كي لا ندوخَ !

2017-02-02
صار العالَمُ مسكوناً بالضجيج .
لستُ أعني هنا، ضجيجَ العربات والسابلة، في محتشَدات البشر، أمثال " مــــــيدان التحرير " في القاهرة، وشارع أكسفورد في لندن، واليونيون سكوَير في نيويورك، و" البلاكا " في أثينا ...
أعني بالضجيجِ، ما يضِجُّ في أذهاننا، أكثرَ من آذاننا :
مئات بل آلاف القنوات الفضائية، والمواقع، والإذاعات .
العناوين الرئيسة في الصحافة اليومية، المهتمّة بالإثارة أكثر من الإشارة .
رنين الهواتف الذي لا يكاد ينقطع .
بريد الحاسوب الذي يأتي بالغثّ أكثر من السمين .
الأحداث السياسيّة العنيفة حدَّ القتل المجّاني .
رؤية عالَمنا الأليف يتناثرُ، متفجِّراً، بين أيدينا ...
في مثل الدائرة الجهنميّة هذه : ماذا يفعل الفنّان ؟
ماذا  يفعل الناسُ الذين يريدون أن يقدِّموا ثماراً شهيّةً، لإخْوتِهم في البشريّةِ، أولئك الذين يستحقّون
 هذه الثمارَ، ويحتاجونها، كي يتنفّسوا طليقينَ، ويَحْيَوا طُلَقاءَ ؟
سؤالي : كيف ينجو الفنّان والمبدِعُ من هولِ هذا الضجيج، فيقدِّم للناس ما ينفع ويُسِرُّ ؟
*
أستعينُ بنفسي، وبمسعاي، وسبيلي إلى التعاملِ مع ما يُجْدِي  :
من الممكن جدّاً أن يحدِّدَ المرءُ دوائرَ اهتمامِه وانتباهِه، إذ بدون هذا التحديد يقع المرء، بسهولةٍ، في الحمْأةِ الشرّيرة، التي تكتم الأنفاسَ حدَّ الخنقِ والاختناق .
وثمّتَ وسائلُ بسيطة :
تلفزة أقلّ . مذياع أقلّ . صحيفة واحدة لا صحيفتان . ساعةٌ واحدةٌ للحاسوب ( إنْ كنت خارج التدوين ) . حديثٌ أقلُّ في السياسة مع الأصحاب، والنفسِ .
التقاطُ الجوهريِّ، لا المثيرِ، في ما يطْرأُ من شأنٍ عامٍّ .
*
لكنّ هناك أمراً عجيباً في الشفاءِ من الصخبِ غيرِ الـمُجْدي لحياتنا اليومية . الأمرُ هو بكل بساطةٍ :
الطبيعة .
الطبيعةُ أُمُّنا الرؤومُ، نستكين إليها، ونأنسُ بها . الطبيعةُ جُنَّتُنا وجَنّتُنا . وهي التي تعلِّمُنا ما نحسُّ فنفعل .
قبل أعوامٍ وأعوامٍ، وفي حديقة " اتحاد الأدباء " ببغداد ، كنت على مائدة الشاعر الراحل حسين مردان .
معروفٌ أن حسين مردان كان الشاعرَ الرجيمَ، بعد صدور ديوانه " قصائد عارية"، وهو الوحيدُ الذي حُكِمَ عليه بالسجن ( أيّامَ الملَكيّة ) مهدي الجواهري حوكِمَ أيضاً، لكن لجنةً من فقهاء اللغة أفتتْ بأن البيتَ الكافرَ " لكم الله واحداً وهو لاشكَّ أربعُ ": ليس بكافرٍ -
أعودُ إلى جلستي مع حسين مردان .
سألَني وهو يمسِّدُ ورقةً من نبتة وردٍ :
متى لمستَ ورقةً من شجرةٍ ، آخرَ مرّةٍ ؟
*
شطّ النيل . شطّ العرب . غابة النخل . غابة الصنوبر. الواحات . القنَوات . حقول القمح . حقول الذُّرة .
حقول اللافندر ( الخزامى ) وعبّاد الشمس . مشهد الغروب على البرّ الغربيّ . الفجرُ في عدَن . الموجُ المتكسِّرُ على كاسرات الموج في الإسكندريّة ... نهر الراين . شواطيء السَين . البحيرات المتجلِّدة في النمسا ... مرأى الأشجار وهي مقلوبة في الماء .
إلخ .
*
إلاّ أنّ الطبيعة وحدَها، لا تكفي لتهذيب الحاسّةِ والروح :
علينا بالموسيقى الرفيعة، والكتاب .
شخصيّاً؛ صرتُ أهتمُّ بالطبيعةِ، وأُحَدِّثُها، أكثرَ من اهتمامي بالناس وأحاديثهم في هذا الزمن المدوَّخِ
والمدوِّخ ...
أنا حريصٌ على سلامتي العقليّة !

لندن 28.07.2016




سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved