة "حليمة"، لقد كبّلتْهُ بفعلتها وضعت الأصفاد في يديه، ألقتْهُ في اليمّ مكتوفاً ثمّ قالت له إيّاكَ أنْ تبتلَ بالماء.. نجا من الغرق.. زحف نحو الشاطئ بشبهِ خديعةٍ عندما جذب الأيادي التي مُدَّتْ لنجدتهِ نحو الأسفل، نجا هو.. وغرق إخوتها، طعنوها بسكاكين الشّرف كما طعنتهم.. انتقموا من أعضائها.. إرباً قُطّعتْ وقَدّموا له قلبها على صينيّة الوهم.
كبرَ أولادها في ظلّ النافذة.. تقوقعوا على ذاتهم لأنّ النور كان يؤذي عيونهم ومشاعرهم.. لم يبكوا يوم قتْلِها، رقص ابنها فرحاً لأنّ أحداً من أصحابه لن يناديه بعد اليوم بأيّ لقبٍ يبدأ بكلمة "ابن.." فهو ليس ابنَ أحدٍ، لا شِبه الرّجل ولا خيال المرأة؛ هو الآن حرٌّ، طليق، يمحو مأساته بخيوط الدّخان تتكاثف فلا يرى شيئاً وبالسّلاف يفرّغ رأسهُ من الأحزان..
والابنةُ الكبرى لم تبكِ والدتها، إنّما بكتْ حظّها، فحُسنُها يسلب العقول، لكن الجرّة العربيّة تأبى إلاّ أنْ تُقلَبَ على فمها.. وأنْ تُبقيها في البيت ترعى شؤون الصّغار.
وشبه الرّجل عليه أن يستعيد أشياء كثيرة غابت عنه، وأنْ يُكملَ هندسةَ حياتِهِ شبه المنحرفة نحو العدم، تعرّفَ على امرأة منسيّة لم يحبّها أحد قطّ، تزوّجها، وحافظ على شِبهِ عادةٍ مسائيّةٍ.. فكان يسير معها مختالاً أمام أبناء القرية يمسكُ يدها بيدهِ ليشحنَ نفسهُ طاقةً كبريائيّة.. وباليد الثانية يتمسّكُ بعلبةِ مشروبِ طاقةٍ ليحوّلَ شِبه ليلِهِ لحقيقةٍ!.
راوية جرجورة بربارة
• أديبة فلسطينية من أبو سنان، الجليل الغربي
• خرّيجة كليّة الآداب جامعة حيفا 1994، حاصلة على اللقب الأوّل في الأدب العربي والتربيّة.
• حاصلة على اللقب الثّاني بامتياز وتفوّق ( كليّة الآداب-جامعة حيفا 2004) موضوع أطروحة الماجستير: " قراءة مغايرة في ديوان الشّاعر تميم بن المعزّ لدين الله الفاطمي".
• تعمل الآن على إعداد رسالة الدكتوراة في الأدب العربي حول الشّعر الفاطمي.
• معلّمة للّغة العربيّة في المدارس الثّانوية، مرشدة في قسم المناهج في وزارة التربية والتعليم.
• صدر لها مجموعة قصصيّة بعنوان " شقائق الأسيل"، عام 2007